في أغسطس/آب الماضي هبطت طائرتان مصريتان من طراز C-130 في مقديشو، عاصمة الصومال، ولكنه كان هبوطًا غير عادي، محملًا بملامح تغيير جيوسياسي في القرن الإفريقي. حملت الطائرتان معدات عسكرية مصرية للجيش الصومالي في إطار اتفاقية الدفاع بين البلدين، ورغم أن الخطوة حملت مكاسب استراتيجية للطرفين، لكنها أزعجت إثيوبيا وإقليم صوماليلاند.
حذرت إثيوبيا من تهديد أمن القرن الإفريقي، مشيرة إلى وجود طرف، لم تسمه، سيتحمل عواقب أفعاله. لم تكتف أديس أبابا بالتصعيد الخطابي، بل حشدت قواتها على الحدود مع الصومال في رسالة واضحة بأن التصريحات تواكبها أفعال. وبدورها، أرسلت إثيوبيا شحنة أسلحة إلى ولاية بونتلاند شمال الصومال.
الفراغ الأمني الصومالي
تعتمد إثيوبيا حاليًا بشكل كبير على ميناء جيبوتي، الذي تمر عبره حوالي 90% من تجارتها. وفي مفارقة تعكس تضارب المصالح بين دول المنطقة، نجد أديس أبابا قادرة على الوصول إلى ميناء بربرة في إقليم صوماليلاند، الذي تم تطويره، بمساعدة مواني دبي العالمية. لكن الدولة الحبيسة الطامحة في بناء قوة بحرية لتأكيد حضورها ونفوذها الإقليمي في القرن الإفريقي كانت لها تطلعات أكبر.
في يناير/كانون الثاني الماضي، استغلت إثيوبيا الضعف البنيوي والسياسي لجارتها الصومال، ووقّعت مذكرة تفاهم مع إقليم صوماليلاند، الانفصالي وغير المعترف به دوليًا، لاستئجار أراضٍ لبناء قاعدة بحرية ذات طابع عسكري وميناء على خليج عدن، ما يضيف لإثيوبيا مدخلًا آخر على البحر الأحمر يضمن لها تنوع موانيها وبناء قدرتها العسكرية، في مقابل الاعتراف بانفصال هذا الإقليم عن مقديشو.
لجأت الصومال لمصر لمواجهة الفراغ الأمني المحتمل
اعتبرت الحكومة الصومالية هذه المذكرة تعديًا على سيادتها ووحدة أراضيها، لكن تلك المذكرة أظهرت أيضًا المعضلة الأمنية الصومالية. إذ يعتمد الصومال بشكل أساسي على قوات الاتحاد الإفريقي، التي تساهم فيها إثيوبيا بنصيب الأسد لحفظ الأمن ومواجهة خطر حركة الشباب الإرهابية، بدون تلك القوات فإن بقاء الحكومة المركزية نفسه معرض للانهيار.
وفي محاولة لحل هذه المعضلة، اتجهت الصومال لمصر لملء أي فراغ أمني محتمل ينتج عن خلافها مع إثيوبيا فوقعت مع القاهرة اتفاقية دفاعية، في إطار مهمة حفظ سلام جديدة تحت قيادة الاتحاد الإفريقي.
تستعد مصر بموجب هذه الاتفاقية لنشر 5000 جندي في الصومال بدءًا من يناير المقبل، مع خطة لنشر 5000 جندي إضافي في وقت لاحق. في المقابل، أعلنت مقديشو عزمها طرد القوات الإثيوبية خلال العام المقبل.
هل تغيرت عقيدة مصر العسكرية؟
اتسمت العقيدة العسكرية المصرية تاريخيًا بالتردد في إنشاء قواعد عسكرية طويلة الأمد خارج حدودها، وهو الموقف الذي تأثر بصدمة تورطها في اليمن خلال الستينيات من القرن الماضي. وقد أدى هذا إلى عقدة مصرية تاريخية، يمكن أن نسميها "العقدة اليمنية" قائمة في الذاكرة الأمنية والسياسية للقرار الأمني المصري.
رغم ذلك، ساهمت القوات المسلحة المصرية في حرب تحرير الكويت ضمن حلف دولي، إضافة إلى مشاركة رمزية ضمن قوة بحرية في التحالف العربي في اليمن، فضلًا عن المشاركة في قوات حفظ السلام في عدة دول حول العالم، من بينها الصومال نفسه.
ولكن المشاركة المصرية الأخيرة مع الاتحاد الإفريقي في قوات حفظ السلام بالصومال تأتي في ظل وضع سياسي وأمني أكثر حساسية، حيث لم يعد الأمر مجرد مشاركات بروتوكولية، لكنه يرتبط بضرورة تجاوز مصر حدودها الاستراتيجية من أجل مصالحها الكبرى، بما فيها حقها في البقاء السياسي والحيوي في القرن الإفريقي.
أصبحت دول حوض النيل ضمن الحدود الاستراتيجية لمصر
أصبحت كل دول حوض النيل ضمن حدود مصر الاستراتيجية، وتعتبر إثيوبيا، على وجه الخصوص، في قلب هذه الحدود الاستراتيجية بسبب تحكمها فيما يقرب من 90% من مياه النيل التي تصل إلى مصر.
ومع تصاعد الإجراءات الأحادية من الجانب الإثيوبي، خاصة فيما يتعلق بملء سد النهضة، والتهديد بإقامة أربعة سدود أخرى على النيل الأزرق، وتصوير حكومة أديس أبابا لمصر على أنها عدو، أعادت القاهرة مرة أخرى التفكير بتحفظ في استراتيجيتها العسكرية.
تحديات أمنية
بدأت مصر بتحالفاتها في القرن الإفريقي في استغلال الفرص المتاحة والاستجابة للتحدي الاستراتيجي في منابع النيل بتغيير متحفظ في عقيدتها العسكرية وتأسيس تنسيق عسكري مع دول محيطة بإثيوبيا لاحتواء تهديداتها.
وتعد الصومال سادس الدول المحيطة بإثيوبيا التي تعزز مصر التعاون العسكري معها، بعد السودان وأوغندا وبوروندي وكينيا وجيبوتي، كما أجرت مصر عدة مناورات عسكرية مشتركة مع السودان تحت اسم "حماة النيل".
يبدو أن الاستراتيجية المصرية هي تطويق إثيوبيا بالتحالفات المضادة أو احتواؤها في محيطها الجغرافي، لذا كان نشر وجود عسكري مصري فيما وراء حدودها ضرورة استراتيجية فرضتها التحديات.
غير أن هذه الاستراتيجية تقابلها عدة تحديات، مع احتفاظ إثيوبيا بقوات لها في الصومال، دون رغبة الحكومة الفيدرالية تحت ذريعة خلق مناطق عازلة ضد حركة الشباب، وهو ما يضع هذه القوات في مواجهة مع القوات الصومالية وحلفائها بما فيها مصر وينذر بصراع مسلح.
استغلت إثيوبيا ولاء القبائل والقادة المحليين في الصومال
ومع استمرار هشاشة النسيج الاجتماعي والسياسي لكثير من دول القرن الإفريقي، لا يزال الجزء الأكبر من الولاءات في الصومال للزعماء المحليين والقادة القبائليين وليس للدولة، وهو ما استغلته إثيوبيا فبدأت في حشد زعماء قبائليين ضد أي وجود مصري.
في خطوة غير مفاجئة، احتج قادة محليون وزعماء قبائليون في جوبالاند وجنوب غرب الصومال ضد قرار الحكومة الصومالية طرد القوات الإثيوبية، وهي الولايات التي لا تحتفظ بولاء مركزي لمقديشو، بل يأتي ولاؤها لزعماء عشائريين أكثر من الحكومة الفيدرالية.
واتبعت مقديشو إجراءات احترازية لاحتواء تيار كبير موالٍ لإثيوبيا بعدما انطلقت احتجاجات مؤيدة للوجود العسكري الإثيوبي في إقليم باكوول، إذ عبر 40 نائبًا في البرلمان عن تأييدهم لها، واتخذ المجلس النيابي إجراءات لرفع الحصانة عن 25 منهم بوصفهم خطرًا على وحدة التراب الوطني.
تشير التحركات الأخيرة إلى أن لإثيوبيا حلفاء يمكن التعويل عليهم لتصعيد الصراع في الصومال على المستويين السياسي والأمني، وهو ما يخلق تحديًا أمنيًا محتملًا لمصر، ربما يجرها لحروب الوكالة حتى دون الدخول في مواجهة مباشرة مع أي قوات إثيوبية.
تضمن التحالفات القبائلية العابرة للحدود لإثيوبيا مكانًا في النسيج الاجتماعي الصومالي، بينما تعاني مصر من تراجع قوتها الناعمة في مناطق غير ناطقة بالعربية في القرن الإفريقي، وهو ما يدفعها للتفكير في خلق استراتيجيات تقوم على خدمات ونماذج ملهمة تدعم من قدرات القاهرة الناعمة في الإقليم لنشر ثقافة مؤيدة لها بين القبائل.
لم تعد التحالفات العسكرية هنا أو هناك كافية لخوض صراع النفوذ ومنافسات القوى في القرن الإفريقي، وتحتاج مصر ما هو أكبر من الاستعراض العسكري، دون أن تتخلى عن هذا الاستعراض إذا استدعت الضرورة.