ما هي إلا أيام على إعلان أديس أبابا بدء عملية الملء الثالث لسد النهضة خلال شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول المقبلين، بقرار أحادي ودون الرجوع لدولتي المصب، حتى فاجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي الرأي العام بتصريح أكد فيه أن مصر لن تدخل في صراع من أجل زيادة حصتها من مياه النيل.
في نهاية الشهر الماضي أقر مدير سد النهضة الإثيوبي كيفلي هورو باحتمال تأثر مصر والسودان بعمليات ملء السد، كاشفًا أن عملية الملء الثالث ستبدأ في أغسطس وسبتمبر المقبلين.
ورغم التأثيرات المحتملة على دولتي المصب، استبعد هورو إيقاف عملية الملء تحت أي ظرف معتبرا أنها "عملية تلقائية"، واصفًا الحديث المتكرر عن مخاطر السد واحتمال انهياره بأنه "غير صحيح"، وأشار إلى أن بلاده تبادلت المعلومات حول السد مع مصر والسودان، وأن التصريحات الواردة من البلدين بشأن خطورة وتأثيرات السد "لا تعني إثيوبيا".
وفي الوقت الذي أدانت فيه الخارجية السودانية تصريحات مدير مشروع سد النهضة "غير المسؤولة" والتي تجاهلت موقف الخرطوم الثابت الرافض لعملية ملء وتشغيل السد إلا بعد التوصل إلى "اتفاق قانوني منصف وملزم يحقق مصالح شعوب الدول الثلاث"، التزمت مصر الصمت ولم يصدر عن مسؤوليها أي بيان أو تصريح يدين القرار الإثيوبي الأحادي الذي أعلنته أديس أبابا دون التشاور مع حكومتي دولتي المصب.
وعلى قدر حالة الاحتفاء التي صاحبت تحذيرات السيسي العام الماضي من المساس بحصة مصر التاريخية، إذ اعتبر المساس بها "خطًا أحمر سيكون له تأثير على استقرار المنطقة بالكامل"، جاءت حالة الإحباط التي ضربت الرأي العام المصري بعد تصريحاته الأخيرة التي أكد فيها أن مصر لن تدخل في صراع مع أشقائها الأفارقة من أجل زيادة حصتها من المياه.
السيسي قال خلال حضوره فعاليات المؤتمر الطبي الإفريقي الأول قبل أيام إن "حصة مصر من مياه النيل تقدَّر بـ55 مليار متر مكعب، ولم تتغير على مدار السنين، منذ أن كان عدد السكان ثلاثة ملايين نسمة وحتى الآن"، مشددًا على أن مصر لن تدخل في صراع مع أشقائها الأفارقة من أجل زيادة هذه الحصة، "إذا كان هناك تحدٍّ في القارة الأفريقية... فهي قادرة بالإخلاص على تجاوزه".
وشرح الرئيس كيف تمكنت مصر في الفترة الماضية من الاستفادة من المحنة وعملت على إقامة مشروعات معالجة مياه الصرف وتحلية مياه البحر ما جعلها الأولى أو الثانية عالميًا في هذا المجال.
التصريحات الأخيرة والتي وُصفت بأنها عملية "تبريد لملف سد النهضة"، تناقضت مع مسار "التسخين" الذي انتهجته مصر العام الماضي عندما حملت مواقف وتصريحات مسؤوليها تهديدات وتحذيرات شعر منها الرأي العام أن ضرب السد الإثيوبي صار على مرمى خطوات قليلة.
"أمن مصر القومي خط أحمر لا يمكن اجتيازه، شاء من شاء وأبى من أبى"، قالها السيسي في يونيو/ حزيران الماضي في استاد القاهرة على وقع هتافات الجماهير التي تطالبه بتوجيه ضربة للسد الإثيوبي، وأكد الرئيس حينها متفاعلًا مع تلك الدعوات بأن لدى مصر "خيارات عديدة للحفاظ على أمنها القومي وستستخدمها وفقًا لما يتناسب مع الموقف وتوقيته".
السيسي متحدثًا العام الماضي في استاد القاهرة عن حماية الأمن القومي لمصر
بدا من موقف السيسي الأخير أن مصر أعادت سيف "ضربة سد النهضة" الذي أشهرته العام الماضي إلى غمده، وأن حكومتها التي تبحث عن حلول ودعم لأزمتها الاقتصادية رجحت كفة التهدئة، وبلغ الهدوء مداه بصمتها على إعلان إثيوبيا بدء المرحلة الثالثة من ملء السد دون الرجوع إليها.
"مواقف وتصريحات السيسي السابقة والتي تم تفسيرها على أنها إعلان حرب، لا تصلح لتلك المرحلة التي تتصاعد فيها التوترات العالمية إثر الحرب الروسية على أوكرانيا وارتداداتها الاقتصادية"، هكذا يفسر مصدر مقرب من دوائر اتخاذ القرار الموقف المصري الأخير، مشيرًا إلى أن الرئيس يدرك جيدًا طبيعة المتغيرات التي طرأت على المشهد الدولي والإقليمي.
ويرى المصدر أن التلويح بتوجيه ضربة عسكرية إلى سد النهضة في ظل اشتعال الأوضاع في العالم لا يصب في صالح مصر، مضيفًا "لا يعرف أحد إلي أي مدى قد يقودنا التصعيد"، ويضرب مثلًا بما جرى مع روسيا التي قررت التدخل عسكريًا للحفاظ على مصالحها وأمنها القومي وظنت أنها ستحسم أمورها وتحقق أهدافها سريعًا، فإذ بها تجد نفسها في مستنقع لا تعرف متى أو كيف ستخرج منه.
مع ذلك يقر المصدر بقدرة الروس على تحمل وامتصاص العقوبات الاقتصادية التي فرضها عليهم الغرب، في المقابل "لو بادرت مصر بتوجيه ضربة للسد الإثيوبي فلن تستطيع تحمل العواقب خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وهو ما يدركه السيسي جيدا لذا اختار لغة التهدئة بديلًا عن التصعيد في هذه المرحلة التي تعاني فيها مصر من أزمات".
ووفق ما يشرح مصدر دبلوماسي لكاتب المقال، فإن السلطة المصرية لا تريد تسخين الأجواء قبل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة الشهر المقبل والتي من المفترض أن يلتقي فيها بقادة دول التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، ويشير المصدر إلى أن القاهرة تُبدي اهتمامًا كبيرًا بهذه الزيارة وتتوقع أن تفكك خلالها عددًا من الأزمات العالقة مع الإدارة الأمريكية، والتي تسعى مصر إلى ضمان دعمها لموقفها من قضية سد النهضة أسوة بما تلقته من دعم من إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
لكن يبدو أن إدارة بايدن تُفضل ألا تكون طرفًا في أزمة سد النهضة، فحل الأزمة يجب أن "يصدر من عواصم الأطراف الثلاثة" على ما صرح صامويل وربيرج، المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية في فبراير/ شباط الماضي، مشيرًا إلى عدم قدرة أي طرف خارجي على فرض الحل على أي دولة.
قبيل أسابيع من عملية الملء الثاني لسد النهضة في العام الماضي حذّر وزير الري المصري محمد عبد العاطي من أن أي نقص في موارد مصر المائية سوف يتسبب في أضرار جسمية، مشيرًا إلى أن مصر تعد من أعلى الدول جفافًا في العالم وتعاني من الشح المائي.
وقال عبد العاطي خلال اجتماع تحضيري لمؤتمر الأمم المتحدة لمراجعة نصف العقد الخاص بالمياه والذي نظمته الحكومة الألمانية حينها إن "نقص مليار متر مكعب من المياه سيتسبب في فقدان مئتي ألف أسرة لمصدر رزقهم الرئيسي في الزراعة، وهو ما يعني تضرر مليون مواطن من أفراد هذه الأسر"، موضحا أن قطاع الزراعة في مصر يعمل به 40 مليون نسمة على الأقل، وبالتالي فإن "أي نقص في الموارد المائية ستكون له انعكاسات سلبية ضخمة على نسبة كبيرة من سكان مصر".
وزير المياه المصري كان يحاول حشد رأي عام دولي ضد الموقف الإثيوبي المتعنت، وراهن كما راهنت حكومته على أن دول العالم ستتعامل مع تحذيرات مصر ومخاوفها بجدية أكثر، لكن رهان الوزير خسر؛ فالعالم لا يعرف سوى لغة المصالح، فلا يتأثر ويتدخل إلا للحفاظ عليها، وفيما يبدو أن مصر ومعها السودان لم يقنعا دول العالم بأن مصالحه في هذه المنطقة معرضة للخطر إذا استمر في تجاهل أزمتهما المحتدمة مع إثيوبيا.
المعطيات على الأرض تشير إلى أن إثيوبيا وكما حسمت الجولتين السابقتين من صراع ملء وتشغيل السد، ستحسم الثالثة، في ظل تراجع موقف دولتي المصب، وانشغال المجتمع الدولي بالحرب الروسية في أوكرانيا.
ومع إتمام تلك الجولة من الملء، سيصبح السد أمرًا واقعًا استطاعت إثيوبيا فرضه، لتؤكد لباقي الأطراف أنها صاحبة الحق الحصري في المياه التي تسقط على أراضيها، ووفقا لتلك الرؤية فستحقق أديس أبابا هدفها بالتحكم في محبس النهر من المنبع لتمنح وتمنع وفق إرادتها، وربما تسعر المياه وتعرضها للبيع، وعلى من يحتاج دفع الثمن الذي تحدده، على ما ألمح دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية العام الماضي في مداخلة مع قناة الجزيرة القطرية.
خلال 10 سنوات حاولت مصر والسودان عبر القنوات التفاوضية الضغط على أديس أبابا للتوصل إلى "اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل السد"، في تلك الفترة عمد الطرف الإثيوبي إلى أسلوب المراوغة حتى حقق مراده، فأكمل بناء السد وتهرب من ضغوط إدارة ترامب التي كانت على وشك إقناع الأطراف الثلاثة بتوقيع وثيقة تتضمن حل 90% من المسائل العالقة، واحتال على دعوة مجلس الأمن باستئناف التفاوض برعاية الاتحاد الإفريقي، واستغل انشغال المجتمع الدولي بالصراع في شرق أوروبا حتى صار السد أمرًا واقعًا وعلى المتضرر البحث عن سُبل أخرى لتعويض خسائره من النقص المنتظر للمياه.
الحلول التي تلجأ إليها مصر سواء بإقامة مشروعات تعويض النقص المتوقع من مياه النيل أو بمحاولة إقناع الإدارة الأمريكية باستخدام نفوذها للضغط على إثيوبيا، هي حلول لا يلجأ إليها إلا من قرر رفع الراية البيضاء بعد أن استنفد أو أهدر كل أسلحته وأدواته.. فهل انتهت المباراة وآثرت مصر السلامة وسلمت مفاتيح التحكم في أمنها المائي لمنافسيها في أعالي النيل لتحل عليها الكارثة التي تنبأ بها المفكر والجغرافي الراحل جمال حمدان قبل 3 عقود؟