تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
لماذا يُبدي ترامب هذا الاهتمام بسد النهضة؟

سد النهضة في عقل ترامب.. صفقة عابرة أم حلم صهيوني قديم؟

منشور الاثنين 21 يوليو 2025

كلما ألحّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الحديث عن موضوع معين، تقفز إلى ذهني عبارات قرأتها في كتابه فن الصفقة، عما وصفه بتوسيع الخيارات/Maximize your options، حيث ينصح المستثمرين المبتدئين عندما تلوح فكرة أو فرصة تحمل مقوّمات النجاح، بالتفكير في أكثر من سيناريو "لأن القاعدة هي فشل معظم الصفقات مهما كانت واعدة في البداية"، مما يدفعه إلى الاحتفاظ في ذهنه بستة أساليب على الأقل لإنجاحها "لأن كل شيء وارد".

مساء الجمعة الماضي، تحدَّث ترامب للمرة الثالثة خلال أقل من شهر عن سد النهضة مصدرًا للنزاع بين مصر وإثيوبيا، مكررًا التأكيد على الضرر الكبير الذي قد يسببه السد للشعب المصري، وملقيًا باللوم على الإدارة الديمقراطية السابقة في تمويل السد واستكمال المشروع، وتحدَّث عن تنسيق مع القاهرة لحل الأزمة. وما زاده هذه المرة أن الحل سيكون "طويل الأمد" دون الخوض في أي تفاصيل أخرى.

عبّرت إثيوبيا عن غضبها من حديث ترامب مؤخرًا عن سد النهضة، أما مصر فطالبت في تعليقها بالتوصل إلى اتفاق عادل يحفظ مصالح الجميع، مع الترحيب بالعبارات التي وصفت النيل بـ"مصدر الحياة الوحيد لمصر". لكن التصريحات من البلدين تعكس غياب حوار حقيقي مع واشنطن حول القضية، ونحن على أعتاب إعلان إتمام الملء الأخير وافتتاح السد رسميًا وبدء تشغيله نهاية الصيف الحالي.

لذلك كان من المنطقي الربط بين تصريحات ترامب وقضايا أخرى، أبرزها بالطبع غزة، خصوصًا وأن النزاع لم يظهر على خارطة اهتمامات الرئيس الأمريكي في ولايته الثانية إلّا تزامنًا مع انخراطه في اتفاق الهدنة بين إسرائيل وإيران، ثم في أعقاب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، ثم ظهور فكرة إقامة المدينة الإنسانية وعودة الترويج الإعلامي الصهيوني لخطط تهجير الشعب الفلسطيني من غزة إلى سيناء أو سيطرة مصر على القطاع.

بدا الأمر وكأن ترامب يفتح بابًا للمساومة؛ النِيل مقابل التهجير خيارًا أول وأخطر، أو سيطرة مصر على غزة، أو بالحد الأدنى توريطها بشكل أكبر في البحث عن حل مُرضٍ لنتنياهو ينهي خطر المقاومة ويدجّن القطاع إلى الأبد، أو يضمن ابتلاع الصهاينة له تدريجيًا كما يحدث في الضفة الغربية. وكلها أفكار يراها اللوبي الصهيوني ممكنة النجاح وربما تتحقق إحداها، على طريقة نصائح ترامب في كتابه.

موقف ترامب ليس جديدًا

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، 7 فبراير 2025

هذا الاتجاه في تحليل حديث ترامب، على منطقيته، يتجاهل أمرًا مهمًا ربما نسيه كثيرون بسبب عهد الرئيس الديمقراطي جو بايدن، وهو أن ترامب كان منذ ولايته الأولى معارضًا شرسًا لسد النهضة.

فبالتزامن مع الملء الأول لخزان السد عام 2020 أمرَ ترامب باقتطاع جزء من المساعدات السنوية لإثيوبيا في حدود 130 مليون دولار بسبب بدء الملء بشكل أحادي قبل التوصل إلى اتفاق كامل، وما أثار الدهشة وقتها أن ترامب كان يبدو دائمًا قليل الاهتمام بما يجري في إفريقيا.

وبعد أسابيع من ذلك القرار أشار في تصريحات علنية صادمة إلى أن "مصر سينتهي بها الأمر إلى تفجير هذا السد". قالها بشكل عَرَضي وهو يبشِّر بقرب انضمام السودان إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، مضيفًا "قلتها وأكررها بصوت عالٍ وواضح، سيفجِّرون هذا السد وعليهم أن يفعلوا شيئًا ما".

الراجح أن ترامب كان يحمّل أديس أبابا وحدها مسؤولية فشل مفاوضات واشنطن التي دُشنّت بحضوره شخصيًا في البيت الأبيض مطلع 2020 وانخرط فيها وزير الخزانة السابق ستيفن منوشين وممثلو البنك الدولي، ثم أعلن وزير الخارجية الإثيوبي آنذاك جيدو أندارجاشيو اعتراض بلاده على ما زعم أنه "انحياز أمريكي وتداخل في الصيغ وليس مجرد وساطة"، ما مثَّل إحراجًا دوليًا للإدارة الجمهورية.

لم نعرف ما الذي كان يمكن أن يقدمه ترامب أكثر من تلك المواقف التي زادت سخط الإثيوبيين وإصرارهم على المضيّ قدمًا في مشروعهم، وفي نشر سرديتهم عن المظلومية التاريخية ووقوف الرجل الأبيض إلى جانب المصريين منذ القرن التاسع عشر لمنحهم مزيدًا من المياه دون وجه حق، والادعاء بأن جميع الاتفاقيات المنظمة لحقوق دول وادي النيل تعود إلى العصور الاستعمارية.

تلقى هذه المزاعم رواجًا بين الدوائر الأكاديمية والسياسية في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان لها تأثير على موقف واشنطن في عهد بايدن الذي أفرج من فوره عن المساعدات الموقوفة، وفصل تمامًا بين سد النهضة مشروعًا تنمويًّا، والحرب الأهلية في إقليم تيجراي التي كان البعض يتصور أنها ستنعكس سلبًا على السد بالتعطيل أو الوقف أو التدمير.

وعندما يصر ترامب على أن أمريكا موّلت المشروع، فمخطئٌ من يبحث خلفه عن المساعدات أو الاستثمارات المباشرة فقط، فقد أدى تعامل إدارة بايدن إلى "تبريد" مسار المفاوضات منذ لجوء مصر إلى مجلس الأمن في يوليو/تموز 2021، واهتمت أكثر بحرب تيجراي التي استمرت عامين، وتجنبت الانخراط بشكل فعّال على عكس ترامب، مكتفية بالتصريحات الدبلوماسية الإيجابية نحو الطرفين، مما أدى إلى لجوئهما إلى وساطة الاتحاد الإفريقي الفاشلة أيضًا، ومن ثم توافرت الأجواء الممهدة لإنجاز إثيوبيا جميع مراحل إنشاء السد والملء بنجاح.

لماذا لا نمد النيل شرقًا؟!

الشاهد أن طرح قضية سد النهضة على لسان ساكن البيت الأبيض مرة أخرى يرتبط بأفكار تراود ترامب نفسه، ولا تعبر عن إدارته أو المؤسسات الأمريكية، ما يحتّم دراسة احتمالات أكثر من المساومة على غزة، أبرزها بالتأكيد العمل على تنفيذ حلم صهيوني قديم بإيصال مياه النيل إلى الكيان المصطنع في "أرض الميعاد".

رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أمام سد النهضة

بدأ الترويج لهذا الحلم بواسطة العراب الأول تيودور هرتزل عندما زار مصر عام 1903 وعرض على المحتل البريطاني وحكومة الخديو عباس حلمي الثاني إنشاء وطن لليهود في شمال سيناء باسم "ولاية يهوذا المصرية" باتفاقية امتياز تمتد 99 عامًا.

تُمنح بموجب هذه الاتفاقية السيادة الكاملة لهرتزل على تلك الأرض، مع التباحث لاحقًا بشأن توصيل مياه النيل، الذي رفضت مصر بشكل مبدئي أي تحويل لمجراه. وقد أفرد الكاتب الصحفي الكبير الراحل كامل زهيري قسمًا معتبرًا من كتابه النيل في خطر لتوثيق تلك المحاولة المبكرة.

وتجددت الفكرة في مطلع عصر التطبيع، عندما زار الرئيس الراحل أنور السادات حيفا في سبتمبر/أيلول 1979 وقال لبيجن في حديث علني "لماذا لا نرسل لكم بعضًا من المياه العذبة إلى صحراء النقب باعتباركم جيرانًا طيبين؟"!

نشرت الصحف الإسرائيلية والأمريكية ذلك التصريح باعتباره تقدمًا غير مسبوق في العلاقات، لكنه لم يذع في مصر ولم يستشعر أحد خطورته إلّا بعد إشارة البدء في حفر ترعة السلام نوفمبر/تشرين الثاني 1979، عندما نشرت مجلة أكتوبر في عددها 164 بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 1979، تحت عنوان "مشروع زمزم الجديدة"، توجيهات السادات "بتوصيل مياه نهر النيل إلى القدس لتكون في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى".

ونسبت له قوله "سنجعل هذه المياه مساهمة من الشعب المصري وباسم مئات الملايين من المسلمين تخليدًا لمبادرة السلام".

قامت الدنيا ولم تقعد في مصر. عشرات المقالات والبيانات البرلمانية والندوات الحزبية هاجمت مساعي السادات، ووصفتها الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في "الشعب" يوم 9 سبتمبر 1980 بـ"قضية الحياة أو الموت"، محذرةً من "زراعة النقب وازدهارها واختلال التوازن الكيفي، ورسوخ إسرائيل وامتدادها نحو سيناء وفي مواطن البترول العربي وتطويق مصر والسعودية".

جرف التيّار تلك الفكرة المنحرفة بعد اغتيال السادات، ولم تُطرح طوال عهد خلفه حسني مبارك. بقي رفض مصر مبدئيًا للانتقاص من حصتها من مياه النيل، ولأي مشروع إثيوبي من شأنه التحكم في المياه أو تقليلها. وعزز من هذا الموقف الجفاف الذي ضرب هضبة الحبشة عام 1979 واضطر مصر لاستخدام احتياطات السد العالي حتى وصلت لمستويات حرجة، إلى أن عادت الأمطار إلى معدلات الرخاء أواخر صيف 1985، حسب تقرير استخباراتي أمريكي صدر في العام التالي.

القضية مصرية لا دولية

بعيدًا عن المصالح الإسرائيلية، ربما يرى ترامب في نزاع سد النهضة مجرد نقطة إضافية في رصيده المتوهّم لجائزة نوبل للسلام، أو ورقة ضغط محتملة على الطرفين لانتزاع مكاسب سريعة لإدارته، وقد يكون راغبًا فقط في إشعال التوتر في تجمع "بريكس" الذي يضم البلدين، وربما يتخوف من احتمال التعاون المستقبلي بينهما بما يُقصي أمريكا لحساب الصين. أخذًا في الاعتبار أنه ومنذ توقيع اتفاق المبادئ عام 2015، لا حديث عن أي تعاون تنموي قائم على التشغيل المشترك والمنسّق للسد.

أمام كل تلك الاحتمالات يكون خيار مصر الأمثل هو الحركة السريعة وانتزاع المبادرة. فقضية سد النهضة ليست دوليةً، ولا نقبل أن يتم تدويلها بدخول أطراف تبحث عن مصالح أو مساومات. بل تتعلق بتهديد وجودي لمستقبل النيل المصدر الأساسي للحياة في مصر التي يعيش شعبها تحت خط الفقر المائي.

وبعد فشل المفاوضات نهائيًا، ومع احتفاظنا بـ"حق الدفاع عن النفس" كما أعلن وزير الخارجية بدر عبد العاطي أكثر من مرة، علينا أن نتحرك في كل المسارات الممكنة، دبلوماسيًا وقانونيًا واقتصاديًا، للتأكيد على الجاهزية لانتزاع الحق. هذا وحده ما يسبغ صفة "الإلزام" على أي اتفاق مأمول يضمن التنسيق في الإدارة والتشغيل وحالات الجفاف، دون انتظار ترامب أو غيره من "أصحاب الصفقات".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.