بلهجة سياسية أكثر حسمًا من أيِّ وقت مضى، أعلنت وزارة الموارد المائية والري، في بيان أصدرته الأسبوع الماضي، انتهاء الاجتماع التفاوضي الرابع بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن أزمة سد النهضة، ومعه انتهاء "المسارات التفاوضية" للحل، وأكدت احتفاظ مصر بحقها في الدفاع عن أمنها المائي والقومي إذا تعرَّض للضرر.
للمرة الأولى تستخدم السلطة في مصر تعبيرات حاسمة في هذه القضية الوجودية بالنسبة للبلد ومستقبله، وللمرة الأولى أيضًا يبدو من صياغة البيان الرسمي أنَّها بدأت تبحث بجديّة مسارات أخرى، بعد أن "بات واضحًا عزم الجانب الإثيوبي على الاستمرار في استغلال الغطاء التفاوضي لتكريس الأمر الواقع على الأرض، والتفاوض بغرض استخلاص صك موافقة من دولتي المصب على التحكم المطلق في النيل الأزرق بمعزل عن القانون الدولي".
أشار البيان إلى استمرار "ذات المواقف الإثيوبية الرافضة عبر السنوات الماضية للأخذ بأيٍّ من الحلول الفنية والقانونية الوسط، التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث، وتمادي إثيوبيا في النكوص عما تم التوصل له من تفاهمات ملبية لمصالحها المعلنة"، وبالطبع فإنه "على ضوء هذه المواقف الإثيوبية تكون المسارات التفاوضية قد انتهت"، وأن مصر "سوف تراقب عن كثب عملية ملء وتشغيل سد النهضة"، وأنها "تحتفظ بحقها المكفول بموجب المواثيق الدولية في الدفاع عن أمنها المائي والقومي في حاله تعرضه للضرر".
نهاية مسار متعثر
اختتم هذا البيان مسار التفاوض المباشر الذي اختارته السلطة في مصر منذ سنوات، دون أن يسفر عن أيِّ تقدم، أو يصل بالأطراف إلى نقطة تفاهم على اتفاق ما يمكن البناء عليه مستقبلًا، أو حتى اعتباره بداية مسار قد يفضي لحل نهائي للقضية الشائكة.
فالواضح منذ البداية أنَّ الطرف الإثيوبي كان يناور، ووافق على المشاركة في المفاوضات المباشرة فقط لتجنّب الظهور أمام المجتمع الدولي بمظهر المتعنت، لكنَّه في الحقيقة لم يكن ينوي إبداء أيّ مرونة. انخرطت إثيوبيا في المفاوضات وهي تردد مزاعمها بأنَّ مصر تتعامل بعقلية الاستعمار، في إشارة إلى الاتفاقات التي تنظم استفادة دول حوض النيل من المياه، والتي تعتبرها إثيوبيا إرثًا استعماريًا آن الأوان للتخلص منه.
ينبغي أن تتصرف مصر بما تمليه عليها مصالحها وضمان مستقبل شعبها
برعاية الاتحاد الإفريقي وطوال السنوات الماضية وصل مسار التفاوض لنهايته، واستنزفت إثيوبيا كل رصيد الأمل الذي كان يراهن عليه البعض في التوصل لحل وسط، حتى انتهينا إلى نقطة الإعلان الرسمي المصري الواضح عن عزم إثيوبيا الاستمرار في استغلال التفاوض لتكريس الأمر الواقع، واستخلاص صك موافقة من دولتي المصب على التحكم المطلق في النيل الأزرق الذي تقيم عليه إثيوبيا سدها الكارثي.
وما سهَّل فشل هذا المسار التفاوضي، تعثّر الجهود المصرية في "تدويل القضية"، أي عرضها على مؤسسات دولية تكون طرفًا ضاغطًا على إثيوبيا لإجبارها على الالتزام بالوصول لاتفاق قانوني حول ملء السد وتشغيله.
ففي يوليو/تموز 2021، طرحت مصر قضية سد النهضة على مجلس الأمن الدولي، وأوضح وزير الخارجية سامح شكري، خلال الجلسة، مخاطر السد الإثيوبي على الحياة في مصر، ولكن جاءت النتائج مخيبة للآمال، إذ اكتفى المجلس في بيانه الصادر عقب الجلسة بإعلان "تشجيع مصر والسودان وإثيوبيا على العودة للمفاوضات حول السد برعاية الاتحاد الإفريقي".
هذا البيان يعني عمليًا أنَّ مجلس الأمن أدار ظهره للأزمة، وأعلن دون لبس أنه لن يقدِّم شيئًا في سبيل الوصول لحل سياسي وقانوني للمشكلة. أدركت السلطة في مصر ذلك ولم تعُد إليه مرة أخرى، وأكدت ذلك في مايو/أيار الماضي، على لسان وزير الخارجية عندما قال إن الذهاب إلى هناك "ليس مطروحًا في الوقت الحالي".
مدخل لازم للمسارات البديلة
في الإجابة عن الأسئلة المشروعة والطبيعية حول خطط السلطة في مصر في التعامل مع السد بعد الإعلان عن انتهاء المسار التفاوضي ما يطمئن المواطن المصري، وما يؤكد أنَّ مصر لن تستسلم "لفرض الأمر الواقع"، في قضية لا تحتمل المناورات ولا التعتيم.
وفي إعلان السلطة أنِّ لديها خططًا وتصورات عن المرحلة المقبلة بعد إعلان فشل المفاوضات باللهجة السياسية التي استخدمتها ما يحسب لها، وإن كان يستدعي بالضرورة العديد من الأسئلة، معظمها عن هذه البدائل المتاحة والخطط المقبلة.
أول مسار بديل سيطرأ إلى الذهن هو الأصعب، ولكنه خيار كان ينبغي أن يظلَّ مطروحًا طوال الوقت، وأعني الخيار العسكري، أو توجيه ضربة عسكرية للسد الإثيوبي. يحتاج هذا المسار إلى حسابات عسكرية وسياسية واقتصادية دقيقة، فضلًا عن أسئلة فنية حول إمكانية اللجوء لهذا المسار بعد أن تم الانتهاء من الملء الرابع للسد في سبتمبر/أيلول الماضي، وبات يحوي مليارات الأمتار من المياه، بما يخشى معه من غرق السودان أو جزء منه.
ولكن في جميع الأحوال، ومهما كان المسار البديل الذي ستذهب إليه القاهرة، فإن ما ينتظره المصريون بعد التأكيد "رسميًا" على فشل المفاوضات، هو عرض اتفاقية إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015 على البرلمان ليرفضها، تمهيدًا لإعلان الانسحاب منها، كمقدمة لما هو آتٍ.
ينبغي أن تتصرف مصر بما تمليه عليها مصالحها وضمان مستقبل شعبها، وظني أنَّ هذه هي الخطوة المهمة والوحيدة في هذه اللحظة، فربما تنبِّه دول العالم إلى أنَّ المنطقة مقبلة على صراع مفتوح، وأنَّ هناك ضرورة للنظر إلى قضية سد إثيوبيا كقضية وجودية بالنسبة لمصر، ومنحها ما يليق من اهتمام وعناية وتقدير لما يواجه هذا البلد من أخطار.