في المؤتمر الصحفي خلال استقباله الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في قصر الاتحادية، 21 يناير/كانون الثاني الحالي، استخدم الرئيس عبد الفتاح السيسي لهجةً تصعيديةً، قائلًا إن مصر لن تسمح لأحد بتهديد الصومال الذي له حق أساسي في اتفاقية الدفاع العربي المشترك بصفته عضوًا في الجامعة العربية.
كانت رسالة السيسي تستهدف إثيوبيا بلا مواربة ولا مساحة للتخمين، وترسم خطوطًا جديدةً للحرب الباردة بين البلدين.
ما الذي حدث؟
مطلع العام، سكبت إثيوبيا مزيدًا من الزيت على الاستقرار الهش للصومال حين وقعت اتفاقًا يمنحها الدخول العسكري والتجاري إلى المواني بمسافة 20 كيلومترًا على طول ساحل صوماليلاند، مقابل الاعتراف باستقلال الجمهورية المنفصلة من طرف واحد عن الصومال، التي لا تحظى بالاعتراف الدولي.
الاتفاقية سمحت لإثيوبيا بالتخلص من عقدتها الكبرى، كونها دولة حبيسة لا مواني لها على البحر الأحمر بما يخلق ضعفًا اقتصاديًا وأمنيًا. فمن الناحية الاقتصادية، تستغرق إثيوبيا وقتًا أطول وتكاليف أعلى لتمرير تجارتها الدولية. ومن الناحية العسكرية، تواجه مشكلة في عدم قدرتها على تنمية قوة بحرية قادرة على الدفاع عن مصالحها، ما جعلها تبدو كعملاق بلا قدمين.
على جانب آخر، شكلت الاتفاقية تهديدًا للصومال، فالاعتراف بجمهورية صوماليلاند الانفصالية يهدد وحدة البلاد ويؤكد انقسامها. كذلك تعتبر الحكومة الفيدرالية استئجار أراضٍ صومالية دون موافقتها بمثابة احتلال لتلك الأراضي وليس اتفاقًا شرعيًا.
بحث الصومال في الحلفاء المحتملين الذين يمكن أن يقدموا يد المساعدة، خاصة بين أولئك الذين تربطهم بإثيوبيا علاقات متوترة، وبدا الدور مناسبًا تمامًا لمصر لتلعبه. وفي هذا الإطار، جاءت زيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لمصر آملًا إيجاد طوق نجاة من الفخ الإثيوبي، ومانحًا مصر فرصة لانتقام يقدّم على طبق بارد.
هل تخرج مصر من سياسة الانكماش؟
تعاني مصر منذ سنوات من سياسة الانكماش الاستراتيجي، التي زادت وتيرتها مع تفاقم أزماتها الاقتصادية في العقد الحالي. ورغم أنها رسمت حدود مصالحها في ليبيا، حين أعلن السيسي نفسه أن مدينة سرت هي آخر خطوط تسامح مصر لتمدد تركيا في ليبيا، غير أن الخطوط الليبية كانت استثناء للميول الانكماشية لدى مصر مؤخرًا في التعامل مع أزماتها، حيث اختلف رد الفعل في مناطق أخرى تمتلك فيها مصر مصالح مشابهة، وربما أكثر.
تعاني مصر المنكمشة على ذاتها من أزمات تهدد أمنها القومي في الجنوب، أهمها أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، التي استخدمت المفاوضات اللا نهائية أداة تسويف، لإقرار وضع نهائي لاستكمال السيطرة على منابع النيل الأزرق.
كذلك ما يتعلق بتراجع قدراتها على التأثير في جوارها، وتفاقم الأزمة السودانية، وتراجع حلفاء مصر في هذا البلد لصالح قوى مناوئة لها. وأيضًا أزمة أمنية متمثلة في اختفاء أي وجود مصري في مناطق باب المندب والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهي منطقة تؤثر في حركة الملاحة في قناة السويس، الشريان الاقتصادي المهم لمصر.
ثلاث فرص ومثلها تحديات
وتحمل الأزمة الناشئة بين الصومال وإثيوبيا ثلاث فرص وثلاثة تحديات لمصر، نوجزها هنا:
فرصة للعودة لسياسة نشطة أمنيًا تحقق أهداف مصر
تخلق الأزمة فرصة لعودة مصر إلى سياسة نشطة أمنيًا تعتمد فيها على قدراتها، لا الآخرين، في تأمين مصالحها. إذ تحوَّل مدخل البحر الأحمر لمنطقة تنافس دولي وحضور لأطراف بعضها ليست على وفاق مع مصر. فبخلاف الحضور الإيراني القوي من خلال الدعم النشط للحوثيين، تمتلك إسرائيل قاعدتي "رواجيات" و"مكهلاوي" في إريتريا، كما أن لها قواعد جوية في جزر حالب وفاطمة عند مضيق باب المندب.
تمنح الأزمة مصر فرصةً لتأكيد فاعليتها وقدرتها على الدفاع عن مصالحها فيما وراء حدودها
ولدى الإمارات قاعدة في عصب الإرتيرية، وللسعودية قاعدة في دهلك، بخلاف قواعد أمريكية وفرنسية ويابانية وصينية في جيبوتي. حملت الأزمة فرصة جديدة لمصر لتأمين وجود شرعي لها بطلب من إحدى دول المنطقة في قضية عادلة؛ وهي الحفاظ على وحدة أراضيها.
فرصة للضغط على إثيوبيا
بعد تعثر مفاوضات سد النهضة واستمرار إثيوبيا في تعنتها، تحاول مصر فتح جبهة جديدة للضغط على إثيوبيا التي تستخدم خطابًا معاديًا لمصر للحفاظ على تماسك تحالفها الحاكم. تحالف مصر مع الصومال ووجودها الأمني هناك سيخلقان ضغطًا على إثيوبيا ربما يعيدانها للتفاوض، أو للتنازل للوصول لاتفاقية ملزمة لإدارة وتشغيل السد، بما لا يضر بحصة مصر في المياه. تلك الحصة التي تعتبرها إثيوبيا ادعاءات استعمارية غير مشروعة حصلت عليها مصر بغير وجه حق، بينما فقدانها يشكل خطرًا وجوديًا على مصر.
فرصة لدور نشط في إفريقيا
أدى تراجع الدور المصري في إفريقيا إلى تعزيز واقع جديد تراجعت فيه قدرة مصر على التأثير، وتراجع دورها لصالح قوى دولية جديدة. ففي السودان استُبعدت من الرباعية الدولية لحل الأزمة السودانية. كما عادت شكواها ضد إثيوبيا في مجلس الأمن إلى الاتحاد الإفريقي، الذي ينصح بمفاوضات أبدية بما لا يخلق أي أفق للحل.
تعاني مصر سياسيًا، وتمنحها الأزمة في القرن الإفريقي فرصةً جديدةً لتأكيد فاعليتها وقدرتها على الدفاع عن مصالحها فيما وراء حدودها.
تحدي اللجوء للعمل العسكري
تعارُض رغبات مصر وإثيوبيا في القرن الإفريقي ربما يهدد بصدام عسكري بين البلدين له ثمن كبير يتجنب الجانبان دفعه. فإن كانت لمصر اليد العليا عسكريًا على إثيوبيا، فالأخيرة متفوقة جغرافيًا نظرًا لقرب حدودها من الصومال، وقصر خطوط الإمداد. ما يجعل اللجوء لحل عسكري في القرن الإفريقي مغامرة غير مأمونة للطرفين.
تحدي العقيدة القتالية
لدى الجيش المصري عقيدةٌ قتاليةٌ وتجهيزٌ عسكريٌّ للحرب داخل حدوده، مع عمليات محدودة جدًا وبدعم دولي كبير خارج الحدود، مثل حرب تحرير الكويت، أو مهام محدودة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة. ولا يعتمد الجيش المصري على قواعد عسكرية في أراضٍ بعيدة عن حدوده، مما يجعله أشبه بقوة متفوقة لكنها قصيرة الأذرع.
كذلك، العقيدة العسكرية المصرية مصمَمة لمجابهة مخاطر قد تأتي من الشرق في الأساس. مما يجعل أي عملية عسكرية طويلة في الجنوب، مع طول خطوط الإمداد، عملية محفوفة بمخاطر لم تعتدها القوات المسلحة المصرية.
تحدي الأزمة الاقتصادية
قلّصت أزمة مصر الاقتصادية من قدراتها على تمويل شبكة تحالفاتها في إفريقيا، كما قللت من إمكانية استعراض قواتها العسكرية حتى في عمليات محدودة لدعم الحلفاء. لذا فأي محاولة لتمويل ظهور عسكري، حتى لو رمزي، بعيدًا عن الحدود المصرية في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، يعد تحديًا كبيرًا للقاهرة المنكفئة على أزماتها الداخلية.
عمومًا، خلقت الأزمة فرصها وتحدياتها. فمن ناحية، تتاح لمصر الفرصة لتعزيز وجودها في المنطقة، من خلال تحقيق أهدافها والضغط على إثيوبيا بشأن سد النهضة، وتعزيز دورها في إفريقيا. ومن أخرى، تواجه مصر تحديات كبيرة في تنفيذ هذه السياسة. كما أن الأزمة تطرح على القاهرة السؤال الأهم: أهي مستعدة للتخلي عن سياسات الانكماش الاستراتيجي وتقديم الثمن المناسب لذلك؟ لنر!