رغم الحربِ المستمرةِ في بلدها، فضلت السودانية عزيزة عوض العودةَ إلى ولاية عطبرة على البقاء في القاهرة، بعد 3 أشهر لم تتمكن خلالها من تحمل تكاليف المعيشة "خلال الفترة اللي قضيتها في القاهرة، ما عرفت أستقر بمكان ولا قدرت أطلع إقامة، ولا عرفت أسجل بالمفوضية"، قالت لـ المنصة عبر الهاتف.
تنقلت عزيزة التي تعمل في المحاماة ما بين حي فيصل وبولاق الدكرور بمحافظة الجيزة، ولم تتمكن من إيجاد عمل تؤمّن به مصدر دخل، لتختار العودة إلى السودان، مع دخول الحرب عامها الثاني في 15 أبريل/نيسان المقبل، دون أمد واضح لحل سياسي أو بوادر لانتهاء الاقتتال الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع.
تسببت الحرب في نزوح أكثر من مليون ونصف المليون سوادني خارج البلاد، حسب تقدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فيما نزح أكثر من سبعة ملايين آخرين إلى ولايات سودانية آمنة نسبيًا، ويتوقع سعيهم لمغادرة البلاد إذا ما طال القتال ملاجئهم الجديدة.
الطريق إلى الحرب
قطعت عزيزة رحلةَ عودةٍ طويلةً، استغرقت 10 أيام تقريبًا، "استنيت يومين في القاهرة لحد ما يوصل الأوتوبيس اللي بينقل السودانيين بين القاهرة وأسوان". قضتْ هناك 3 أيام قبل أن تجد حافلة أخرى تنقل المسافرين إلى داخل السودان، ويستلزم الأمر التفاوض مع السائقين على سعر التذكرة، التي يصل ثمنها لـ100 ألف جنيه سوداني (5 آلاف جنيه مصري تقريبًا).
تصف عزيزة الأيام التي قضتها في انتظار الأوتوبيس في أسوان بالأصعب طوال الرحلة، بشكل عام "الأسر السودانية اللي تقرر العودة بأطفالها بتواجه مآسي، لأنها ما معاهم فلوس يستأجروا مكان يستنوا فيه، اللي معاهم يادوب يكفي الطريق".
يخفف من الوضع السيئ الوجود الكبير للسودانيين بالقرب من طريق حلفا في أسوان، فيستضيفون العالقين لحين استكمال رحلتهم.
بعد وصولها الحدود، قرب مدينة حلفا السودانية "اضطريت أستنى يومين تاني عشان يكتمل عدد الركاب في الأوتوبيس، اللي بينقلنا لبداية طريق وادي حلفا الحدودي بين مصر والسودان وبكده بينتهي الجزء الأول من الرحلة".
بعدها بدأت مهمة شاقة جديدة تتمثل في البحث عن حافلة تنقلها إلى مدينة عطبرة حيث يعيش والداها بولاية نهر النيل، شمال شرق السودان، "مفيش أوتوبيس مباشر إلى عطبرة، أخدت وقت على ما لقيت حد يرضى يوصلني، خصوصًا إن الأغلب بيتجه إلى ولاية النيل الأزرق أو الولاية الشمالية وهي المناطق الأكثر هدوءًا، بس أنا اخترت عطبرة عشان أهلي". حين اكتملت الحافلة بالركاب دفعت عزيزة 100 ألف جنيه سوداني أخرى.
الطريق إلى عطبرة محفوف بالمخاطر. تتذكر عزيزة الرحلة "الأوتوبيس بياخد طرق وعرة صحراوية بعيدة عن الطرق الممهدة، فراغ أمني خالق حالة من التوتر، كنا بنسمع أصوات طيارات قريبة مننا على طول الطريق، وأصوات رصاص كثيف كان بيخلينا نوقف كتير لحد ما نتأكد إن مفيش اشتباكات قريبة. عشان كده أخدت يومين على ما وصلت".
لا تواجه الحافلات مشاكل في عبورها الحدود السودانية، لكنها تستغرق وقتًا بسبب ما تحمله العائلات العائدة من سلع غذائية "بيهرّبوا الأكل معاهم عشان مش موجود في السودان، وده بيخلي الوقت أطول عشان إجراءات التفتيش".
هروب جديد
في حين كانت عزيزة محظوظةً بالعودة إلى عطبرة، فإن صباح الصادق، تحلم بالعودة، لكنها لا تمتلك التكاليف بعدما صرفت كل مدخراتها التي جاءت بها إلى مصر قبل 10 أشهر، وأصبحت مهددةً بالطرد من الشقة التي تسكنها بحي فيصل في محافظة الجيزة بسبب عدم قدرتها على دفع الإيجار.
السودانية التي تبلغ من العمر 46 سنة حاولت على مدار الشهور التي قضتها في مصر أن تتكيف، تقول لـ المنصة "اخترت شقة صغيرة، قاعدين فيها أنا وأولادي الأربعة وأمي وأبوي، وشغالة ليل نهار. بس خلاص ما قادرة أستحمل والمصاريف كتيرة، واللي جيت بيه من السودان خلص كله".
صباح التي كانت تعمل مُدرسة في السودان، كانت تظن أن مدخراتها ستكفيها خمسة أشهر أو أكثر، "لكن انصدمت من الأسعار في مصر، بقت حاجة صعبة، بشتغل الصبح في تدريس السودانيين تبع جمعية خيرية، وبالليل بقف في محل برضه تبع سودانيين، وكل ده ما بيكفي المصاريف".
يبلغ راتبها من الوظيفتين 5 آلاف جنيه مصري، وإيجار الشقة 10 آلاف، "كنت بغطي الفرق من المدخرات بس خلصت. الشهر اللي فات فيه جمعية خيرية تبرعت لنا بالإيجار، بس ده وضع ما ممكن يستمر".
حاولت صباح الحصول على مساعدات من جمعيات خيرية ومن السفارة السودانية، لكنها لا تفي بالاحتياجات المتزايدة في ظل التضخم الاقتصادي الذي تعيشه مصر الآن، "مفيش مفر من الرجوع للسودان، بس أجيب تكاليف الرجوع منين؟".
تخطط صباح للعودة إلى ولاية بورتسودان التي لم تصل إليها الحرب بعد، حيث لديها بعض الأقارب يمكنهم استضافتها، لكن العودة ستكلفها 5 آلاف جنيه للفرد الواحد، "فيه جمعيات مصرية وسودانية بتحاول توفر المبالغ دي للي عايز يرجع".
تشير الأرقام الرسمية إلى عبور 450 ألف سوداني إلى مصر منذ اندلاع الحرب، فيما تمكن آخرون من الدخول بشكل غير رسمي عبر الصحراء، بالإضافة إلى خمسة ملايين آخرين مقيمين بشكل دائم.
وحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فإن مفوضية اللاجئين تعمل مع السلطات المصرية وشركائها المحليين لمساعدة الوافدين الجدد من السودان، لكنها لم تتمكن من تلبية سوى 31% فقط من احتياجاتها التمويلية الإجمالية حتى الآن، وهو ما يجعل الفجوة بين الاحتياجات والمساعدات المتاحة تتسع بشكل كبير.
الكارت الأصفر
توفر المفوضية إقامةً لمن دخلوا بطرق غير شرعية إلى مصر، حسب ميسون عبد السلام مديرة مؤسسة أجيال المستقبل للتعليم المجتمعي للطلاب السودانيين، "أزمة السودانيين مركبة، لأن كتير أُسر خلصت مدخراتها وما عادت قادرة توفي التزاماتها. كمان إجراءات التسجيل والإقامات الرسمية مكلفة. واللي دخلوا بشكل غير شرعي محتاجين تقريبًا 1000 دولار عشان يوفّقوا أوضاعهم، وده صعب توفيره مع أعداد العائلات الكبيرة".
الوصول إلى المفوضية أمنية بعيدة المنال بسبب كثرة الطلب عليها، إذ إن الإجراءات باتت طويلة وغير مضمونة النتائج، تبدأ بالاتصال لتحديد موعد للمقابلة، وقد يأخذ الأمر عدة أيام، بعدها قد يكون موعد المقابلة بعد ثلاثة أو أربعة أشهر.
"هذه الحالة خلقت ما يشبه السوق السوداء، هناك أشخاص يسهلون مهمة الوصول للمفوضية لتحديد موعد مقابل 700 جنيه للفرد الواحد"، تقول ميسون، التي لديها علاقات واسعة مع الجالية السودانية في مصر بفضل وجودها هنا منذ عقود.
التسجيل بالمفوضية يعني الحصول على "الكارت الأصفر"، الذي يفتح الباب للإقامة، حيث لا يتجاوز سعر استخراجه للشخص الواحد 200 جنيه. ولهذا يجازف السودانيون بانتظاره، ولو كان عليهم البقاء لفترة يصعب عليهم خلالها العمل أو حتى الخروج، خشية القبض عليهم وترحيلهم، ما يجعل الحياة مستحيلةً لأن أغلبهم ليست لديهم مصادر دخل.
وتعتبر ميسون أن منظمات المجتمع المدني والمبادرات الإنسانية العديدة التي دشنها سودانيون في مصر بالمشاركة مع جهات رسمية تلعب دورًا مهمًا في التخفيف من المصاعب التي يواجهها الفارون من الحرب، لكن في الوقت ذاته تقول لـ المنصة "توجد كيانات تحصل على تمويلات من جهات أجنبية من أجل تمويل المأزومين، دون أن تقوم بدورها على أكمل وجه".
ما تمنحه المفوضية وغيرها من الجمعيات من مساعدات هو ما أغرى الكثير من السوادنيين باللجوء لمصر، حسب ما تقوله صباح محمد، وهي صحفية وناشطة حقوقية، لـ المنصة. "لعبت الشائعات دورًا كبيرًا في دفعهم إلى هنا مع تأكيدات وجود مساعدات إنسانية كبيرة للاجئين، ووعود بسهولة الحصول على الكارت الأصفر، وبالتالي فإن الأغلبية جاءت على هذا الفهم، وانصدموا بالواقع الصعب".
الصحفية التي فرت إلى مصر مع اندلاع الحرب، كبقية الفارين، تعاني من ارتفاع إيجار العقارات وأسعار السلع والخدمات بوجه عام.
كانت صباح تعرضت أثناء رحلتها إلى القاهرة للعديد من المخاطر، "التفتيش المستمر من العناصر المسلحة من الجيش والدعم السريع ومصادرة فلوسنا ودهبنا اللي حاولت أوصل بيه مصر عشان أتسند عليه".
هجرة عكسية
رصدت الناشطة الحقوقية زيادة أعداد النساء والأطفال من بين من انتقلوا للعيش في مصر، "كثير من ربات الأسر تركن أزواجهن في السودان وهربن بحثًا عن تعليم أبنائهن، والآن يجدن صعوبة في إيجاد مصادر دخل. والكثيرات لجأن إلى العيش في سكن واحد مع أسر أخرى، ليحدث تكدس تسبب في مشكلات أخرى متعلقة بالمستأجرين الأساسيين. فبدأ أصحاب الشقق المصريين في طردهم".
ترى صباح محمد أن النساء يجدن فرصًا أكبر للعمل في مصر مقارنة بالرجال، "الأسر بيحصل فيها تبادل أدوار، الزوجة بتشتغل في محلات مثلًا أو في تنضيف المنازل، والزوج بيتولى رعاية الأبناء"، مضيفة أن ذلك مقبولٌ في مستويات اقتصادية بسيطة، "اللي كانوا ميسورين الحال في السودان بيرفضوا، وبالنسبة لهم العودة للسودان أهون".
وتقول إنها بعدما سألت مُلاك أوتوبيسات نقل السودانيين من القاهرة إلى أسوان والعكس، "اكتشفت إن كتير من الأسر بيرجعوا مرة تانية أو يبحثون عن طرق لمغادرة مصر غربًا إلى ليبيا".
وفيما تحاول صباح الصادق تدبير المبلغ اللازم لرجوعها السودان مرة أخرى في أقرب وقت، رغم أن "كتير سودانيين بدأوا يفكروا بنفس الطريقة، وده هيخلي سعر رحلة العودة يرتفع"، تؤكد عزيزة عوض أن الأوضاع في مدينتها هادئة إلى حد ما، لكن المشكلة الرئيسية هي عدم توفر السلع، لكنه يظل أهون من عدم قدرتها على توفير سبل العيش في القاهرة، ومع علمها أنها قد تضطر للنزوح مرة أخرى حال تعرضت عطبرة لهجمات قوية بين الطرفين المتصارعين.