رحلة شاقة استغرقت 10 ساعات كاملة للوصول إلى مقر مجلس النواب بالعاصمة الإدارية الجديدة والعودة مرة أخرى لمنزلي، غرب الجيزة، من أجل تغطية الجلسة العامة التي أعلن فيها رئيس مجلس الوزراء برنامج حكومته الجديدة.
خضت قبل الجلسة نقاشات مطولة مع زملائي عن جدوى وجود الصحفيين في جلسة إجرائية روتينية مذاعة على الهواء، يُلقي فيها مصطفى مدبولي برنامجه ويختمها رئيس المجلس بإعلان تشكيل لجنة برلمانية لدراسة البرنامج وإعداد تقرير بشأنه ليُعرض على المجلس في جلسة لاحقة.
في السنوات السابقة، ما قبل إنهاء عصر شرفة الصحافة التي كانت تطل مباشرة على القاعة، قبل حصر وجود الصحفيين في قاعة خارجية منفصلة مزودة بأجهزة كمبيوتر حديثة وشاشات بث داخلي تنقل لهم الجلسة؛ كان هناك معنى لوجود الصحفيين وحضورهم بأنفسهم للجلسات العامة.
لم يقتصر دور الصحفي آنذاك على نقل الكلمات، بل كانت عين الطائر المحلق فوق القاعة الدائرية تحت القبة ترصد أحاديث جانبية هنا، إيماءات هناك، تبادل اعتراضات أو ثناء بالإشارات، علاقات تترسخ بين نواب ووزراء، أو خلافات تنشأ في دهاليز السياسة والمصالح والنفوذ.
كدت أقرر الاكتفاء بمتابعة الجلسة عبر البث التليفزيوني، وبلاها "شحططة"، لكن الفضول دفعني للذهاب؛ قد يكون هناك جديد في المقر الذي يقع وسط الصحراء يمكنني من رصد الأجواء، أو اقتناص تصريح مهم. لعل الرحلة تؤتي ثمار مشقتها.
وصل الصحفيون قبيل الثانية عشر ظهرًا لمقر المجلس في العاصمة الإدارية، قبل موعد الجلسة بساعتين، ثم فوجئنا بتأجيلها نصف ساعة، فبدأت بعد الثانية والنصف.
كان وقت الفراغ كافيًا للتجول في دهاليز المقر الجديد؛ يشبه بيت جحا الذي كنا نضل طريقنا فيه صغارًا في رحلات الملاهي، فلا تعرفُ من أين انطلقتَ ولا تدركُ لأين تتجه.
مساحات شاسعة، ومبانٍ وقاعات تلمع بالرخام والنقوش الذهبية، وبهو فرعوني يذكرك بمسلسل كارتون يحيى وكنوز الذي أنتجته الشركة المتحدة لتعريف الأطفال بالتاريخ الفرعوني. ورغم ذلك، يبدو المبني الحديث فقيرًا أمام مبنى وسط القاهرة التاريخي، فالنقوش الأصلية هناك ما زالت قادرة على إبهارك رغم مرور السنوات، ودقة النسب بين أحجام القاعات والأبواب تتعاظم في المبنى الأصلي، أمام المبنى الأكبر الذي يبقى فقيرًا في فنون الديكور والعمارة، مقارنة بالمقر التاريخي.
الشيلة الكاملة
بموجب المادة 146 من الدستور المصري، يجب أن يمنح مجلس النواب الثقة للحكومة بعد تشكيلها عقب الاستماع لبرنامجها، وعلى الرغم من أن اليوم انتهى بتشكيل لجنة برلمانية لدراسة البرنامج فإنها مسألة وقت. لا أحد يشك بأن وجود مشكلات تتعلق بوزير أو أكثر في الحكومة قد يدفع النواب لرفضها.
في قاعات الانتظار سادت أجواء احتفالية دون أي مناقشات عميقة عن تشكيل الحكومة. غير أن وزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف كان بطل الحديث المشترك بيني وبين النواب والنائبات الذين التقيتهم، دون أي أمل في تغييره على الأقل حاليًا، لأن المجلس يوافق على الحكومة كلها، ولا يزكي وزيرًا ويرفض آخر.
قالت إحدى النائبات ضاحكة "هنوافق على الشيلة كاملة مفهاش اختيارات"، بينما ردت أخرى بجدية "مش هنقدر نُحكم عليه غير لما ندّي له فرصته".
وعندما انتقل الأعضاء للقاعة الرئيسية ودخل الوزراء، قابلهم النواب بالأحضان والقبلات، خاصة الوزراء الذين بدأوا مسيرتهم مع مدبولي منذ التشكيل السابق.
حضرت الحكومة بتشكيلها الجديد كاملةً، وشارك أغلب النواب في الجلسة العامة، التي بدأت عندما حضر رئيس الوزراء، الذي كان آخر من يصل.
الوزير النجم
يحتفظ المستشار محمود فوزي وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي بمكانة مميزة بين أعضاء مجلس النواب الحالي بحكم أنه كان أمينًا عامًا للمجلس منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 خلال الفصل التشريعي الأول، حتى تقدم باستقالته في ختام اليوم الأول لانعقاد المجلس الحالي في يناير/كانون الثاني 2021.
استمرت علاقات فوزي بأغلبية الأعضاء، الذين كان في استقبالهم خلال مرحلة استخراج الكارنيهات وإتمام إجراءات العضوية في بداياتهم، وانتعشت مرة أخرى مع الحوار الوطني الذي شارك عدد كبير من النواب في جلساته.
وقوعنا في فخ الانحياز ليس رغبةً منا في تعثر الحكومة لكنه فقدان ثقة
كان فوزي الوزير الوحيد الذي توجه للنواب لتحيتهم في صالون الانتظار قبيل بدء الجلسة العامة، كما أدلى بتصريحات لممثلي قنوات الشركة المتحدة، التي حضرت بأطقم رفيعة المستوى، فكان هناك رئيس قطاع القنوات الإخبارية أحمد الطاهري، والإعلامي شادي شاش كبير المذيعين في إكسترا نيوز، والإعلامي عمرو خليل الذي يعمل حاليًا بقناة القاهرة الإخبارية، وسبق وأداروا مناقشات في مؤتمرات الرئيس بأنفسهم.
فخ الأخبار الكاذبة
بعد بدء الجلسة، ودعوة رئيس المجلس مدبولي لإلقاء كلمته، ساد الصمت قاعة الصحافة التي نتابع فيها الجلسة عبر الشاشة، فلم أعد أسمع سوى دقات أصابعنا على الكيبورد.
خلال عملنا، وقعتُ وأربعة صحفيين في خطأ خلال حديث مدبولي عن أزمة الكهرباء، لكن تسجيلًا صوتيًا احتفظ به أحدنا للجلسة أنقذنا من الوقوع في فخ نشر أخبار كاذبة. كان للتسجيل، الذي يمنعونه، فائدة عظمى لصالح الحكومة، ساعدتها على الإفلات من شيوع الخطأ وسط صحفيين من صحف متعددة.
ففي الفقرة التي تحدث فيها مدبولي عن معاناة المصريين من انقطاع الكهرباء، نشط رادار الكلمات في عقولنا كصحفيين لنلتقط ما بعدها، سمعنا، أنا وأربعة من زملائي، مدبولي يتعهد بحل أزمة انقطاع الكهرباء "في النصف الأول من برنامج الحكومة"، ما يعني خلال عام ونصف العام من مدة البرنامج الذي يستمر ثلاث سنوات. لكن بعد الرجوع للتسجيل، تبين تعهد مدبولي بإنهاء الأزمة خلال ستة أشهر من بداية برنامجه.
يفسِّر علم النفس هذا الخطأ من خلال تعريف الانحياز المعرفي التوكيدي، الذي يدفع الشخص لسماع المعلومات التي تؤكد أفكاره المسبقة وقناعاته، بغض النظر عن كونها صحيحة أم لا.
وقوعنا في فخ الانحياز والأحكام المسبقة ليس رغبةً منّا في تعثر الحكومة، ولكن فقدان ثقة في مدبولي وقدرته على حل الأزمة جعلنا نتورط لا شعوريًا في الخطأ. فسبق وتعهد الرجل بإنهاء إجراءات تخفيف الأحمال في الأسبوع الثالث من يوليو/تموز الجاري، والآن يتعهد بإنهاء انقطاع الكهرباء خلال ستة أشهر.
مدرسة المدبوليزم
في تلك الجلسة، كنا على موعد مع مشهد مسرحي جديد لمدبولي. يتحدث رئيس الوزراء الذي بدأ تجربته الأولى في قيادة الحكومة عام 2018، وكأنه غير مسؤول عن الفشل المتكرر في الملفات الأساسية على مدار 6 سنوات. يعيد مدبولي صياغة نفس وعوده التي سبق وقطعها على نفسه قبل 6 سنوات أمام مجلس النواب في يونيو/حزيران 2018 في برنامجه "مصر تنطلق".
وقف مدبولي بعد 6 سنوات كاملة يكرر نفس التعهدات التي فشل في الوفاء بها، يتحدث عن الأمن القومي بمفهومه الشامل، ويشير إلى الأمن المائي للمصريين وعدم التفريط فيه، في وقت فشلت السلطة في حل أزمة سد النهضة الذي دخل مرحلة الملء الخامس.
تحدث مدبولي أيضًا عن أمن الطاقة كجزء من الأمن القومي، وهو ذاته ما أشار له في بيانه السابق عندما تعهد بضمان إمدادات الغاز الطبيعي إلى قطاعات الاستهلاك المختلفة وبدء عمليات البحث عن البترول والغاز بالبحر الأحمر وغرب البحر المتوسط وتعظيم الاستفادة من الغاز. لكن ها هي الحكومة، بعد 6 سنوات، تتبع سياسات تخفيف الأحمال لنقص الغاز.
نصًا، قال مدبولي في 2018 "رسالتنا واضحة، وهي أننا لن نترك شخصًا فقيرًا يتكفف الناس، فالحكومة أولى به من ناحية التشغيل إن كانت لديه القدرة على العمل، أو من ناحية إعالته إن كان غير قادر على الكسب أو كان واقعًا تحت خط الفقر". بينما خلا خطابه الأخير من الحديث عن الفقراء بشكل مباشر، مكتفيًا بالإشارة إلى إتاحة برامج الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجًا.
خطاب مكرر رتيب، استمر نحو 45 دقيقة، ادعى مدبولي خلاله أنه يقدم جديدًا، وما هو إلا نسخة معدلة من خطابه القديم، وعنوان جديد لبرنامج مكرر، من "مصر تنطلق" إلى "معًا نبني مستقبلًا مستدامًا".
عدت إلى منزلي مساء منهكة تمامًا من المشوار الطويل، ولم أحسم بعد هل كان عرض المدبوليزم يستحق كل هذه المشقّة؟