"لع يا ستي لو ما چبش التلاچة اللي نخبِّط على بابها الجِزاز تنوِّر مش عايزاه"، قالت الحفيدة مازحةً ردًا على سؤال الجدة حول تأخر زواج الفتاة التي تجاوزت الرابعة والعشرين.
تتحدث الحفيدة عن أحدث تطور في عالم الثلاجات، لكن لا تعرف ابنة شقيقتي أن جدتها لم تعرف الثلاجة، بل لم تعرف الكهرباء إلا بعد زواجها بعشرين عامًا، اعتمدت خلالها مثل جميع البيوت الصعيدية على ضوء اللمبة الجاز، والطهو على الكانون، وباجور الجاز .
لا تعرف الحفيدة ابنة جيل زد شكل هذه الأدوات التي رافقت جدتها أكثر من نصف قرن، فلم تعرف بيوتنا في الصعيد الأدوات الكهربائية إلا بعد دخول الكهرباء للقرى مع منتصف سبعينيات القرن العشرين، حينها عرف الصعايدة ثلاجة إيديال وبوتاجاز مصنع 360 الحربي. فقد بدأت شركة الدلتا الصناعية (إيديال) الحكومية إنتاج سلع ومنتجات معمرة محلية الصنع، مثل الأفران والثلاجات. وكان لا يخلو بيت في المدن على الأقل من ثلاجة إيديال وتليفزيون تليمصر الذي تصنعه مصانع النصر .
يا حر أبيب.. صار في بيتنا ثلاجة
ينقسم تاريخ بيتنا إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الثلاجة، وما بعدها. بقدوم الثلاجة لمنزلنا في قرية البرشا بمركز ملوي في المنيا سنة 1987، انتهى حزن أمي الذي كان يرافقها طوال الصيف على "الطبيخ الحامض"، وتوقفت عن تسخين الطعام لدرجة الغليان كل مساء ثم الانتظار إلى أن يبرد لتضعه في تشت ماء، أو تلف حوله الخيش المبلول لحفظه.
كانت عملية حفظ الطعام شاقة وغير مضمونة أيضًا، فتضطر أمي لإعادة تسخين الطعام في الصباح لنأكل منه وجبة الغداء، بعدها يفسد الطعام ويُلقى للطيور التي نربيها.
بينما في عصر ما بعد الثلاجة، أصبح بإمكان أمي الطبخ بكميات كبيرة كما تحب دائمًا، فلا تخشى أن يفسد الطعام، فكما تقول دائمًا "التلاچة موچودة". كانت أمي مثل كل الأمهات، تفضل أن يفيض الطعام، تخشى دومًا حضور ضيف وقت الأكل فلا تجد ما تقدمه له.
أذكر جيدًا اليوم الذي اشتراها فيه أبي، كنت ما زلت في السادسة من عمري، رغم ذلك ظلت تفاصيل الليلة محفورة في ذاكرتي، أسترجعها وأنا أقف حاليًا أحاول استعادة أشكال ملصقات الصور الدينية والآيات، التي محا الزمن والغسيل المتكرر معالمها.
"الساكن في ستر العلى في ظل القدير يبيت" بضعة أحرف من الآية استطعت تمييزها بصعوبة، جعلتني أتذكر شكل الملصق يوم وضعه أخي الأكبر وسؤالي وقتها عن معنى الآية.
أحببت هذه اللعبة مع ذاكرتي وثلاجتنا القديمة. هذه آثار الصليب الصغير الذي صنعته أختي بالـ"شكرتون"، الشريط اللاصق منزوع منذ زمن فيما آثار الصليب محفورة في صدر باب الثلاجة.
فوق المقبض الثلاجة المعدني كانت صورة الأنبا بيشوي، اشتريتها من الكنيسة الأثرية التي تحمل اسمه في "دير البرشا"، خلال المولد الذي يقام له كل عام في بؤونة، الشهر العاشر في التقويم القبطي، ويوافق يوليو/تموز. لم يتبق من الصورة سوى قدم المسيح، ويد القديس بيشوي. ماذا يحمل باب الثلاجة العتيق من ذكريات أخرى كنت اعتقدت أن مُحيت من ذاكرتي؟
ليلة عيد
كانت ليلة صيفية تداعبها نسمة تشجع طفلًا في سني للسهر، حتى يعود والده بعد منتصف الليل من أسيوط، كان أبي يسافر إلى مدينة أسيوط يومي السبت والأربعاء من كل أسبوع، ومعه سيارة نصف نقل محملة بصفائح "الجبنة الملواني" ليبيعها لدكاكين البقالة في المدينة العامرة.
هذه الليلة عاد أبي على غير العادة، قبل منتصف الليل. كنت وإخوتي نفترش الحُصر في فسحة بيتنا، عندما فج نور السيارة وهي تدخل حارتنا الضيقة، لنكتشف أن أبي باع بضاعته بالكامل لتاجر لديه محل لبيع الأجهزة الكهربائية.
بالنسبة لأمي كانت الثلاجة كل ما يهمها وحسدتها نساء شارعنا عليها
اشترى الرجل صفائح الجبنة كلها، وفي المقابل اشترى أبي منه ثلاجة إيديال 10 قدم بيضاء عملاقة بالنسبة لحجم طفل مثلي، وتليفزيون "تليمصر"، ومروحة مكتب ذهبية لم أرها في مكان آخر سوى بيتنا، من ماركة اسمها Masr، وليست تليمصر الشهيرة.
كانت ليلة عيد في بيتنا، فوجود ثلاجة وتليفزيون ومروحة في بيت بالصعيد عام 1986، في قرية دخلتها الكهرباء قبل عشر سنوات فقط، أمر يدعونا إلى الفخر جميعًا.
بالنسبة لأمي كانت الثلاجة كل ما يهمها، وحسدتها نساء شارعنا على الأمَلَة والراحة التي جاءت لها. فقد كانت المنازل التي دخلتها هذه الأجهزة في قريتنا قليلة جدًا وقتها، بل إنني أتذكر بيوتًا كثيرة في تلك الفترة وحتى نهاية التسعينيات، لم تدخلها الكهرباء من الأساس.
الجيران حول التليفزيون
كان بيتنا نقطة تجمع كل مساء لمشاهدة المسلسل، أو متابعة مباراة بين الأهلي والزمالك. لم يخل بيتنا من الأطفال طوال النهار لمشاهدة التليفزيون. كانت متعتهم الحقيقية البحلقة في هذا الصندوق العجيب.
أما أنا وأختي، فوظيفتنا تنظيم الصفوف المتراصة على أرضية الغرفة الإسمنتية، وصناعة ممر لأمي للعبور من وإلى الغرفة. المضحك أن بعض الصغار كانوا يغطّون في نوم عميق وهم يجلسون القرفصاء يشاهدون التليفزيون، وبعض الفتيات يأتين وهن يحملن إخوتهن الرضع على أكتافهن، يضعن الصغار في حجورهن ويتابعن التليفزيون.
قبل أن يمر عام على دخول التليفزيون بيتنا، توفي جدي لأبي. مات يوم عرض الحلقة الأخيرة من مسلسل غوايش إنتاج 1986، الذي كنت أحبه وما زلت. يومها همت على وجهي شاردًا في ربوع القرية، وبرفقتي كل الأطفال الذين تابعوا المسلسل في بيتنا طوال الحلقات الماضية، بحثًا عن بيت آخر فيه تليفزيون لمشاهدة التمثيلية.
هربت من صوت الصراخ والنواح، وجربت إحساس باقي الأطفال الذين احتضنهم تليفزيون بيتنا، فجلست للمرة الأولى في بيت غريب مثلهم. لكن إضافة إلى الخجل، خفت أن يعرف صاحب البيت أن جدي توفي اليوم، وأني هربت من البيت والبكاء لمشاهدة التمثيلية.
مجتمع القرية والثلاجة
كانت ثلاجة بيتنا تلعب دورًا محوريًا في حياة أسرتنا وشارعنا والحارات المحيطة، خصوصًا في أشهر الصيف شديدة الحرارة في المنيا. في زمن لم تدخل فيه المياه كل البيوت بعد، وكان الأهالي يعتمدون على الحنفية العمومية لجلب الماء وتخزينه، أو على طلمبات المياه التي كانت تنتشر في بيوتنا وشوارعنا.
كانت أمي تملأ ثلاجتنا بزجاجات وجراكن الماء وتعمل حساب كل جيراننا في بُقِّ مايه مرصرص بارد يطفئ ظمأ قيظ الصيف وناره. لكن يظل أجمل وأحب المشاهد لذاكرتي عن هذه الفترة، عندما توزع أمي أكياس وزجاجات الماء المثلج على جيراننا المسلمين في رمضان قبل الإفطار.
اليوم، انزوت ثلاجة بيتنا القديمة في ركن بحجرة أبي، تقف بجوار سريره الذي يرقد عليه أغلب يومه بسبب الشيخوخة والمرض، بعدما أصاب جسده الوهن، كأن الثلاجة تصر على مرافقته حتى النهاية. ورغم تقدم عمر الثلاجة وأبي وأمي، تظل تؤدي دورًا آخر في حياتهما فتحفظ علب الأدوية والحقن الخاصة بهما.
اندثرت ثلاجات إيديال وأصبحت تليفزيونات تليمصر من الماضي، لصالح المنتجات المستوردة التي تتطور بشكل سريع، وبالتالي فمن الطبيعي أن تطمح الحفيدة في ثلاجة عصرية تضيء باللمس، حتى لو كانت تعيش في قرية نائية في جنوب مصر.