ذات يوم دعاني صديق لقضاء يومين في قريته في الدقهلية، فوصلت في أول الليل، وما إن دخلت بيته الريفي حتى وجدت نفسي في القاهرة مجددًا؛ شقة في بيت من أربعة طوابق، مقسمة ومؤثثة كنظيراتها في المدينة، فلمَّا جيء بالطعام، لم أجد فيه أيَّ ريح للقرية.
تحولت القرية المصرية في العقود الأخيرة تحولًا ظاهرًا، زاد بنيانها رأسيًا بالحديد والأسمنت، وأفقيًا بالاقتطاع من الرقعة الزراعية، مع النمو السكاني المتواصل. اندمجت أكثر في الزمن المعاصر، بعد أن باتت الطريق مفتوحة أمام ساكنيها على العالم من خلال الإنترنت.
أنا من جيل عايش تحول القرية من حال استقرت عليه آلاف السنين، ولمَّا رأيتها تنجرف مع التحديث سارعت إلى بث الحنين إليها، واصفًا إياها في كتاب قصصي حمل عنوان عجائز البلدة صدر عام 2020.
ذهب المحراث البلدي الذي كان يجره ثور، وجاء الجديد المعلق في ذيل جرار زراعي، وذهبت المذراة الخشبية التي كانت تذُر الغلة، لتأتي آلات تفصل الحَبَّ عن التبن، واستولت العزاقة الآلية على دور الفأس، وميكنة الري على ما كان للطنبور والشادوف والساقية، وشاركت الموتورات والطائرات في رش المبيدات إلى جانب المقاومة اليدوية التي ساهمت فيها طفلًا.
كيف تغير نمط الحياة؟
ومع انتشار التعليم تغيرت هيئة الفلاح القديم، إذ صار خريجو المدارس الفنية والجامعات يكدحون في الحقول، لضيق الوظائف المتاحة أمامهم. وزحفت المتاجر الكبرى على أطراف القرى، فبات أهلها يرتادونها للتبضع بعدما اعتمدوا في هذا على الدكاكين الصغيرة سنوات طويلة.
تغيرت القرية ليس بفعل شرائح المتعلمين فقط، بل أيضًا في ركاب موجات الهجرة المتوالية لأبنائها، الذين تعاقبوا بالملايين على العمل في بلاد النفط على يمين مصر وشمالها، وأولئك الذين تمكنوا من العبور إلى أوروبا. ومكث هؤلاء سنوات في أماكن كدحهم الجديدة، يجمعون المال، ويعيدونه إلى أهلهم، أو يعودون به، ليشيدوا البيوت الفاخرة، ويغيروا أنماط العيش وطرائقه، بما يضع القرى على أبواب المدن، أو يحولها إلى مدن شائهة.
في السابق كان يمكن لمن يعيش في الريف أن يشكوا من الملل لكن أن يضج من الغربة فهذا ما لم يكن في الحسبان
كان الفلاحون يحرصون على النوم مبكرًا، ليستيقظوا مع النور الأول للفجر. ساعد في الحرص على التبكير أن الأسباب التي تدعو إلى السهر لم تكن سخية، فلا تليفزيون ولا إنترنت، أما اليوم، فدخل أهل القرى إلى حيز الأرق الإلكتروني شأن أهل المدن، وانتشرت المقاهي تنادي زبائنها، فينام أكثر أبناء القرى في الهزيع الأخير من الليل.
لم تعد القرى تنتج ما يكفيها، وتحرص على وجود ما يفيض عن حاجتها فتحمله النسوة في القفف إلى أسواق البنادر. فاليوم استغنت بعض البيوت عن حظائر البهائم، ولا تفكر كل النساء في تربية الطيور المنزلية بأخنان تعتلي السطوح أو في حظيرة بكل بيت، ولا يفكرن كثيرًا في الجلوس أمام أفران الخبيز. ومع زحف القرى نحو البنادر أصبح الوصول سريعًا إلى المطاعم التي تقدم الأكلات الجاهزة، وهناك مطاعم قامت بالفعل في القرية، ولم يعد الناس يرون في ارتيادها نوعًا من العيب.
في السابق كان كثير من الفلاحين يفكرون في تحقيق الاكتفاء من الحبوب من حقولهم. وكان بعضهم يزرع على أطراف الغيطان خضروات يحملونها إلى المنزل للطبخ. الآن تنجذب أذهانهم إلى زراعة ما يدر عليهم المال، وبعضهم يؤجر أرضه لمن يسعى في هذا السبيل، بل إن بعض مصانع الخضروات والعصائر والألبان والأجبان تمدهم بأموال مقابل الحصول على ما تنتجه الأرض كاملًا في مواسم الحصاد.
جرح القيم والعادات
وجرف التغير أمامه الكثير من التقاليد والطقوس في الأفراح والأتراح، فبعد أن كانت الأفراح تقام أمام البيوت، صارت تقام في قاعات مجهزة، وبعد أن كان الفرحون يتغنون بأغنيات شعبية، موزعة على الرجال والنساء، صاروا يستعينون بمطربين شعبيين، أو يطلقون أغاني عبر DJ يصفقون وراءه، ويغنون ويرقصون معه.
وتقلصت طقوس العزاء، فبعض الناس ينزلون على آراء تبنتها جماعات دينية متسلفة فيستقبلون العزاء على القبور، بعد أن كان أهل الميت يضعون الدكك الخشبية أمام البيوت لاستقبال المعزين. لم ينته كل هذا إنما بعضه لم يعد موجودًا. أما الذي يتغير بسرعة شديدة هو استبدال القبور التي يدفن فيها كل ميت على حدة إلى منامات جماعية لكل أسرة، تلملم فيها عظام القدامى مفسحة طريقًا للميتين الجدد.
صار أبناء الريف ينافسون أبناء البنادر في الأزياء. فالمتعلمون يتخلون تباعًا عن الجلباب، والفتيات المتعلمات صرن يرتدين أزياء بنات البندر، فيما تغيرت هيئة الجلابيب التي كانت ترتديها الفلاحات.
واختفت الألعاب الشعبية تباعًا، وبعضها كان يحلو بالنهار في أوقات الفراغ من الدراسة أو الكدح في الحقول، وأخرى كانت تحلو في الليالي القمرية أو حتى المعتمة.
تقلصت مع هذا قدرة الأطفال على إبداع ألعابهم، وتطويرها، وصار الآباء يشترون لُعبًا جاهزة لا سيما مع زحف اللعب الصينية إلى السوق المصرية، ثم راحت الألعاب الإلكترونية تشغل حيزًا ينمو دون توقف، حتى صارت الألعاب القديمة نسيًا منسيًا عن أطفال الجيل الجديد.
ومع التحول في طرائق العيش جُرحت الكثير من القيم التي كانت سائدة من قبل. فنمو عمران القرى جعل بعضهم لا يعرف البعض، بينما كان العجائز في الزمن الذي مضى يعرفون أسماء وهيئات الذين يحبون في الشوارع، أو تدب أقدامهم الصغيرة في صحون البيوت. وكان للكبار دور في الضبط الاجتماعي لسلوك الصغار، الكل متفق عليه، وراضٍ به. اليوم صار الناس يضيقون بتدخل أحد في شأن أولادهم، وتندلع لهذا مشاجرات بين حين وآخر.
تأثرت روح المشاركة كثيرًا، فمثلًا كان الذي هو على سفر لعمل في الخارج أو تجنيد في الجيش يستقبل ليلة السفر كثيرين يتزاحم بهم بيته ليودعوه. اليوم يفاجأ الناس صبحًا برحيل أحدهم ليلة الأمس، بل هناك من يخفي سفره عن الآخرين، ليخفف مما يراه حسدًا أو طمعًا.
وكانت النسوة تتشارك في الخبيز، فتتوافر لديهن ساعات من تبادل الحكايات والأخبار. وكان الرجال يتعاونون في زراعة الأرض تعويضًا عن ضيق ذات اليد في كراء أجراء. اليوم تلتقط كل امرأة خبزها من الفرن الآلي، ويكدح كل رجل وحيدًا، أو مع أبنائه، في حقله.
في السابق كان الفرق في الأطعمة بين الموسرين والغلابة ليس كبيرًا، فالكل يأكل الأصناف نفسها، وإن اختلفت مرات تناول اللحوم الحمراء والبيضاء من أسرة إلى أخرى. اليوم عرف وجهاء الريف طريقهم لأطعمة مختلفة، تمكنهم أموالهم من تجهيزها، إما تأثرًا بما هو في البندر، أو بفعل الإنصات إلى برامج الطبخ في التليفزيون، لا سيما أن بعض فتيات البندر تزوجن في الريف، ليجدن فيه بيوتًا مجهزة أحيانًا أفضل من بيوت آبائهن في الأحياء الشعبية والشوارع الخلفية.
وبعض أبناء الأسر الريفية استقروا في البنادر، دون أن يقطعوا الصلة بأهلهم في القرى، حتى أن بعض الأسر انقسمت بين المكانين، تتبادل الزيارات والخبرات، فلم يعد لأي منها أن يندهش كما حدث لبطل قصة يوسف إدريس مشوار الذي ظل طوال الوقت يصف حي الضاهر بالقاهرة الذي حل فيه خلال فترة تدريبه كمتطوع في الداخلية، أو كما حدث لبعض أبطال رواية عزت القمحاوي بيت الديب الذين جاءوا من قرية بسيطة تمددت على نواة من أعشاش وأكواخ حين وصلوا إلى الزقازيق، واندهش بعضهم أكثر حين رأى القاهرة.
لبس الريف المصري قشرة حداثة، هي أشبه بطلاء فاقع، بينما بقيت الجدران على حالها تئن تحت وطأة هلاك ينخر الأرواح، ويعبث بالقيم. صرنا أمام قرى أشبه بمدن مشوهة، تنافس ظاهرة "ترييف المدن" في الحال والمآل، وأصبحنا أمام تحولات فقدت قانون التطور الطبيعي، وجلبت الاغتراب الذي غاب عن أهل الريف قرونًا طويلة.
إن آخر مكان كان المرء يعتقد أن بعض أهله سيعانون من الغربة هو القرية. ففي السابق كان يمكن لمن يعيش في الريف أن يشكوا من ضيق ذات اليد، أو من الملل والرتابة، لكن أن يضج من الغربة، فهذا ما لم يكن في الحسبان.