وصلت مباحثات سد النهضة إلى طريق مسدود، وأصبح السد حقيقة واقعة تهدد مصر وجوديًا، وهو ما قد يجعل العامل الخارجي على المستويين الإقليمي والدولي أكثر تأثيرًا في الخيارات المصرية المستقبلية سياسيًا واستراتيجيًا. ومع هذا المناخ المأزوم على دولتي المصب؛ مصر والسودان، من الطبيعي أن تثور أسئلة حول مدى مسؤولية دوائر صنع القرار المصرية عن الوصول إلى هذه الحالة، وكيفية إداراتها للملف، من حيث القرارات والأدوات.
في هذا السياق، يحتل إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015 قمة الجدل العام في مصر، وما إذا كان عاملًا في زيادة التعنت الإثيوبي، ومدى مسؤوليته عن وضع مصر في زاوية ضيقة، إلى حد جعل الخيار العسكري أمرًا مطروحا على المستوى الشعبي، بدرجة قد تكون ضاغطة على صانع القرار في قمته.
بطبيعة الحال لا يمكن تقييم اتفاق المبادئ من حيث مدى حفاظه على معطيات الأمن المائي المصري، دون النظر إلى البيئة المحيطة به والمقدمات التي جعلت منه واقعًا، وهل هو مسؤولية تقع منفردة على النظام السياسي الحالي، أم أنه إرث ثقيل لم تحسن النظم السابقة التعامل معه، وهل كانت ثورة يناير دافعًا وراء بنائه؟
في هذا السياق نتعرض أولًا للبيئة المحيطة باتفاق المبادئ وسد النهضة من الزوايا المصرية والسودانية والإثيوبية، حتى يمكن قياس أوزان الأطراف، ومدى مساهمة بنود الاتفاق والتوقيع عليه في حالة الأوزان الثلاثة إزاء بعضهما البعض.
تفاعل منقطع وقراءات متأخرة
المتابع لمواقف النخب الرسمية المصرية من النيل تاريخيًا، يكتشف أن هذه النخب كانت دائمًا في موقف رد فعل لأي حالة تهديد للتدفقات المائية من النهر مهما صغرت، لكنها لم تخرج من هذه الدائرة إلى دائرة الفعل الاستراتيجي إلا في لحظتين تاريخيتين نعرفهما، وثالثة شبه مجهولة وتحتاج بحثًا ودراسة.
كانت لحظة الفعل المصري الأولى تجاه نهر النيل عندما أسس محمد علي نهضة زراعية تستند إلى النهر وأرسل البعثات لاكتشاف منابعه، وذلك تحت مظلة مشروع تنموي وتحديثي شامل. أما اللحظة الثانية فجاءت مع إقدام عبد الناصر لأول مرة على تخزين للمياه داخل الحدود المصرية وذلك بعد مرحلة كانت تقوم فيها مصر بإقامة السدود خارج أراضيها، ولكنها تتحمل تكاليفها كسد أوين في أوغندا مثلًا.
أما اللحظة الثالثة فتلك التي تتحدث عنها إحدى الوثائق البريطانية وتشير إلى أن مصر تقدمت في عام 1950 لبريطانيا، باعتبارها صاحبة الولاية على دول منابع النهر، بمشروع لإقامة عدد من السدود في بعض الدول الإفريقية من أجل زيادة الموارد المائية للنهر، تعود بالفائدة على الجميع خصوصًا وأن هذه الموارد يضيع منها في المستنقعات 56 مليار متر مكعب من المياه، ولكن بريطانيا الاستعمارية رفضت الطلب المصري.
أما فيما عدا هذه اللحظات الثلاث نستطيع القول إن النخب الحاكمة المصرية الحاكمة افتقدت، بعد بناء السد العالي، حس التخطيط الاستراتيجي لمنظومة حوض النيل ومتابعتها، حتى بعد استقلال دُولِه وظهور قيادات جديدة مغايرة لمن كانوا في في فترة التحرر الوطني، ووجود أطراف تحرض دول المنابع دائما على مصر وحصتها المائية*.
وبعد مرحلة عبد الناصر التي انشغل فيها بالصراع العربي الإسرائيلي أكثر من أي شيء آخر، فإنه وطبقًا للروايات والتسريبات المتناقلة فقد ظل كل من السادات ومبارك يهددان بضرب أي محاولة إثيوبية للقيام بإنشاءات هندسية على النيل الأزرق، وذلك دون حساب ضروراتها العملياتية من ناحية، وتداعياتها السياسية والاقتصادية من ناحية أخرى.
تسجيل صوتي للرئيس الأسبق حسني مبارك يقول إنه هدد بضرب أي سد إثيوبي
ومع الوقت فقد التهديد قدرته على ردع إثيوبيا كما فقدت النخب المصرية وآلياتها البيروقراطية قنوات التواصل مع النطاق الإفريقي، خصوصا مع غياب مبارك عن مؤتمرات القمة الإفريقية، حيث تم حبس موضوع نهر النيل في النطاق الفني للتعاون مع دول حوض النيل في أطر متعددة كانت آخرها مبادرة حوض النيل، وحتى هذا النطاق الفني تكلس كثيرًا مع استمرار وزير ري مبارك، محمود أبو زيد، في منصبه لأكثر من عقدين.
وفيما يخص السودان فقد تحول إلى نطاق معادٍ لمصر بسبب تعارض توجهات نظامي الحكم؛ مبارك في القاهرة والإخوان المسلمين في الخرطوم، حيث ركز البشير على تأمين نظام حكمه، ووظف موضوع سد النهضة لابتزاز مصر سياسيًا، إلى حد عقد اتفاقية دفاع مشترك مع إثيوبيا عام 2014، دون ان يتيح لنخبه الفنية فرصة دراسة السد النهضة تقنيًا، واستسلم للوعود الإثيوبية بمنحه الطاقة بثمن زهيد.
ويمكن القول إن الموقف السوداني من سد النهضة لم يتبلور نهائيا إلا في مطلع 2020 مع انسحاب إثيوبيا من التوقيع على اتفاق وواشنطن، وبعد أن تجاوز البناء في سد النهضة حاجز الـ 60%. وفي تقديرنا أن عدم الإدراك السوداني في التوقيت المناسب لمخاطر سد النهضة على السودان، ووقوفه موقف الوسيط ثم المعتدي على مصر، مسؤول إلى حد بعيد عن إضعاف موقف القاهرة وتشجيع أديس أبابا على المضي في البناء خصوصا وأن أي عمل عسكري ضد السد لا بد أن يشارك السودان فيه لاعتبارات خاصة بطبيعة مسارح العمليات.
وبينما كانت علاقات مبارك والبشير تتدهور أكثر فأكثر خلال سنوات التسعينات، بدت الصورة مغايرة في أديس أبابا؛ حيث يتبلور مشروع قومي بقيادة ملس زيناوي، كان ولا يزال، أي المشروع، محملًا بالعداء لمصر، دون أن تلاحظ عين القاهرة الرسمية هذه التوجهات في البداية رغم إعلان إثيوبيا توجهاتها السياسية الخارجية رسميا عام 2002، حيث صنفت مصر كمنافس إقليمي يرقى لمرتبة العدو.
ولكن دوائر الإدارة المصرية ظلت تنظر إلى إثيوبيا كدولة ضعيفة نتيجة انقساماتها العرقية بما يحول دون قيامها بمشروعات كبرى، متجاهلين دراسات مصرية بهذا الصدد، ودون تقدير تأثير الإسناد الغربي والإسرائيلي لإسرائيل وتحولها إلى صديق للاستثمارات الخليجية نتيجة أزمة الأمن الغذائي الخليجي، ذلك بالإضافة إلى أن الحلم الإثيوبي بإقامة سدود على نهر النيل هو حلم تاريخي، ترجمه مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي واقعا حين وضع مخطط لمجموعة سدود إثيوبية عام 1963 كآلية لتطويق عبد الناصر والضغط عليه.
وهكذا بدا أن دولتي المصب تتعاملان مع أزمة سد النهضة، التي انطلقت أولى جلسات المباحثات فيها في 28-29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، وهما لا تعلمان الكثير عن الطرف الثالث؛ من حيث التكوين وطبيعة مشروعه وأهدافه النهائية، فضلًا عن الهواجس المتبادلة بين القاهرة والخرطوم، حيث اختبرت إثيوبيا إرادة دولتي المصب وتوجهاتهما مرتين؛ الأولى عند تحويل مجرى النيل الأزرق في مايو/ أيار 2013، حينما رضخا لها في أن تكون المباحثات بين الأطراف الثلاث دون مشاركة أي طرف دولي، وذلك بعد أن أدان تقرير صادر عن اللجنة الدولية موقف إثيوبيا في هذا السد، وهي اللجنة التي تكونت لدراسة مواقف الأطراف عام 2011، وأصدرت تقريرا عام 2014 يعتبر أن حجم المعلن عن السد الإثيوبي قليل، وأنه لا يملك معاملًا واضحًا للأمان كإنشاء هندسي.
بعد تحويل مجري النيل الأزرق برزت في مصر وجهتا نظر بين فريقين بالإدارة المصرية الأول يقول بالاعتماد على القانون الدولي فيما يتعلق بالأنهار المشتركة، والقيام بتقديم إخطار قانوني برفض قيام السد وتدويل المسألة حتى يتم ردع إثيوبيا، أما الفريق الثاني فقد استشهد بالقضية الفلسطينية التي لم ينقذها القانون الدولي وأن حقًا بلا قوة لن يصمد أمام حجم الإسناد الدولي لإثيوبيا والذي توفره تاريخيًا الرافعة الإسرائيلية، كما أن الموقف السوداني كان معاديًا لمصر وغير مدرك لمخاطر السد على أمنه القومي، وهو ما جعل مصر وحيدة في الملعب، وهنا برزت فكرة اتفاق المبادئ على اعتبار أنه يمكن من خلاله، القبول بإقامة السد مبدئيًا، على أن يتم احتواء الموقف الإثيوبي في أطر استراتيجيات تعاونية تفيد دول حوض النيل الأزرق، وذلك دون حسبان لطبيعة الذهنية الإثيوبية التي تملك عداءً تاريخيًا لمصر، وتميل في أدائها للمعادلات الصفرية، وكان هذا نوعًا من الخبرة غير متوافر لدى دوائر صناعة واتخاذ القرار الذين انقطعوا عن التفاعل المباشر مع إفريقيا ونخبها الحاكمة لفترة طويلة.
قسم رئيس الوزراء الإثيوبي بعدم الإضرار بمصر. يونيو/ حزيران 2018.
هل يفشل الاتفاق فيما خلق له؟
يمكن القول إن صياغات الاتفاق بشكل عام اتسمت بالعمومية وابتعدت عن التفاصيل، كما أن بعض العبارات تحتمل تأويلات متناقضة، طبقًا لقراءة كل طرف وطبيعة مصالحه، ولكن يبقي أنه من المهم هنا ملاحظة أن هذا الاتفاق لا ينسحب على نهر النيل وموارده المائية لكنه يتعلق بسد النهضة فقط، باعتباره سدًا مولدًا للطاقة الكهربائية، حيث لم تتحدث بنود الاتفاق عن نهر النيل ولا إدارة موارده ولا تقسيمها بين الدول، ولكن تكمن أهمية هذا الاتفاق الحقيقية، بالنسبة لإثيوبيا، في الاعتراف بإقامة السد بهذه الملاءة الضخمة، التي تصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، في وقت كانت القاهرة تراهن على أنها قد تصل إلى اتفاق على تخفيض هذه الملاءة.
ولعل أهم عبارات الاتفاق وأكثرها شهرة وإثارة للجدل هي حقيقة اعتراف دولتي المصب بأن النيل نهر عابر للحدود الإثيوبية، وهو أمر غير مؤكد ويحتمل الجدل والتأويل لسببن؛ الأول أن الحديث عن الموارد المائية هو في ديباجة الاتفاق وليس أحد بنوده، والثاني أن النص في الديباجة لم يذكر نهر النيل بالاسم ويحدده كنهر عابر للحدود إذ جاء النص كالتالي "تقديرا للاحتياج المتزايد للمياه لكل من جمهورية مصر العربية وجمهورية إثيوبيا الفيدرالية، وجمهورية السودان لمواردهم المائية العابرة للحدود؛ وإدراكا لأهمية نهر النيل كمصدر الحياة ومصدر حيوي لتنمية شعوب مصر وإثيوبيا والسودان إلتزمت الدول بالمبادىء التالية". وطبقا لهذه العبارة ورد اسم النيل كمصدر للحياة فقط لا غير.
قد يكون الغموض النسبي بشأن ملء بحير السد واحدًا من المآخذ الأساسية على بنود الاتفاق، وهو ما تتعامل معه إثيوبيا حاليًا أن كل مراحل الملء هي هذا الملء، بالإضافة طبعًا إلى عدم الحديث عن الجفاف والجفاف الممتد الذي هو أحد سمات نهر النيل، وهو المؤثر جدا على مصر، حيث لا تستطيع التعامل مع نقص الموارد القادمة من نهر النيل أكثر من ثلاث سنوات متتالية، وهو مايعد تقصيرا من جانب الجهات الفنية المصرية.
أما نقطة الضعف الثانية في هذا الاتفاق أن المادة العاشرة منه لم تذكر أن آلية فض المنازعات بين الأطراف هي مرجعيات القانون الدولي، ولكن اكتفت بالإشارة إلى طلب الوساطة أو إحالة الخلاف من المستوى الفني لرؤساء الحكومات، حيث جاء النص كالتالي:
"تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا.
إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم
مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة."
في هذا السياق فإنه ربما يكون البند الرابع في هذا الاتفاق هو الأكثر تفصيلا وحرفية حيث تعلق بالاستخدام المناسب والمنصف للمياه وأورد كل التفاصيل التي تعد اهتماما وشواغل مصرية ومن ذلك أن تأخذ الدول الثلاث في الاعتبار كافة العناصر الاسترشادية ذات الصلة الواردة أدناه، وليس على سبيل الحصر:
"أ- العناصر الجغرافية، والجغرافية المائية، والمائية، والمناخية، والبيئية وباقى العناصر ذات الصفة الطبيعية؛
ب- الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لدول الحوض المعنية؛
جـ- السكان الذين يعتمدون على الموارد المائية في كل دولة من دول الحوض؛
د- تأثيرات استخدام أو استخدامات الموارد المائية فى إحدى دول الحوض على دول الحوض الأخرى؛
هـ- الاستخدامات الحالية والمحتملة للموارد المائية؛ وعوامل الحفاظ والحماية والتنمية واقتصاديات استخدام الموارد المائية، وتكلفة الإجراءات المتخذة في هذا الشأن؛
و- مدى توفر البدائل، ذات القيمة المقارنة، لاستخدام مخطط أو محدد؛
زـ- مدى مساهمة كل دولة من دول الحوض في نظام نهر النيل؛
ح- تداعيات الاتفاق."
في الوقت الذي راهنت فيه مصر والسودان على تفاهم مع إثيوبيا، واستقرت مصر على بناء منظومة تنموية شاملة تؤسس لعهد جديد للعلاقات المصرية الإفريقية، كانت الإرادة السياسية الإِثيوبية تتبلور حول ضرورة التحكم في نهر النيل، وربما تسعير مياهه طبقًا لمفهوم إثيوبي سائد أن بيع المياه وارد طالما أن العرب يبيعون النفط، من هنا فإن أهم خسائر هذا الاتفاق بالنسبة لكل من مصر والسودان هي أنه قد أتاح لإثيوبيا القدرة على التمويل الدولي، حيث تم الترويج لاتفاق المبادئ من الجانب الإثيوبي على أنه اتفاق نهائي، وذلك على المستوى الدولي، خصوصا وأن إثيوبيا قد فعّلت بهمة ونشاط كل أدواتها الرسمية وغير الرسمية للترويج لهذا المفهوم عن اتفاق جزئي بأنه اتفاق شامل.
إجمالًا يبدو أنه في حالة عدم النجاح في التوصل إلى اتفاق شامل له مرجعية قانونية شاملة، سيكون إعلان المبادئ فشل في تحقيق النتيجة التي كانت مرجوة منه؛ إيجاد مناهج للتعاون بين دول حوض النيل الأزرق، فضلًا عن فشله في احتواء إثيوبيا التي تملك مشروعًا إقليميًا يسعى للتأثير على مصر والتضييق عليها، وهو حلم تاريخي للكثيرين منذ قرن كامل عبر عنه اللورد كرومر بأنه من يريد أن يتحكم في القاهرة فنهر النيل هو سبيله**.
وطبقا لهذا المشهد، سيكون حوض النيل أمام انقلاب استراتيجي يجعل إثيوبيا صاحبة اليد العليا على دولتي المصب، بما يرهن إرادتهما السياسية، ويؤثر على خططهما التنموية ويشكل عليهما عاملًا ضاغطًا، بالمعنى الشامل.
* لمزيد من المعلومات، انظر:
- تحريض بريطانيا لوزير الري الكيني قبل زيارته وتلقينه بشأن مطالب ذول المنابع في مياه النيل 1961، د. أماني الطويل، العلاقات المصرية السودانية.. مشكلات الإدراك وضرورات المصالح، المركز العربي للدراسات، الدوحة، 2012، صـ 207.
- تحريض أمريكي للسودان بعدم الإنخراط في إتفاقية 1959: أرشيف الخارجية المصرية، أرشيف الدول، السودان، محفظة رقم 14 ملف 744 / 81 / 12 جـ 2، تقرير المخابرات الحربية رقم 18 / 1 ، بتاريخ 25 / 7 / 1957.
** د. يونان لبيب رزق، السودان في عهد الحكم الثنائي الأول 1899 – 1924، معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1976. صـ 399 ، صـ 400.