في كلِّ عام خلال الشهر المبارك، تشهد السوشيال ميديا حربًا وديةً تُستخدم فيها وسائل المعارك الافتراضية التي لا تخلو من خفة الدم والطرافة، من ميمز ومقاطع فيديو، لإثبات هوية طبق من أطباق موائد رمضان.
حروب تمتد حتى بين أبناء البلد الواحد باختلاف الأقاليم، فها هي الإسكندرية تتصدى للدفاع عن الفتة البيضاء، فيما يشن أهالي القاهرة هجومًا مضادًا لإثبات أنَّها لا تكون فتة إلا بالصلصة الحمراء. وتتسع دائرة الخلاف إلى خارج الحدود، فيدافع أهل الصعيد عن البامية ويكا، بينما يصرخ اللبنانيون احتجاجًا على تقطيع حبة البامية وإخراج مكوناتها اللزجة في الطبق! أما إن أتاك حديث الملوخية، فلا أستبعد أن تُراق الدماء الافتراضية في العالم العربي برمته، كله إلا الملوخية!
لكننا في النهاية نتقبل تلك الاختلافات التي تصنع الفرق بين محتويات أطباقنا، ثم نذهب بطيب خاطر لمطعم المندي اليمني في مدينة 6 أكتوبر، أو نستمتع بالكشري المصري في شارع الحمرا في بيروت. كما سنحاول في لحظة تجلٍّ أن نُعِدَّ تلك الأطباق بأنفسنا، وقد ندخل عليها بعض التعديلات التي تتناسب مع ذائقتنا وعاداتنا في الأكل، على أن يظل الاعتراف بيمنية المندي ومصرية الكشري.
هذه العملية البسيطة في تبادل الشعوب لوصفات الأكلات المتنوعة تسمى في علم الاجتماع بالتثاقف؛ حين يتبادل البشر العناصر الثقافية لمجتمعاتهم كما هي أو يعدِّلون عليها. إنها عملية طالما أغنت المحتوى الثقافي ليس فقط على مستوى الوصفات الشهية، بل في كلِّ مناحي الحياة الثقافية ومفرداتها من فنون وآداب وملبس ولغة، لآخر الجدول في مكونات الهوية الثقافية.
لكنَّ الحرب الحقيقية ستأخذ أبعادًا أعمق من مجرد مزحات نتبادلها بودٍّ حول اختلافاتنا، حين يصل الأمر إلى سرقة المُكوِّن الثقافي وادعاء امتلاكه كإرثٍ تداولته الأجيال، وترويجه باعتباره "ملكية خاصة" في سياق صراع وحرب لإثبات الهوية، بما تعنيه في منطقتنا.
افتح يا سمسم
طبق الحمص البسيط إياه؛ رفيق موائد الناس على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، القادم بأصله التاريخي من جنوب غرب آسيا، التي تشمل ما كان يعرف ببلاد الشام من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، إلى جانب العراق وغيره من دول المنطقة. كان النبات يزرع بكثافة تكفي للاستهلاك المحلي. وورد ذكره في المراجع للمرة الأولى في القرن الثالث عشر في كتاب "من القاهرة".
كلمة السر الشهيرة التي استخدمها علي بابا لفتح باب المغارة في كتاب ألف ليلة وليلة، مستوحاة من حبة السمسم في كامل نضجها، لتنفتح بمجرد الضغط عليها فتنضح بالزيت الوفير، الكنز.
قد نتمكن من استعادة هويتنا ونشرها في عملية تثاقف سلسة عندما ندرك أهميتها ونتوقف عن الخجل منها
عُرف هذا المكون الغذائي في الهند قبل خمسة آلاف عام، وانتشر منها إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، وكان من الزراعات الأساسية في سوريا وبلاد الشام، حتى أدخلت عائلات الطبقة المتوسطة "عجينته"، الطحينة كما نُسميها اليوم، على طبق الحمص، ليأخذ شكله وطعمه الذي نعرف، ويصبح الحمص بالطحينة بألف لام التعريف!
تلك الرحلة التي قطعها هذا الطبق البسيط أوصلته إلى أرفف المحلات والمطاعم في الولايات المتحدة وأوروبا، في أفضل مثال على عملية التثاقف التي تحدث تلقائيًا بين المجتمعات، رغم رفضنا للحمص بالشوكولاتة! ليسجل في مجمل مبيعاته حول العالم مليارين ونصف المليار دولار عام 2020.
لم يتوقع الطبق المسكين أن يكون محلَّ صراعٍ ثقافيٍّ لإثبات الهوية، وورقةً في صراع سياسي دائر في المنطقة لعقود، ثم رمزًا للاستحواذ الثقافي في عصرنا الحديث. والاستحواذ الثقافي هو هيمنة مجموعة من الناس على ثقافة مجموعة أخرى مستضعفة ومقموعة، وسرقة مكونات تلك الثقافة وادعاء ملكيتها.
هل يذكركم هذا التعريف ببلد ما؟
قد لا نتوافق على أن "فاقد الشيء لا يعطيه"، ولكننا سنتفق على أنَّ بإمكانه سرقته ونسبه لنفسه. كما تفعل إسرائيل في حربها المستمرة على كلِّ الجبهات، لخلق هوية مزيفة تبرر وجودها كجسم غريب في خاصرة الشرق الأوسط؛ من الاحتلال والاستحواذ على الأراضي والبيوت والمقدسات إلى محاولة تجريد الفلسطينيين وشعوب المنطقة من جذورهم الثقافية الضاربة في القدم.
لكن دعونا نتفق على صحة المثل الشعبي "المال السايب يعلم السرقة"، لم يتنبه العرب لمعركة الاستحواذ الثقافي الدائرة إلا بعدما نجحت آلة الإعلام الإسرائيلية وسياسة التسويق الناجحة التي تتبعها، في نسب الحمص ووصفات أخرى إلى الثقافة الإسرائيلية في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
هذا ليس مرده فقط "شطارة" الإسرائيليين، بل أيضًا تراخينا في التسويق لأنفسنا وثقافتنا والاعتزاز بها وتوثيق أصولها وجذورها، كما يفعل الخصم.
على العكس، فإننا غالبًا ما نخجل من ثقافتنا وأطباقنا وموسيقانا ورقصنا، ونسعى إلى تبني كلِّ وافد غريب علينا، باعتباره الأفضل، لنقع ضحية الاستحواذ الثقافي الذي ينجح في إقناعنا مثلًا بأن شطيرة البرجر أشهى من الطعمية، وأنَّ الرقص الشرقي عيب وحرام، فيما تُفتح مدارسه الخاصة في كل بقاع الأرض!
قد نتمكن من استعادة هويتنا ونشرها في عملية تثاقف سلسة، تحفظ تاريخ الإرث وتضيف إليه، حينما ندرك أهمية هذه الهوية، وحين لا نخجل من مكوناتها وننبذها، وحين نُسخِّر إمكانياتنا الهائلة لترويج هذه الثقافة بنفس أدوات الخصم، والاستفادة من الفرص الضائعة.
الفراغ يغري بالامتلاء، دعونا نملأ الفراغ بمفردات هويتنا، بمقامنا الشرقي وبرقصنا الشرقي، بملوخيتنا المُخرَّطة أو الورق، بصحن البامية الويكا والحمص بالطحينة الشهي، قبل فوات الأوان.