في روايته الخالدة موسم الهجرة إلى الشمال يصف أديب السودان الأشهر الطيب صالح بطل روايته مصطفى سعيد بالنبوغ والعبقرية، وينعته بالتفوق الذي أغرى مدرسيه بنصيحته بمغادرة السودان للدراسة في الخارج. وفي محطة انتقاله لخارج السودان مرَّ بطل الرواية على القاهرة فترة من الزمن للدراسة، قبل أن تكتمل رحلته بالوصول إلى لندن.
كانت هذه إشارة واضحة لقيمة مصر لدى السودان وأهلها، خاصة جيل ما بعد الاستعمار الذي يمثله بطل الرواية. إيحاء لافت في رواية مهمة صدرت في العام 1966، لتناقش قضية الذات والهوية.
عند قراءتك للسيرة الذاتية لشاعر السودان الكبير الهادي آدم لن تندهش حين تعرف أن صاحب قصيدة أغدًا ألقاك البديعة التي غنتها السيدة أم كلثوم كان يدرس في جامعة القاهرة، ثم ستتأثر وأنت تقرأ قصة حبه لفتاة مصرية زميلته في نفس الجامعة بكل تفاصيلها وروعتها، ومن المؤكد أن أعمال "الهادي" الشعرية اختفت بسبب شهرة ونجاح رائعته، وباتت الغالبية العظمى من الناس لا تعرف الشاعر السوداني إلا بالقصيدة الشهيرة.
في كرة القدم التي تحولت مؤخرًا إلى ساحة حرب بين الأندية المصرية والسودانية، ربما لا يدرك كثيرون من مشجعي البلدين أن السودانيين من أكثر لاعبي كرة القدم احترافًا في مصر. وصل عددهم لعشرات اللاعبين، بل إن المصريين كانوا أحيانًا لا يعلمون جنسية بعض اللاعبين السودانيين الذين حازوا شهرة واسعة بموهبتهم مثل شطة لاعب النادي الأهلي المحبوب.
في الثقافة والفن والرياضة والتعليم وغيرهم، وبعيدًا حتى عن السياسة، كانت مصر والسودان بلدًا واحدًا، عشرات الأمثلة في كل ميادين الحياة يمكن ذكرها لتأكيد هذا المعنى النبيل الذي لا يمكن تجاوزه: هناك شعب واحد ارتبط ارتباطًا فريدًا لم ينفصل أبدًا مثلما لم يغير نهر النيل مجراه من الجنوب إلى الشمال.
ثم جرت في النهر مياه كثيرة.
كانت محاولة اغتيال الرئيس الراحل حسني مبارك في إثيوبيا عام 1995 هي البداية التي شكلت الضربة الأولى والقاصمة لعلاقات مصر والسودان. وفي اللحظة نفسها التي اتهم مبارك السودان بالتخطيط لمحاولة الاغتيال كان قراره بالقطيعة التامة مع البلد العربي الشقيق بل مع إفريقيا على نحو كامل.
في حسابات السياسة كان السودان، ولا يزال، مسألة أمن قومي مصري بامتياز.
هنا كانت الخطيئة الأولى للسياسة التي قاطعت بلدًا شقيقًا وفريدًا في علاقاته بمصر، بل لم تلتفت في غمرة الغضب من محاولة الاغتيال إلى الأمن القومي ولا تأثير القطيعة والأضرار التي يمكن أن تحدث بعد فتور العلاقات مع دولة تمثل عمقًا طبيعيًا بحكم الجغرافيا، حتى أن بعض السودانيين يحملون مصر جزءًا من مسؤولية انفصال جنوب السودان بالصمت وعدم الدعم والتوقف عن التحرك الدولي الداعم لوحدة السودان شماله وجنوبه.
محاولات التصحيح
في أعقاب ثورة يناير ووقت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمصر، بدأ عصام شرف رئيس الوزراء وقتها جولاته الخارجية بزيارة السودان. كانت محاولة لتصحيح أوضاع السياسة الخارجية في عصر حسني مبارك. التقى شرف بالرئيس السوداني السابق عمر البشير، ووقع البلدان عددًا من الاتفاقيات في مجالات الثقافة والبيئة والأمن الغذائي وغيرها.
لم تتبن السياسة المصرية لغة جديدة، ولا تفهمت تطورًا طبيعيًا وجيليًا حدث في السودان
في غمرة اللقاءات بين الجانبين المصري والسوداني كانت الشعوب المحكومة بالاستبداد تتطلع إلى دول الربيع العربي، وتحاول الخلاص من الأنظمة السلطوية والمستبدة. وقتها كان صوت الشعب السوداني، لا سيما الأجيال الجديدة، أخذ في الارتفاع مطالبًا بالتخلص من نظام البشير، ورافضًا أي علاقات بين نظام ديكتاتوري وبين "مصر الثورة".
ويبدو أن محاولات التقارب التي بدأتها مصر بعد 25 يناير انقلبت إلى "خطأ ثان" أزعج الشعب السوداني الذي كان يتطلع إلى التغيير والحرية، عبر الخلاص من البشير، واللحاق بركب دول الثورات العربية.
في 2019 أسقط الشعب السوداني نظام عمر البشير المستبد عبر ثورة شعبية عظيمة، شارك فيها ملايين السودانيين، وكان من الطبيعي أن ينتظر الشعب دعمًا عربيًا ومصريًا لثورته ولحقّه في تحقيق شعاراته الثوربة؛ حرية وسلام وعدالة. ولكن بدت السلطة المصرية تحمل فتورًا تجاه الثورة، ولم تدعم التحركات الشعبية في مواجهة نظام البشير، مما زاد من غضب الشعب السوداني ضد النظام المصري.
ثم توالت الحوادث التي رآها السودانيون دعمًا لعبد الفتاح البرهان وزير الدفاع السوداني في مواجهة التيار المدني الذي قاد الثورة السودانية ضد نظام البشير، وهو ما راكم الغضب وأضعف من الموقف والتأثير المصري في السودان بعد اتهامات بعدم الحياد وبدعم رموز النظام القديم.
أخطاء فادحة
سنوات كثيرة من القطيعة "المباركية" أعقبتها أخطاء فادحة في التعامل مع الواقع السوداني وقراءته على نحو صحيح كانت كافية لظهور أجيال جديدة لا تنتمي لمصطفى سعيد والهادي آدم ومؤتمر الخرطوم الذي رفع اللاءات الثلاثة في مواجهة إسرائيل، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، ولا تعرف الكثير عن مصر ولا تهتم بالمعرفة، وترى أن مصر ليست بريئة من جزء من معاناة الشعب السوداني مرة بمقاطعته وبتركه للانفصال، ومرات بدعم الاستبداد ضد أهداف الشعب في الحرية والسلام.
تصورات ترسخت بداخل أجيال نمت في ظل فتور وقطيعة مصرية سودانية أوصلت العلاقة بين البلدين إلى لغة غير مسبوقة من العنصرية والعنف ورفض الآخر.
رغم إيمان الجميع بأن السودان أمن قومي مصري، فإن الأخطاء في قراءة الواقع السوداني لا تزال مستمرة للأسف الشديد. ومع حدوث تغيير لا يمكن إنكاره بظهور أجيال سودانية تحمل أفكارًا جديدة، وانفتاحًا مختلفًا على العالم، وتصورًا مختلفًا عن مصر ودورها، لم تتبن السياسة المصرية لغة جديدة، ولا تفهمت تطورًا طبيعيًا وجيليًا حدث في السودان.
تماما مثلما حدث في مصر، لم تقدم مصر نفسها بطريقة تناسب ما حدث من تغييرات سودانية، بل استمرت السياسات القديمة نفسها التي لا تدرك أن جديدًا طرأ على البلد الشقيق، لا سيما في تركيبته الجيلية والسياسية ونخبه الفكرية والثقافية، وهو جديد يلزمه خطاب مختلف وتحركات واعية أكثر من الحادث الآن بكثير.