
جداتي.. من الكبيبة إلى الزيت والزعتر
ستدرك أيُّ أم تقرأ كلماتي أن الحياة مع طفل يرفض الأكل حياةٌ شاقةٌ تخلو من النظام والراحة، تكثر فيها الأسئلة والتجارب والانزعاج، وكثيرًا ما تنتهي باليأس والرضوخ لنوع الطعام الوحيد الذي يوافق عليه هذا الطفل، الذي عادةً ما يكون غير صحي، ونحن في زمن تُحاسب فيه الأم على كل لقمة تدخل أفواه أبنائها، نقيِّمها ونجلدها إذا لم تمتثل هذه اللقيمات للمعايير الرائعة والمستحيلة التي وضعناها لها!
لديَّ طفل أرهقني بشدة، منذ ولادته وأنا أعاني معه في مشربه ومأكله. تعددت محاولاتي معه بين الطعام المالح والحلو، والمقلي والمشوي، والأكلات التي عادة ما يحبُّها الأطفال، والاقتراحات من هنا وهناك، حتى فوجئت به، في زيارةٍ عائليةٍ، يلتهم أكلة كنت أظن ألَّا أحد سوى النساء في عائلتي يعرفها، وهي الكبيبة الزفتاوي، أو الكبيبة الغمراوي في تسمية أخرى.
نظرتُ إليه في اندهاش؛ كيف أعرف أن هذه الأكلة بالذات التي لم يرها ابني من قبل ستجذبه؟ بل إني لم أصنعها في غربتي هنا في بريطانيا لاقتناعي بصعوبتها، ولأن زوجي أيضًا لا يعرفها، وكأي زوجة مصرية أصيلة غالبًا ما أطبخ الأكلات التي يحبها وتعوّد عليها زوجي.
ثم أتى ابني بالكبيبة الغمراوي، وصرت أخصص يومًا في الشهر لصنعها بكمية كبيرة وتخزينها من أجله.
لم أكن آكل هذه الكبيبة اللذيذة إلا في بيوت عماتي الخمس اللاتي تربين في حي شبرا في القاهرة. لكن أمهم جدتي مفيدة وُلِدَت من سندبسط، إحدى قرى مركز زفتى بمحافظة الغربية، وتزوجت من جدي ابن قرية ميت يعيش التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية. تفصل بين القريتين مسافة قصيرة في الواقع.
بيت شبرا
انتقل الزوجان إلى القاهرة في أربعينيات القرن الماضي وأجَّرا بيتًا في شبرا سيكون محور حب وأحاديث عائلتي سنينَ طويلةً بعد ذلك، وحظِيَ أولاد عماتي وأعمامي الأكبر بقضاء بعض أو كثير من طفولتهم فيه وصنع القصص والذكريات بين جدرانه، أما أنا ابنة آخر العنقود بين ثمانية أبناء وبنات، فلم يحالفني الحظ في هذا الأمر.
لا أعرف إن كانت هذه الكبيبة من أكلات قرية جدتي أم جدي، أم أنها أكلة مشتركة بين القريتين، لكنها بالنسبة لنا جاءت من مطبخ جدتي مفيدة وما زلنا نأكلها جميعًا حتى اليوم.
غالبًا ما يحضر طبق الكبيبة في عزائم أيام الجمعة عند عمتي الكبيرة رئيفة بغض النظر عن نوعية باقي أصناف الطعام. طبق وفي للسفرة، يقبل عليه الجميع بجانب السلطة أو الطبيخ أو المحشي. كنت وما زلت أحب قضم قطعة من الكبيبة وأكلها، ثم أغطس الجزء المتبقي في ماء السلطة أو صلصة الطبيخ وألتهم بقيتها بهذه الطريقة، على عكس البعض الذين يحبونها مقرمشة، وهي مقلية، دون "تطريتها".
جعلتني الكبيبة أفكر كثيرًا في طفولتي وذكرياتي بل وربما كانت سببًا لأن تذكرني بعائلتي وأنا مغتربة
الكبيبة الغمراوي لمن لا يعرف ابنة عم كفتة الأرز المصرية، هي في الأصل نفس العجينة، لكن بدلًا من تكوينها على هيئة أصابع وقليها، نشكلها مثل أقراص الطعمية ونسلقها في قدر من الماء المغلي مع المنكهات المعتادة مثل البصل والطماطم والحبهان والفلفل الأسود الحَب، ثم نتركها تبرد ونغطسها في خليط كثيف من البيض والدقيق والماء والملح والفلفل حتى يغلف هذا الخليط كل قطعة تمامًا ونقليها في الزيت الساخن حتى تكوّن طبقة ذهبية مقرمشة وتملأ البيت برائحة شهية.
تختلف هذه الوصفة عما رأيته من طرق صناعة الكبيبة الغمراوي على يوتيوب، لكن هذه وصفة عائلتي، وأعترف أني لم أخبر أحدًا بها إلا واستغرب وأصابه الشك فيما يخص مذاقها، ولكن ما تناولها أحد عندي إلا وأعجب بها كثيرًا.
رابطة الكبيبة
لم أقابل جدتي مفيدة التي سمعتُ كثيرًا في طفولتي أنني أشبهها، وأحتفظ بصورتها في ظرف صغير داخل محفظتي؛ هي الصورة ذاتها بالأبيض والأسود التي كانت أراها معلقة في أغلب بيوت عماتي.
توفيت جدتي عام 1987. ولا أعرف لماذا كل هذا الارتباط بالسيدة التي لم أقابلها أبدًا، حتى أني أتذكر الدولاب الخشبي الكبير الذي فتحته إحدى عماتي ذات مرة وأنا طفلة وكان مليئًا بأثواب مفيدة الطويلة، وقصة أحد أبناء عماتي الذي قيل إنه كان يمسك بطرف ثوبها ويتبعها في كل مكان.
لحظتها تمنيت لو قابلتُ هذه المرأة قليلة الكلام التي يتحدث عنها الجميع، يتذكرونها بكل هذا الحب الغامر ولا يستطيعون نسيانها، والتي يفضل ابني اليوم طعامها.
لدى جدتي الفلسطينية دائمًا صحنان صغيران على رخامة مطبخها واحد لزيت الزيتون والآخر للزعتر جاهزان دائمًا من أجل تصبيرة
جعلتني الكبيبة أفكر كثيرًا في طفولتي وذكرياتي، بل وربما كانت سببًا لتذكيري بعائلتي وأنا مغتربة. أخبرتني إحدى عماتي على الهاتف ذات مرة أنها تتذكر ابني الصغير الآن كلما صنعت الكبيبة، ولم تكن تصدق أني أعدها له في إنجلترا.
أدركت أن الكثير من الطعام الذي أصنعه في البيت لعائلتي يربطنا جميعًا بمن تركناهم وبالأماكن التي أحببناها، فأنا أصنع المحشي على طريقة حماتي، أحاول اتباع خطواتها؛ تسبيك الصلصة وموازنة التوابل، بل إني حتى ألف الخضرة بإحكام في منشفة نظيفة بعد غسلها وأتركها تجف على رخامة المطبخ كما رأيت حماتي تفعل، وأقدم المحشي حين ينضج بأنواعه المختلفة مسكوبًا في صينية كبيرة كما تفعل هي أيضًا ونأكله بأصابعنا.
أشعر أن زوجي يعود طفلًا كلما فعلنا ذلك، يتشوق إليه طوال اليوم ويأكله ملهوفًا وهو شديد السخونة. صرت لا أحن لصنع المحشي أو تقديمه بأي طريقة أخرى. حتى ابنتي التي كنت أترك لها طبقًا منفصلًا حتى يبرد وتستطيع أكله صارت ترفض الطبق وتمد يدها معي أنا وأبيها في صينية المحشي.
في بيت أمي وأبي عادة ما تُرَصّ أصابع المحشي في أطباق صيني وتؤكل بالملاعق أو الشوك، وعادة ما يصنع بخلطة مختلفة لأن جدتي لأمي فلسطينية.
يطغى المطبخ الشامي على الكثير من أساليب جدتي وأمي في إعداد الطعام، لذلك تأثرت كثيرًا ذات مرة عندما قدمت لي سيدة أردنية كوبًا ساخنًا من شراب المريمية في إحدى التجمعات العربية التي حضرتها هنا في بريطانيا. أمسكت بالكوب الساخن وداعبت رائحة الأعشاب أنفي فشعرت أني سافرت عبر الأماكن والزمن، وقلت لها "فَكَّرنِي بريحة بيت ماما".
اليوم حين يغمرني الحنين بشدة تمتد يدي لزجاجة زيت الزيتون وعلبة الزعتر، وأصنع لنفسي منقوشة سهلة باستخدام خبز التورتيلا بدلًا من صنع منقوشة حقيقية، أشعر أنها تفي بالغرض مؤقتًا.
كنت محظوظة مرة أو مرتين وامتلكت في مطبخي زعترًا من الضفة الغربية، سافر عبر شبكة من الأقارب من الضفة إلى الأردن إلى مصر إلى إنجلترا، وكنت أحافظ عليه كالذهب وأستعمله بحساب، وحزنت حين نفد.
كان لدى جدتي الفلسطينية نائلة التي تبلغ من العمر 78 عامًا صحنان صغيران على رخامة مطبخها، واحد لزيت الزيتون والآخر للزعتر، جاهزان دائمًا من أجل تصبيرة أو عشاء خفيف.
سنية المصرية وابنتها نائلة
اختلفت حياة نائلة كثيرًا عن حياة مفيدة المستقرة. ولإرباكك أكثر أيها القارئ دعني أخبرك أن والدة نائلة كانت في الأصل مصرية. سنية المصرية، أم جدتي، تزوجت عام 1936 رجلًا فلسطينيًا من بيت الترتير، كان يقود القطار من اللد في فلسطين إلى القاهرة وهكذا تعرف على أبيها، وهاجرت سنية معه وحدها إلى اللد حيث أنجبت ثلاثة صبيان ثم جدتي.
لا أعرف كثيرًا عن هذه السنين الأولى، لكني كبرت وأنا أسمع من جدتي، ومن إخوانها مرات قليلة، عن اقتحام الجنود الإسرائيليين بيتهم عام 1948، وما تلى ذلك من عذاب للقلب.
كتبت جدتي بنفسها قصة أمها المؤلمة أثناء التهجير، ونشرها عبد الهادي مصباح في عموده بجريدة الأهرام المصرية "تحية إلى ست الحبايب" بتاريخ 22 مارس/آذار 2009.
مرت السنين وتزوجت جدتي نائلة في الستينيات رجلًا مصريًا من أقارب أمها البعيدين في مصر، شابًا طويلًا أسمر كَبُر في المحلة الكبرى في محافظة الغربية، ثم سكنت عائلته بيتًا في عابدين في القاهرة.
لم تكن حياة جدتي لينة، إذ تزوجت في عمر العشرين وأنجبت وهي لا تزال تدرس اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة عين شمس حتى تخرجت.
مات رضيعها الأول، ثم أنجبت خمسة أطفال بعده، وتغربت مع زوجها وعملت سنين طويلة داخل وخارج البيت، وكثيرًا ما صرعتها الحياة وكثيرًا ما قامت جدتي من جديد لتعاندها.
هذا عن جدتي نائلة، أما والدتها سنية فلم أسمع الكثير من الحكايات عنها، ولم أر ما تبقى من أغراضها غالبًا بسبب كثرة ترحال هذا النصف من العائلة، فقد كان جليًا لي مدى قسوة الحياة التي عاشتها، ومدى صلابتها رغم رقة قلبها.
مع ذلك أسمع دائمًا أمي تتحدث بحنين وعينين لامعتين عن طعم الأشياء التي كانت تصنعها لها جدتها سنية، فتتذكر مثلًا كيف كانت تقف على باب المطبخ تنتظر أن تنتهي جدتها من تسييح الزبدة لتحظى بالمورتة الطازجة وتغمسها بقطعة خبز.
طعام الذكريات
من جدة إلى جدة، أتذكر تذمر أمي أحيانًا من اضطراب نومي الذي رافق طفولتي، وكيف أن جدتي نائلة كانت تنهرها وتنام بجانبي أو تأخذني إلى فراشها لتتلو عليَّ آيات من القرآن أو تغني لي يلا تنام ريما حتى أغفو في سبات عميق، وبعد مرور سنوات كثيرة غنيتُ لابنتي الأغنية نفسها، مع تغيير الاسم، حتى تنام.
بل إني عندما حملت في ابنتي وأنا وحدي في إنجلترا، كان الوحم شديدًا والماء ويهيج معدتي، فوجدت ملاذي في أكل الجبنة النابلسية التي عثرت عليها في متجر تركي مع مكعبات من الطماطم، وأحيانًا بعض الحمص وخيار مخلل على الطريقة الشامية.
كنت أضع كل شيء في صحون صغيرة على صينية مدورة وآكل وأنا أشاهد التلفاز فأشعر بالطمأنينة وتستقر معدتي قليلًا، واليوم تحب ابنتي الصغيرة أن تصنع لها أمي الصفيحة والكبة الشامية والمعمول بالعجوة.
لكن هناك وجبة أحببتها من بيت جدتي لم تتذوقها ابنتي ولا ابني. في ليالٍ صيفية بعيدة في بيت جدتي أم أمي، وأنا صغيرة وجدي لا يزال على قيد الحياة وبعض من إخوة أمي لم يتزوجوا بعد، كانت كثيرًا ما تحضر جدتي طاولة عشاء عليها أصناف متنوعة تشبه طعام الفطور، لكنها كانت تضيف طبقًا دافئًا هو اللبنية.
لونها وردي مميز ويحتاج تحضيرها عدة مراحل؛ في البداية نسلق الأرز حتى يصير قوامه "معجنًا" قليلًا، ثم نسلق حبات الطماطم ونضربها في الخلاط ونصفيها ونضيفها على الأرز، وفي وعاء منفصل نقلّب زبادي مخلوطًا بملعقة نشا حتى يصبح كثيفًا ويوشك على الغليان، ثم نضيف إليه رشة ملح وخليط الأرز والطماطم، ونستمر في التقليب حتى يتجانس كل شيء، ثم نضيف "قدحة" سمنة وثوم.
نأكل اللبنية الطيبة بالخبز، وهي من الأطباق المفضلة لخالي الوحيد الذي كان يقرأ كل ما أكتب وأنا مراهقة، وأحب رؤيته كثيرًا اليوم رغم قلة حديثه. على أي حال، أنا لم أكن أحب اللبنية وأنا طفلة، بل اكتسبت حبي لها حين كبرت وأكلتها في بيت أمي مرات عديدة لاحقًا.
مثلَ كثير من البشر لم أكتشف سحر الأشياء إلا بعد فوات الأوان، واليوم تأتي صباحات وليالٍ كثيرة أشتاق فيها للبنية ولا أصنعها. يحزنني أن آكلها وحدي، وأتوق لمن يشاركني الرغيف وكوب الشاي والذكريات.