10 سنوات عجاف من المفاوضات بين إثيوبيا ومصر والسودان بشأن سد النهضة مضت دون أن تنتهي لأي نتائج؛ تمسكت فيها القاهرة والخرطوم بمسار الحوار لحماية حقوقهما المائية في نهر النيل، في مواجهة مماطلة أديس أبابا واستمرارها في بناء السد.
جولات طويلة من المفاوضات لم تسفر عن التوصل لاتفاق بشأن الملء والتشغيل، استغلت معها إثيوبيا الوقت لتكمل 94% من أعمال البناء، وتستعد لملء خامس، حتى جاء إعلان مصر الأخير عن فشل المفاوضات، ليضع نهاية سلسة المحاولات الدبلوماسية لحل الأزمة.
الموقف المصري اتُخذ جراء استمرار المواقف الإثيوبية "الرافضة للأخذ بأي من الحلول الفنية والقانونية"، التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث، حسب بيان لوزارة الري المصري قالت فيه إن "إثيوبيا تمادت في النكوص عما جرى التوصل له من تفاهمات ملبية لمصالحها المعلنة".
وصعدت القاهرة من حدة لهجتها في البيان الأخير واتهمت أديس أبابا بـ"استغلال الغطاء التفاوضي لتكريس الأمر الواقع على الأرض واستخلاص صك موافقة من مصر والسودان على التحكم الإثيوبي المطلق في النيل الأزرق بمعزل عن القانون الدولي".
جولة المفاوضات الأخيرة استؤنفت بعد بيان مشترك دعا إلى التوصل لاتفاق في غضون 4 شهور، عقب لقاء جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، في يوليو/تموز الماضي بالقاهرة.
وقبل ذلك المسار، كانت هناك محاولات برعاية الاتحاد الإفريقي لكنها توقفت أيضًا دون نتيجة منذ أبريل/نيسان 2021، وانعقدت بعدها جولات تفاوض بين الدول الثلاث استضافتها الإمارات، لكنها لم تنجح في الوصول إلى اتفاق، حسبما كشف مسؤولون سودانيون في وقت سابق.
ملف الفرص الضائعة
العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الاستراتيجية لدول حوض النيل بجامعة الفيوم، الدكتور عدلي سعداوي، وصف ملف سد النهضة بأنه "ملف الفرص الضائعة"، مضيفًا أن إثيوبيا "تفرض الأمر الواقع"، وأن حل الأزمة أصبح "في يدها وحدها".
"أضعنا فرصة الاستفادة من اللجنة الدولية وتقريرها الصادر في 2013، الذي تحدّث عن أمان السد وأهمية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، وبدلًا عنها تشكلت لجان وطنية من الدول الثلاث لم تصل إلى نتيجة"، يقول سعداوي لـ المنصة.
في تقريرها النهائي، الذي ضم 48 صفحة، قالت اللجنة الدولية إن "إثيوبيا أعلنت صراحة عدم اعترافها بالاتفاقيات القائمة وعلى وجه الخصوص اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، وبالتالي فهي لا تعترف بحصة مصر السنوية من مياه النيل أو الحقوق التاريخية المصرية".
فرصة أخرى "ضائعة" هي المتعلقة بتعيين مكاتب استشارية مستقلة لتحديد الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية على مصر والسودان، حيث "استغرقت تسمية مكتبين استشاريين فرنسيين وقتًا طويلًا، ومع تقديمهما التقرير الأول حول إطار العمل جاء الرد الإثيوبي بالرفض"، وفق سعداوي.
في ديسمبر/كانون الأول 2015، وقع وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على وثيقة الخرطوم التي تضمنت التأكيد على اتفاق إعلان المبادئ، وتكليف مكتبين فرنسيين بتنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بالمشروع.
سعداوي أشار إلى توقيع الدول الثلاث في مارس/آذار 2015 اتفاق إعلان المبادئ، وعدّه اعترافًا بسد النهضة "دون ضمانات حقيقية"، بينما تحمل بنوده معاني كثيرة "كل واحد يفسرها على هواه"، موضحًا أن الإثيوبيين أنفسهم صرحوا بأن عملية الملء الجارية "جزء من ذلك الاتفاق".
وضاعت في واشنطن فرصة الوصول إلى اتفاق قانوني بشأن الملء والتشغيل، بعدما وقعت مصر مسودة الاتفاق بالأحرف الأولى، وفق سعداوي، فيما رفض السودان التوقيع دون حضور إثيوبيا التي انسحبت في اللحظة الأخيرة.
ويرى العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الاستراتيجية أن "اختلاف الموقفين المصري والسوداني في فترات عدة كان أحد أسباب تلك الفرص الضائعة، بينما انتهزت إثيوبيا كل فرصة متاحة لاستكمال أعمال البناء، وفرض الأمر الواقع حتى وصلنا لما نحن عليه الآن".
في مارس 2020 أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا تتحفظ فيه على مشروع قرار مجلس وزراء الخارجية العرب الذي أكد تضامن الجامعة العربية مع موقف مصر والسودان الخاص بسد النهضة الإثيوبي باعتبارهما دولتي المصب، وقال الأمين العام لهيئة الطاقة والتعدين والكهرباء والتنظيم السودانية المهندس تيجاني آدم إن "تدويل أزمة السد يعقد الأمور ويؤخر الحلول".
نتيجة متوقعة
يرى أستاذ الري والهيدروليكا بجامعة عين شمس الدكتور بيتر رياض أن فشل المفاوضات "أمر متوقع منذ فترة طويلة" مع استمرار "المراوغة والمماطلة" الإثيوبية.
ويوضح لـ المنصة، أنه شارك في ندوات ومحاضرات عبر الإنترنت مع خبراء وأعضاء بفريق التفاوض الإثيوبي، وكان واضحًا إصرارهم على رفض "أي تنازل" في مشروع السد، مضيفًا أن "الملف خرج عن كونه مشروعًا هندسيًا إلى فرصة للحصول على مكسب سياسي وفرض السيطرة على منابع النيل".
ويعتقد رياض أن أديس أبابا لا تحسن إدارة مواردها المائية، موضحًا أن إثيوبيا تمتلك 12 نهرًا وتسقط عليها أمطار غزيرة تصل إلى 935 مليار متر مكعب سنويًا، مقابل 1.3 مليار متر مكعب تقريبًا من الأمطار تسقط على مصر التي لا تملك سوى نهر النيل، الذي تصفه إثيوبيا بأنه نهر خائن؛ فهو "ينبع من أراضيها دون استفادة، بينما تقوم عليه حضارة مصر".
انتهاء 94%
بعيدًا عن قاعات المفاوضات كانت أديس أبابا تواصل تشييد سد النهضة لفرض أمر واقع على الأرض، حيث أكملت 94% من المشروع، ومن المقرر انتهاء الأعمال الخرسانية بحلول سبتمبر/أيلول 2024، حسب رئيس فريق التفاوض الإثيوبي سيلشي بيكلي.
بيكلي، الذي يشغل أيضًا منصب سفير أديس أبابا لدى الولايات المتحدة، وصف النيل الأزرق بأنه ثروة لإثيوبيا، وقال "لا يوجد بلد يتخلى عن ثروته بالكامل"، مجددًا حديثه عن تمسك مصر بـ"اتفاقيات استعمارية" لتقاسم مياه النيل.
يشكل نهر النيل 98% من موارد مصر المائية المتجددة
كانت إثيوبيا صرحت في مناسبات عدة بأن سد النهضة يستهدف توليد 5150 ميجاوات من الكهرباء عبر 13 توربينًا. وفي سبتمبر الماضي، أعلن آبي أحمد اكتمال الملء الرابع لسد النهضة.
وتستهدف إثيوبيا تشغيل 5 توربينات أخرى لتوليد الكهرباء من سد النهضة خلال سنة، حسبما أعلن وزير المياه والطاقة الإثيوبي هابتامو إيتيفا في وقت سابق من العام الحالي.
والعام الماضي أعلنت إثيوبيا تشغيل توربينين لتوليد الكهرباء من سد النهضة، بطاقة قصوى 375 ميجاوات لكل منهما.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية توقف المياه عن العبور أعلى الممر الأوسط لسد النهضة، في خطوة تحضيرية للملء الخامس، حسب أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي.
مخاوف مصرية
وتخشى مصر من تداعيات سد النهضة، المقرر أن يحجز عند اكتماله 74 مليار متر مكعب، ما يؤثر على مواردها المائية الشحيحة بالأساس. ويمثل النيل الأزرق، الذي شيد عليه سد النهضة، نحو 60% من إيراد نهر النيل.
وزير الري المصري الدكتور هاني سويلم، قال في تصريحات سابقة، إن استمرار الإجراءات الأحادية في سد النهضة، "المبالغ في حجمه"، يشكل خطرًا وجوديًا على أكثر من 100 مليون مواطن على أرض مصر.
وأوضح سويلم أن استمرار تلك الممارسات بالتوازي مع فترة جفاف مطوّل قد يؤدي إلى خروج أكثر من مليون ومائة ألف شخص من سوق العمل، وفقدان ما يقرب من 15% من الرقعة الزراعية المصرية، بما يترتب على ذلك من مخاطر ازدياد التوترات الاجتماعية والاقتصادية وتفاقم الهجرة غير الشرعية، كما يمكن أن تؤدي تلك الممارسات إلى مضاعفة فاتورة واردات مصر الغذائية.
كما نوّه وزير الري بأن نهر النيل يشكل 98% من موارد مصر المائية المتجددة، يذهب ما لا يقل عن 75% منها لقطاع الزراعة، الذي يمثّل مصدر رزق أكثر من 50% من السكان.
وأشار إلى أن مصر لديها عجز يصل إلى 55% من احتياجاتها المائية، البالغة 120 مليار متر مكعب، لافتًا إلى أن القاهرة ضخت استثمارات تعدّت 10 مليارات دولار لرفع كفاءة منظومة المياه لديها، كما تضطر لاستيراد واردات غذائية بقيمة 15 مليار دولار.
سيناريوهات ومطالب
في ظل هذه المخاوف يقول مصدر في فريق التفاوض المصري، طلب عدم نشر اسمه، لـ المنصة، إن القاهرة طرحت على مائدة التفاوض سيناريوهات عدة لملء وتشغيل السد تراعي مصالح إثيوبيا في توليد الكهرباء حتى 70-80% في أحلك الظروف دون الإضرار الجسيم بكمية المياه التي تصل إلى السودان ومصر.
وأوضح أن مصر طالبت بالربط بين منسوبي بحيرتي تخزين سد النهضة والسد العالي، وهو مبدأ متعارف عليه في الأنهار المشتركة، فلا يعقل أن تملأ إثيوبيا سد النهضة حتى أعلى منسوب بينما السد العالي عند منسوب متدنٍ، على نحو لا يفي بالاحتياجات المائية الأساسية للشعب المصري.
مصر تحتفظ بحقها في الدفاع عن أمنها المائي والقومي
وتابع أن "مصر طلبت إمرار حد أدنى من النيل الأزرق، يعادل 40 مليار متر مكعب، باعتباره متوسط إيراد النهر خلال فترات الجفاف، لكنّ إثيوبيا رفضت واقترحت تمرير 35 مليار متر مكعب فقط في فترات الجفاف، قبل أن تخفض ذلك الحد في المفاوضات الأخيرة إلى 31 مليارًا فقط".
إثيوبيا عرضت أيضًا الاتفاق على الملء فقط دون التشغيل، وهو ما رفضته مصر والسودان، حسب المصدر، الذي أشار إلى أن القاهرة تطالب بآلية ملزمة لفض المنازعات، بينما أديس أبابا تريد "إجراءً شكليًا غير ملزم".
الخطوة التالية
وعن الخطوة التالية بعد انتهاء المفاوضات، أكدت مصر أنها ستراقب عن كثب عملية ملء وتشغيل سد النهضة، وأنها تحتفظ بحقها المكفول بموجب المواثيق الدولية للدفاع عن أمنها المائي والقومي في حال تعرضه للضرر.
وحذر وزير الري المصري، السلطات الإثيوبية، من الإضرار بالأمن المائي للبلاد، مؤكدًا أن مؤسسات الدولة "لن تسمح بذلك".
من ناحيته، قال أستاذ القانون الدولي الدكتور محمد مهران إن حق مصر في الدفاع عن أمنها المائي والقومي يستند إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وأشار مهران لـ المنصة إلى "أهمية حشد المجتمع الدولي لدفع إثيوبيا إلى احترام القانون الدولي وعدم المساس بحقوق مصر المكتسبة والتاريخية، وتوقيع اتفاق قانوني ملزم ينظم قواعد تشغيل السد بما يضمن حصص مياه مصر والسودان".
بدوره، قال الدكتور بيتر رياض إن مصر لم تتضرر حتى الآن من مشروع إثيوبيا، لتزامن سنوات الملء السابقة مع فيضان مرتفع، وكذلك وجود السد العالي، الذي وصفه بـ"صمام الأمان".
وأوضح رياض لـ المنصة أن تخوّف القاهرة من تراجع كمية المياه الواردة في فترات الجفاف، والجفاف الممتد، ما قد يدفعها إلى السحب من مخزون بحيرة ناصر دون تعويض فيحدث "استنزاف للمخزون".
وعن خيارات القاهرة في ملف سد النهضة، يرى أستاذ الري والهيدروليكا أن "السياسة والاقتصاد" هما سلاح القوة حاليًا، مؤكدًا أهمية تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية، خاصة دول حوض النيل، وهي الخطوة التي يراها أكثر جدوى من مجلس الأمن.
كما أشار إلى دور البنوك الإفريقية في هذا الشأن، منها بنك التنمية الإفريقي، قائلًا إنه "يمنح تمويلات لإقامة مشروعات تنموية، وفي المقابل يمكن أن يحجب هذه التمويلات إذا تيقن من استخدامها في الإيذاء بدول أخرى".
ويتفق الدكتور عدلي سعداوي مع الطرح السابق، مؤكدًا "أهمية الاعتراف بوجود فجوة بين مصر ودول حوض النيل، وإفريقيا عمومًا، بعكس إثيوبيا، الحاضرة دائمًا في المناسبات القارية، كما تستضيف مقر الاتحاد الإفريقي، وهي ورقة ضغط قوية في يد أديس أبابا".
وأشار إلى أن غياب مصر عن إفريقيا لسنوات طويلة، زادت على 30 عامًا، كان سببًا في توقيع عدد من دول حوض النيل، بتحريض من إثيوبيا، على اتفاقية عنتيبي، التي عدّ سد النهضة "الابن البِكري" لها.
وتلغي اتفاقية عنتيبي الموقعة في 2010، الحصص التاريخية لدولتي المصب "55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان".
ويعتقد العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الاستراتيجية لدول حوض النيل أن "مصر تبذل جهودًا حقيقية للعودة إلى إفريقيا، وخلق مصالح مشتركة"، كما يؤمن بأن السلطات المصرية "لن تتنازل أبدًا ولن تسمح بالإضرار بأمن الشعب المصري الإنساني وحقه في الوجود".
وعلى الرغم من أن أديس أبابا متمسكة بموقفها الأحادي، فإن القاهرة تركت باب الاحتمالات حول خطوتها التالية مفتوحًا بإعلانها الاحتفاظ بحقها في الدفاع عن أمنها المائي والقومي حال تعرضه للضرر، دون أن تعلن صراحة عن خططها لما بعد مرحلة فشل المفاوضات.