بدأت خريطة التحالفات في القرن الإفريقي تتضح مع إعادة تنشيط العلاقات المصرية الصومالية، والمصرية الإريترية، في المقابل تتحرك إثيوبيا لتشكيل جبهة مضادة قد يكون أول أعضائها محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، ويزداد الموقف تعقيدًا بتنامي النفوذ الإماراتي في إفريقيا، وهو البلد الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع مصر وإثيوبيا والدعم السريع أحد طرفي الصراع في الحرب الأهلية السودانية.
لا يمكن فصل تصريحات حميدتي الأخيرة ضد مصر عن سياق إعادة ترتيب التحالفات في منطقة القرن الإفريقي وتحركات القاهرة التي نسجت اتفاقات علنية مع الصومال وإريتريا، خاصة أن المؤشرات تبين أن ثمة علاقة بين إثيوبيا وقوات الدعم السريع، واحتمالية استعانة أديس أبابا بقوات حميدتي لكسر عزلتها ومواجهة التحركات التي تقودها مصر لتضييق الخناق على إثيوبيا لحلحلة موقفها المتشدد في أزمة السد.
وشن حميدتي هجومًا على القاهرة، متهمًا الجيش المصري بالمشاركة في الضربات الجوية على قواته في منطقة جبل موية، وبعد النفي المصري لهذه الاتهامات لم تكتف قوات الدعم السريع بذلك، وأصدرت بيانًا اتهمت فيه مصر بعرقلة جهود السلام في السودان، بل وزعمت أن القاهرة كانت شريكًا أساسيًا في إشعال الحرب الدائرة منذ عام ونصف العام.
خريطة جديدة للتحالفات
زار الرئيس عبد الفتاح السيسي إريتريا، وعقد قمة ثلاثية مع نظيريه؛ الإريتري إسياس أفورقي والصومالي حسن شیخ محمود، واتفقت الدول الثلاث على التنسيق الأمني والتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري.
واعتبرت مجلة الإيكونوميست البريطانية أن التحالف الثلاثي بين مصر والصومال وإريتريا يؤدي إلى مزيد من العزلة لإثيوبيا، ويرسخ تقسيم القرن الإفريقي إلى كتلتين جيوسياسيتين.
تنسج إثيوبيا حلفًا جديدًا في مواجهة جبهة مصر وإريتريا والصومال
حسب المجلة، فإن "مصر وإريتريا والصومال تتحالف بشكل وثيق مع السعودية وتركيا، وجميعها تدعم الجيش السوداني النظامي في الحرب الأهلية ضد قوات الدعم السريع، وعلى الجانب الآخر توجد إثيوبيا وبعض الدويلات المحلية في الصومال إلى جانب قوات الدعم السريع".
ويقول الباحث السوداني في شؤون شرق إفريقيا عبد المنعم أبو إدريس لـ المنصة "بالطبع هناك خريطة تحالفات جديدة في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، وبعد أن وضح تحالف القاهرة وأسمرة ومقديشو، في المقابل فإن إثيوبيا تنسج حاليًا حلفًا آخر موازيًا سيكون أكثر وضوحًا خلال الأيام المقبلة مع دخول الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل عنتيبي حيز التنفيذ".
يضيف "أديس أبابا تتجه لنسج أحد أشكال التحالف المرتبط بالاستفادة من نهر النيل، وسيكون ذلك دافعًا نحو مزيد من التقارب بين مصر والسودان ممثلة في الجيش السوداني باعتبار أن للدولتين تحفظات على الاتفاقية التي تهدد حقوقهما التاريخية في المياه".
رغبة إثيوبيا في الحصول على ميناء أرض الصومال أيقظ القاهرة من غفوتها
تتغير خارطة حلفاء اليوم، وتتبدل مواقع أصدقاء الأمس، إذ يعيد التحالف الثلاثي بين مصر وإريتريا والصومال للأذهان القمة الثلاثية بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، ورئيس الصومال السابق محمد عبد الله فرماجو، في عام 2019.
واستطاعت مصر جذب إريتريا إلى صفها على خلفية ما يجري في إقليم تيجراي، يوضح الباحث السوداني في الشؤون الإفريقية محمد تورشين أن الرئيس الإريتري "شعر أنه تلقى طعنة في الظهر من حليفه الإثيوبي آبي أحمد، بعدما وقع الأخير ودون تنسيق أو تشاور معه اتفاقية سلام بريتوريا في يونيو/حزيران 2022 التي أنهت حرب الإقليم، بعدما قاتلت قوات الجيش الإريتري في هذه الحرب إلى جانب الجيش الإثيوبي لإخضاع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وهو ما دفع أسمرة للوقوف إلى جانب مصر الجهة المقابلة بعد تحرك أديس أبابا نحو أرض الصومال".
ميناء بربرة نقطة التحول
قررت مصر التحرك مؤخرًا في منطقة القرن الإفريقي ومواجهة النفوذ الإثيوبي بعد سعي إثيوبيا للسيطرة على ميناء بربرة.
يقول الباحث السوداني في شؤون شرق إفريقيا عبد المنعم أبو إدريس "لم تلعب مصر أدوارًا فاعلة بمنطقة القرن الإفريقي، مثلما تحركت إثيوبيا خلال العقدين الماضيين، غير أن محاولة أديس أبابا الحصول على ميناء في دولة أرض الصومال أيقظ القاهرة من غفوتها".
يشير إلى أن موقع الميناء قريب من مضيق باب المندب الذي يمثل البوابة الجنوبية لقناة السويس "في حال تصاعدت الخلافات بين البلدين سيشكل تهديدًا مباشرًا على حركة الملاحة في القناة التي تعد شريانًا أساسيًا للاقتصاد المصري".
من المتوقع أن توظف إثيوبيا علاقاتها مع الدعم السريع لتكون مُنغصًا للأمن القومي المصري
بدأ النزاع على الميناء في يناير/كانون الثاني الماضي، حين وقّعت إثيوبيا على مذكرة تفاهم مع أرض الصومال، تستأجر بموجبها الأخيرة جزءًا من الشريط الساحلي من أرض الصومال يسمح لها ببناء قاعدة بحرية. وفي المقابل، ستكون إثيوبيا أول دولة تعترف بأرض الصومال منذ إعلانها الاستقلال عن الوطن الأم قبل أكثر من 3 عقود.
إثيوبيا وتوظيف حميدتي
تزامن هجوم حميدتي على مصر مع إعادة بناء تحالفات القرن الإفريقي، وتشكل التحالف الثلاثي الذي تقوده القاهرة، إلا أن أبو إدريس يعتبرها "محض صدفة"، لكنه يستطرد "يمكن البناء عليها لدعم تشكل التحالف المقابل الذي ستقوده إثيوبيا خاصة مع التخوفات المصرية من وجود ميليشيات على حدودها الجنوبية ما يشكل تهديداً لأمنها القومي".
"من المتوقع أن توظف إثيوبيا علاقاتها مع الدعم السريع لأن تكون مُنغصًا للأمن القومي المصري، إذ إن الميليشيات لديها رغبة في إعادة رسم شكل الدولة السودانية وليس الحكم فقط، بمعنى إمكانية تقسيمه لأقاليم، وهو ما يتعارض بشكل مباشر مع دعم مصر لوحدة واستقرار السودان" حسب الباحث السوداني في الشؤون الإفريقية، محمد تورشين.
يضيف تورشين لـ المنصة "في المقابل يسعى حميدتي لإقحام أديس أبابا في الصراع الدائر بينه وبين الجيش السوداني، لكي تبقى إثيوبيا ظهيرًا له". لكنه يرى أن إثيوبيا تدرك خطورة الانخراط الكامل إلى جانب الدعم السريع، لعل ذلك ما جعلها تتراجع أو تتأخر عن دعمها المباشر لحميدتي.
يشير إلى زيارة آبي أحمد إلى بورتسودان ولقائه قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان "الرجل لن يلقي بثقله الكامل نحو دعم حميدتي، ويعلم أن السودان لديه القدرة على تغذية الصراعات الإثيوبية - الإثيوبية في الداخل".
من يهدد الأمن القومي؟
"التدخل المصري المباشر في مشكلات القرن الإفريقي وشمال شرق القارة يأتي في إطار التهديدات المتزايدة في منطقة البحر الأحمر التي تهدد الأمن والاستقرار في مصر ومنطقة القرن الإفريقي بأكملها" يؤكد عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير صلاح حليمة، رافضًا وصف القمة الثلاثية بين مصر وإريتريا والصومال بالتحالف، معتبرًا أنها انتهت إلى "تعاون استراتيجي في إطار شراكة كاملة لمواجهة التحديات التي تواجه منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي".
لن تقبل مصر مهددات جديدة تقضي على الاستقرار في المنطقة
يضيف في حديثه لـ المنصة "التعاون الاستراتيجي ذات طبيعة إنسانية وتنموية في المقام الأول، بالإضافة لخلق حائط صد يخفف من التوترات في البحر الأحمر على وجه التحديد مع تصعيد العمليات العسكرية بين الحوثيين وإسرائيل".
وبشأن المخاوف من السيطرة الإثيوبية على البحر الأحمر بعد السيطرة على ميناء بربرة، يقول حليمة "لن يكون مقبولًا وجود مهددات جديدة تقضي على ما تبقى من استقرار في المنطقة، وهو ما يمس مباشرة الأمن القومي المصري والعربي الإفريقي، في حال جرى تنفيذ الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال، الذي يعد اتفاقًا لاغيًا كونه لم يتم بين دولتين ذات سيادة".
ما زالت أرض الصومال تفتقد الاعتراف الدولي منذ انفصالها عن دولة الصومال، وتنتظر الاعتراف الإثيوبي مقابل تنفيذ الاتفاق الذي سبق توقيعه بينهما.
يعتبر حليمة أن التضييق على الأمن القومي المصري حاضر في تحركات إثيوبيا في القرن الإفريقي "إثيوبيا لديها طبيعة استعمارية توسعية"، يشير إلى سعيها لإيجاد منفذ على جنوب البحر الأحمر وهو ما اعتبره خرقًا للقانون الدولي "أسلوب يتماشى مع إسرائيل التي لديها التوجهات ذاتها في شمال البحر الأحمر ما يشي بوجود تنسيق وتشاور بينهما وأنهما يوجدان في محور إقليمي يضم دولًا تسعى لخلق كماشة على مصر وقناة السويس".
الصعود الإماراتي
لم يسمِّ حليمة دولة بعينها، رغم ذلك تبدو الإمارات حاضرة بقوة في تحركات تحالفات القرن الإفريقي، فنشطت الإمارات في الاستثمار بقطاع النقل البحري وإدارة المواني وبلغ عددها حوالي 77 ميناء حول العالم، من أهمها مواني البحر الأحمر، بعدما فازت بعقود إدارة وتطوير العديد منها.
ومن مدخل الاقتصاد امتد نشاطها إلى السياسة، فانخرطت في تسوية النزاع الإثيوبي - الإريتري في منتصف 2018، لتنشيط ميناءي عصب ومصوع، إثر التضييق على استثماراتها بميناءي عدن وجيبوتي، وعملت على تعزيز حجم التجارة بينها وبين إثيوبيا وكينيا والصومال.
تتباين مصالح مصر والإمارات في القرن الإفريقي لكن لم تصل إلى الصدام
ورغم صعود نفوذ الإمارات، يستبعد الباحث السياسي السوداني، محمد تورشين، قدرتها على الضغط على مصر للتراجع عن دعم الصومال، كما تفتقد القدرة على تحجيم الموقف الإثيوبي "الأمر يرتبط بقضايا جوهرية تمس الأمن القومي للبلدين".
"توجد أساليب جديدة في العلاقات بين الدول ومنها مصر والإمارات، حيث يبحثان عن تحقيق المصالح المشتركة اقتصاديًا، دون وقوع صدام سياسي أو عسكري، رغم أن كلًا منهما يدعم طرفًا ضد الآخر في السودان، ويوجدان في تحالفات مختلفة بالقرن الإفريقي" يقول عبدالمنعم أبو إدريس.
يوضح أبو إدريس أن استمرار الإمارات المتهمة بمساندة قوات الدعم السريع طرفًا فاعلًا في السودان يثير حساسية مصر، رغم نفي الإمارات الاتهامات الموجهة لها بتزويد قوات الدعم السريع بالسلاح.
تستمر خارطة تحالفات القرن الإفريقي في التأرجح ويبقى حميدتي ورقة ضغط محتملة يمكن استخدامها ضد مصر في صراع النفوذ بالمنطقة.