في فيديو جديد للشيخ إبراهيم الماليّ، وهو من علماء الأزهر من جمهورية مالي، يحكي قصتين ذواتيْ علاقة وطيدة بمجادلتي السابقة في مقالي عن الزنوجة وعدم عدائنا لــ"الرجل الأبيض".
الأولى عن انزعاجه من مناداته بـ"سمارة" في بداية إقامته بمصر، حيث ظنها وصفًا عنصريًا. فكان رده على ذلك تأليف كتاب فكاهي منظوم، أي مكتوب على أوزان الشعر، سمّاه "مد يد العون في حل مشكلة اللون". وقد رحب بالكتاب شيخه الأزهري وأضاف إليه موافقًا له في تفضيل السواد على البياض في الغزل.
الأمر نفسه شكا منه رئيس وزراء السودان الأسبق عبد الله حمدوك، في الندوة التي استضافه فيها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في 11 مارس/آذار 2021. ثم يضيف الشيخ الماليّ أنه علم ما في تلك الكلمة من تودد وتدليل ومزاح، لاحقًا، وكانت من بين وجوه عدة لمعاناته مع اللهجة المصرية التي لم يفهمها إلا بعد سنوات من حديثه بالفصحى.
القصة الثانية عن إهدائه قصيدة لزوجته المصرية، أسماء، على سبيل الوفاء لها والعرفان بجميل صنعها إذ قبلت الزواج منه وقاومت معارضة أهلها في البداية. فيحكي عنها وعن نفسه أنها قبلت الزواج منه وهو "أجنبي، غريب عن البلد، طالب علم، إفريقي، زنجي، إلى آخره"..
تزامن بث ذلك الفيديو ضمن بودكاست "حكايات إفريقية" مع قراءتي عن إلغاء الرق في موريتانيا عام 1981 ثم أزمة الموريتانيين الأفارقة، والصراع العرقي مع السنغال ومالي في نهاية ذاك العقد الكئيب. ولفت انتباهي أنَّ العرب والأمازيغ في موريتانيا تجاوزوا جانبًا معتبرًا من خلافاتهم التاريخية بالمصاهرة، وأنهما معًا يُسمُّون "البيظان"، أي بيض البشرة، في مقابل السودان، أي سود البشرة من زنوج غرب إفريقيا.
المفارقة أن العرب والأمازيغ في موريتانيا ليسوا بيضًا بأيٍّ من درجات لون البشرة البيضاء، بما فيها القمحي، وإنما ذوو لون "أسمر"، ذلك الذي يدلله المصريون بـ"سمارة"، ويغنون له الأغاني ويتغزلون به. أما السودان عندهم، فليست سودان النيل ولا شرق إفريقيا، بل زنوج جنوب الصحراء.
الاستسهال في استخدام مصطلح "الرجل الأبيض" كوصمة استعمارية سينقلب علينا
وكما يتصالح المصريون مع السُّمرة، ويعدون العيب في وصف السواد، فإن أهل موريتانيا، آخر بلد ألغى قانونية الرق في العالم، ولم يجرّمها سوى في مطلع القرن الحالي، ليست لديهم مشكلة مع استعمال السواد في وصف الشخص، لكنَّ العيب كلَّ العيب، الذي صار جريمة بقوة القانون لاحقًا، هو أن ينادى الإنسان بما يحمل معنى العبودية، أو أن يُعايَر بأصول عائلته من العبيد السابقين، وهم الحراطين.
وهكذا، نجد أن العرف الاجتماعي هو ما يعطي الكلمة معناها، وليست القواميس، وهو ما أوضحت طرفًا منه في مقال تعريب كلمة 'ترنِد' وخرارات المعاجم. ويؤكد ذلك أهميةَ الأصالة في اتخاذ المواقف النقدية من اللغة المسيئة أو المنتهكة لحقوق بعض المجموعات البشرية، من دون تحمِّل أعباء تاريخية لتجارب بعيدة عنا جغرافيًا واجتماعيًا.
سيعدوننا "الرجل الأبيض" المستعمر
الاستسهال في استخدام مصطلح "الرجل الأبيض" وصمةً استعماريةً سينقلب علينا، بل إنه انقلب بالفعل حينما استعملته الدعاية الإثيوبية المروّجة لسد النهضة، حيث عدت مصر "مستعمرًا أبيضَ" يحارب حق إثيوبيا السوداء في التنمية والازدهار!
الكوميديا "السوداء" هنا أنَّ مصر تعرضت للغزو الاستعماري من قبل الحملة الفرنسية في القرن الثامن العشر، واحتلها المستعمر البريطاني سبعة عقود بين القرنين التاسع عشر والعشرين. في الوقت نفسه، فإن إثيوبيا لم تُحتَل بالكامل أبدًا، بل يفتخر الإثيوبيون أنهم أصحاب البلد الإفريقي الوحيد الذي لم يقع تحت سلطة الاستعمار بأكمله، وإن سقطت بعض أراضيه تحت الاحتلال الإيطالي.
هذا الخطاب العنصري، الذي يعد مصر العربية الإفريقية مستعمرًا، استعمله أيضًا بعض المتعصبين السودانيين في السنوات الماضية، خصوصًا فيما يتعلق بالنزاع حول حلايب وشلاتين. وهنا تكمن الخطورة؛ إذ بدأت دلالة المصطلح تتجه من المجاز الذي يشمل، في السياق الأمريكي، أفروأمريكيين مثل كولين باول وكونداليزا رايس، إلى المعنى الحرفي لكلِّ من هو فاتح البشرة.
في لحظات تطرف نادرة، سمعت بأذني نوبيين مصريين يستعملون خطابًا عنصريًا في سياق رد الفعل على معاناتهم التاريخية من التهميش ومظلمتهم الطويلة في قضية التهجير. ولم تكن العنصرية في ذلك الخطاب لونية، بل عرقية. فكثير من الصعايدة والعرب ذوو بشرة لا يختلف لونها عن لون النوبيين، علمًا بأن النوبيين كلهم ساميون، وليسوا حاميين زنوجًا.
إذا كان المجاز محفوفًا بالمخاطر فلنهجره إلى التسميات الحقيقية
وإذا مددنا الخط من إثيوبيا إلى السودان ثم إلى النوبة المصرية، فما الذي يوقفه عن الوصول إلى الصعيد؟! وهكذا، سنصحو يومًا لنجد كل داكن بشرة يعتبر أيَّ ذي بشرة أفتح منه قليلًا "رجلًا أبيضَ" مستعمرًا، ويفتح المندبة والمبكاة، ويجد كلُّ ذي بشرة فاتحة نفسه في موضوع ابتزاز ليبرهن أنه ليس "أبيضَ"، بالمعنى الحقيقي، لينفي عن نفسه البياض المجازي، أي الاستعماري.
وفي ذلك البؤس المحتمل، الذي أرجو ألا يتفاقم تحت وطأة السفاهات والتفاهات المتبادلة بين الكمايتة وأنصار المركزية الإفريقية، سينجو من الملاحقة أي مجرم مستغل من ذوي الانتماءات إلى المجموعات اللونية/العرقية الأدكن، وكأنَّ ميلاد الشخص أسود، على الحقيقة، أو مجازًا بانتمائه إلى جماعة بشرية تشكو التهميش، صك براءة أو امتياز حقوقيّ، يستعمله ضد المنتمي إلى "البيظان"، حقيقةً أو مجازًا.
ما السبيل إذن؟
أرى أن نستفيد من تجربة منظمة الصحة العالمية مع جائحة كورونا، التي تعلمت من الدروس التاريخية خطورة تسمية أي وباء باسم مكان محدد من العالم أو ربطه بجنسية أو عرق. لم تكتفِ المنظمة بمراعاة المعايير في اجتماعاتها المغلقة، بل أعلنتها على الملأ لإيصال الرسالة إلى العالم، بأنها لن تشارك في وصم أي مجموعة بشرية وربطها بوباء قاتل، حتى لا يُستغل ذلك في إنتاج خطاب كراهية أو تحريض ضدهم.
في سياقنا، ينبغي لنا أن نحارب التعبيرات التي تحمل عنصرية واضحة أو محتملة، كما نواجه اعتبار الصراع في فلسطين دينيًا ونحرص على إنسانيته التي تخدمها دوافعنا الدينية، لا العكس. وفي الخطاب المقاوم للسلوك الاستعماري، ينبغي ألا ننسى أن تنوعنا العرقي كبير، أو أن تنوعنا اللوني أعقد.
فالاستسهال في استعمال مصطلح "الرجل الأبيض" ليس فقط تفخيخًا لعلاقة "السُّمر" من العرب بالبيض منهم، أو من الشركس والأكراد والأمازيغ والتركمان والفرس، بل هو وقود خبيث الاشتعال في العلاقات البينية داخل المجتمع الأسمر الواحد، بين الأسمر والأشد سمارًا، فضلًا عن الوقيعة بين عرب إفريقيا ونوبيّيها من ناحية، وبين زنوجها السود من ناحية أخرى.
فإذا كان المجاز محفوفًا بالمخاطر، فلنهجره ونعُدْ إلى التسميات الحقيقية، ولا نستثقل أن نستعمل التعبيرات الطويلة كثيرة الحروف، مثل "الاستعلائية الاستعمارية" عوضًا عن اختزالها واللعب بنيران مصطلح مكثف مثل "الرجل الأبيض"!