منشور
الجمعة 26 يناير 2024
- آخر تحديث
الجمعة 26 يناير 2024
في المشهد المؤلم لسقوطه في فيلم الأسد الملك، لا يجد موفاسا اليائس عزاءً سوى يد أخيه، سكار، الذي تحدد خيانته مصير الملك المأساوي. يضطر الملك بعد أن سقط من منحرف عال أفقده السيطرة إلى طلب الخلاص من اليد نفسها التي تدفعه إلى الحافة، في استعارة مؤثرة لأولئك الذين يتصارعون مع خيارات خارجة عن إرادتهم في محاولتهم البقاء.
تتماهى هذه الصور المثيرة للذكريات مع محنة شعوب منطقتنا التي تترنح على حافة عدم اليقين السياسي والاضطرابات الاقتصادية. نجسِّد جوهر "شعوب الحافة" غير القادرين على اختيار قارب نجاتهم، ويمدون أيديهم يطلبون المساعدة من جهات غير متوقعة.
تقدِّم الحرب الإسرائيلية الدائرة على غزة وشعبها منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر مثالًا لخيارات "شعوب الحافة"، ما بين التشبث بحافة الجرف، ومحاولة النجاة مهما علت التكلفة الإنسانية والسياسية، حتى لو كانت هاوية معتمة كتلك التي ابتلعت الأسد الملك.
لا تمتلك غزة "حدودًا دوليةً" مع جيرانها فهي ليست دولة، بل قطاع يحاصر فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من مليوني شخص يعيشون في ثالث أكثر منطقة متكدسة في العالم.
لديها فقط "معابر" تخضع لمراقبة الاحتلال على مدار الساعة، ومحكومة بقوانين الدول الجارة التي تتحكم بفتح المعابر وإغلاقها بما يتوافق مع مصالحها السياسية وأمنها القومي. كما أنها لا تملك نظام حكم أو مؤسسات حكومية بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما هي إدارة محلية من قبل حكومة مستحدثة بحكم الأمر الواقع، دون انتخابات أو مشاركة شعبية فاعلة في صنع القرار.
على الهامش؛ كم تبدو الديمقراطية والانتخابات أفكارًا هزلية في هذا السياق العبثي لشعوب الحافة!
الجهة الجنوبية
يبدو المشهد لدى الجارة الجنوبية، مصر، أكثر ارتباكًا من أيِّ عهد مضى في التعامل مع القضية الفلسطينية وملف غزة تحديدًا.
وذلك بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية لدى صانعي القرار في مصر، وحتى في إسرائيل والولايات المتحدة، حول مصير هذه الحرب، ما نتج عنه غياب موقف مبدئي منها، كما عهدنا في القرارات المصرية في العهود السابقة.
في المقابل، تأتي المواقف الشعبية في أغلبيتها داعمة لحق الفلسطينيين وأهل غزة، وتدعو لنصرتهم بكل الوسائل المتاحة، وهي للأسف ليست بالكثيرة.
لكن هناك تيارًا آخر بدأت تتسع دائرته ليس في مصر وحسب، يدعو إلى التركيز على الهم الداخلي والمشكلات السياسية والاقتصادية التي تواجهها البلاد، والاكتفاء بما يمكن تقديمه على الصعيد الإنساني، أسوة بكثير من الدول التي لم تشتبك سياسيًا بشكل مباشر في الحرب الدائرة.
الجهة الشمالية
مصدر القلق الإسرائيلي. ووجهةٌ كانت تشكل أملًا لمن يدعون لاستمرار المقاومة المسلحة والمواجهات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، انطلاقًا من الجبهة الشمالية والجار اللبناني.
يبدو المشهد في لبنان وعلاقته مع ملف غزة أكثر تركيبًا. فنحن حيال بلد يشهد فراغًا رئاسيًا وتديره حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، ويشهد واحدة من أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية على مستوى العالم بحسب المنظمات الدولية. تحكمه ميليشيا حزب الله، الجهة التي تمتلك السلاح في لبنان ويمتلك زعيمها حسن نصر الله قرار الحرب أو السلم.
ربما يكون خلاصنا جميعًا في أيادي الشعوب الأخرى الممتدة في الهواء تبحث عن خلاصها هي
ولطالما ارتهن القرار السياسي في لبنان بتوازنات القوى في المنطقة، وفي الفترة الحالية تشكل إيران رمانة الميزان في الموقف اللبناني من الحرب على غزة وغيرها من الملفات المصيرية.
يعكس هذا الارتهان الخارجي انقسامًا اجتماعيًا لبنانيًا، بين خيار للمقاومة بالمواجهة الشاملة "المؤجلة"، وخيار آخر لشعب يعاني من ثقل الأزمة الاقتصادية والفراغ المؤسساتي، وتُرك ليدبر أمره، بعدم الاشتباك كيلا يحمل هذا البلد المفكك وزر حرب تأتي على آخر ما بقي منه.
شعب آخر يعلِّق يدًا بالحافة والأخرى تطلب النجاة، لكنَّ "سكار" بالمرصاد.
الجار البعيد
لم يكن الجار البعيد أكثر بُعدًا مما هو عليه اليوم، فلم تتبنَّ الدول العربية النفطية في أيِّ مراحل سابقة مواقف أكثر سيولة من مواقفها الحالية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة.
دول بإمكانها تشكيل عامل ضغط دولي وازن لما تمتلكه من قوة اقتصادية وسياسية قادرة على تغيير دفة الأحداث، أو على الأقل الحد من فجاجتها والوقوف وراء مطلب واحد بوقف إطلاق النار فورًا، مطلب يكون شرطًا لضمان مصالح الدول الكبرى.
ربما يقول قائل إن هذا سذاجة بالحسابات الجيوسياسية، التي ترى في الأهداف ما هو أبعد من مجرد مطلب إنساني بإنقاذ حياة آلاف الأبرياء.
هذه الدول جزء من منظومة كبرى لديها توجهات استراتيجية مستقبلية مبينة على تصور أنَّ سواد المصالح الاقتصادية المشتركة سيكون كفيلًا بخلق بيئة مناسبة لطرد النزاعات، من خلال رؤية تنموية لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب أو معاناتها، ما دامت رؤى المستقبل ستضمن حياة "الرفاه لمن يقدرون عليها" فلا بأس من تقديم بعض التضحيات.
ربما لا نحتاج نحن "شعوب الحافة" أن تمتد لنا يد الخلاص من الفراغ أو من أمثال سكار، شقيق الملك الأسد! ربما تكون أيادي الشعوب الأخرى الممتدة في الهواء تبحث عن خلاصها، هي خلاصنا جميعًا، في سلسلة بشرية طويلة من الأيادي الممتدة، تُآزر بعضها بعضًا إلى أن تتجاوز الحافة، لنقف للمرة الأولى على أرض صلبة غير معلقين في الهواء.