يونسيف
أسر تفر من سنجة، جنوب السودان، بعد وقوع اشتباكات عنيفة، 2024

القاضي يبيع اللبن والصحفي يسقي الماء.. حرب السودان تحطم المرايا

منشور الاثنين 23 يونيو 2025

في منطقة الجريف، شرق محافظة شرق النيل، يسير رجل بقامته المتوسطة وخطاه الثابتة، يوزع الماء. يمر أمام البيوت المتربة، يطرق الأبواب في صمت، يسلّم بابتسامة مقتضبة، ثم يواصل طريقه. 

قليلون يعرفون أن هذا الرجل، الذي ينادونه ببساطةٍ "ماسا بتاع الموية"، كان يومًا ما يُعرَّف بالأستاذ خالد ماسا، أحد أبرز الصحفيين السودانيين. لكن الحرب، عادتها ألا تستأذن ولا تستبقي كرامة لمهنة. ومع دخول الخرطوم في متاهات الخراب، سقطت الصحافة أولى ضحايا المشهد، وباتت الصحيفة خطرًا، والمقال تهمة، وانقطع الطريق إلى المطبعة، أو كما يقول ماسا لـ المنصة "في زمن الحرب ولدت صحافة ماتت معها الحقيقة". وتوقفت الصحف الورقية تمامًا عن الصدور في السودان مع اندلاع الحرب، وذلك لأول مرة منذ تأسيسها قبل أكثر من 120 عامًا.

تسببت الحرب التي اندلعت في أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع في مقتل آلاف السودانيين حتى الآن ونزوح 13 مليون سوداني، معرِّضة إياهم للعنف الجنسي والنهب وتدمير المنازل والمرافق الصحية والأسواق وغيرها من البنى التحتية.

الحرب في السودان لم تدمّر الأبنية فقط، بل كسرت المرايا التي يرى من خلالها الناس أنفسهم. جرّدتهم من مهنهم، ودفعتهم إلى البحث عن تعريف جديد للذات، لا يقوم على المهنة، بل على البقاء. 

ودفع ملايين المدنيين ثمنًا فادحًا لهذه الحرب، وسجّلت منظمة الصحة العالمية نحو 20 ألف قتيل منذ اندلاعها حتى نهاية العام الماضي، بينما كشف باحثون بريطانيون أن الأعداد غير المسجلة أضعاف المعلنة، وأشاروا إلى مقتل نحو 61 ألف شخص في ولاية الخرطوم فقط خلال 14 شهرًا من بدء الحرب، فضلًا عن نزوح الملايين.

الصحفي بائع الماء

اضطر ماسا لإعادة ترتيب حياته من الصفر، أو ما دونه. لا مدخرات، لا معاش، لا بديل. فقط جسده، وشبكة علاقاته الشعبية، وكرامة لا تزال تقاوم الانكسار. اختار أن يعمل في نقل المياه.

لم يشعر بالإهانة. بالعكس، شعر بامتدادٍ أخلاقيٍّ بين المهنة التي غادرها، والمهنة التي احتضنته. "الاثنتان تنبعان من المصدر ذاته. من رغبة صادقة في خدمة الناس، في التماس احتياجاتهم، في أن تكون وسطهم ومعهم"، يقول ماسا.

أصبحت المدينة فخًا جغرافيًا.. الصحفي لا يغادر بيته إلا متنكّرًا يكتب في الخفاء ويراجع ما كتب عشر مرّات قبل أن ينشر

بتمشيّه بين الأزقة، أصبح الصحفي السوادني شاهدًا على المأساة. يسمع قصص الأرامل اللاتي فقدن أزواجهن في القتال، ويرى الأطفال الذين يبحثون عن حليب لا يُصنع في خطوط المواجهة، ومن خلال مشاهداته، يعيد "اكتشاف ذاته". مارَس ماسا الصحافة لعشر سنوات متنقلًا بين المنصات، حيث تابع الملفات السياسية والرياضية وحقوق الإنسان وقدّم برامج.  يتذكر "شهر أبريل 2023، حين دوّت الطلقة الأولى في الخرطوم، كنت هناك. لم أكن أبحث عن 'السبق الصحفي'، بل عن تفسير لما يحدث من حولي. فجأة، لم يعد هناك وقت للأسئلة. تحوّلت الكاميرا إلى تهمة". أصبحت المدينة فخًا جغرافيًا. الصحفي لا يغادر بيته إلا متنكّرًا، يكتب محتواه في الخفاء، ويراجع كلماته عشر مرّات قبل أن ينشر، يعرف أن "المهنة" التي اختارها بحرية، أصبحت قيدًا يصعب الفكاك منه.

تجمّدت المؤسسات، كل محاولة للاستمرار في العمل كانت مخاطرة. "ومع كل ذلك، كان هناك إلحاح داخلي: كيف أتخلى عن صوتي الآن، وأنا ابن المهنة التي تعلّمت منها كيف أنظر للوقائع في عيون الناس".

المعضلة لم تكن أمنيةً فقط، بل اقتصادية أيضًا، كيف يمكن العمل بدون دخل، "ورغم أن بعض المؤسسات الخارجية لا تزال تمدّ يدًا للصحفيين السودانيين، فإن العمل معها من قلب الخرطوم المحاصرة، يوازي القفز في الهواء بدون مظلّة".

العدالة بين رفوف البضائع

أطفال لاجئون في السودان

حاله من حال ماسا، اضطرت الحرب الفاتح عمر للتخلي عن مهنته، قاضيًا في المحكمة العليا بكردفان، لم تكن مغادرته لمنصة القضاء بناءً على قراره، الحرب اندلعت وابتلعت كل شيء؛ البيت، الوظيفة، والبلد الذي كان يُفترض أن يُحكم بالقانون لا بالسلاح.

في أحد أحياء مدينة بنغازي الليبية، يقف الستيني الفاتح عمر خلف ماكينة كاشير في متجر صغير. يعدّ النقود، يرص عُلب الحليب، ويبتسم للزبائن.

غادر الفاتح مدينة الأبيض على عجل، دون وداع، في باصات النقل التجاري التي صارتْ تحمل الناجين أكثر مما تحمل المسافرين.

قطع الطرق الطويلة نحو دارفور، ومنها عَبَر الحدود نحو ليبيا، مستعينًا بمهربين يعرفون الدروب قدر معرفته هو بمواد القانون. لم يسأل أو يفاصل، فالهارب من الموت لا يُفاصل على حياته. ترك خلفه دار القضاء التي كانت بالأمس مسرحًا للعدالة، وتحولت اليوم إلى ثكنة أو ركام، لا فرق.

لم يكن هروبه من الحرب بحثًا عن الأمان فقط، بل كان أيضًا رحلةً داخليةً لفهم ما تبقى من ذاته بعد أن انتُزع منها الزي الرسمي، والختم، والقلم. لم يخبر أحدًا عن ماضيه. لكن زوجته كانت ترى التغيَّر في عينيه. لم يعد ذلك القاضي الذي يجلس على المنصة، بل الأب الذي يحاول أن يُبقي الخبز على الطاولة دون أن ينكسر. أما أطفاله، فكانوا يدركون أن أباهم لم يخسر، بل فقط اضطر لتبديل موقع الوقوف.

"العدالة ليست منصة، بل مبدأ. ويمكن للمبدأ أن يعيش حتى بين رفوف المتاجر"، يقول لـ المنصة مؤكدًا أنه يفكر في العودة "حين تهدأ هذه الفوضى".

يعلم الفاتح أن الكرسي الذي غادره قد لا يكون موجودًا حين يعود، أو قد يشغله من لا يعرف شيئًا عن القانون سوى ما يخدم سلاحه. لكنه لا يزال يؤمن بأن وظيفة القاضي ليست فقط في النطق بالحكم، بل في حماية المعنى.

لكنه الآن في المتجر الصغير وسط السلع والوجوه العابرة يقف بثبات ليس كقاضٍ، بل كمن اختار ألّا يُهزم حتى وهو بلا منصّة، بلا لقب، بلا دولة. هكذا يعيد الفاتح عمر تعريف العدالة لا بحكم نافذ، بل بثبات.

وفقًا للأمم المتحدة، أدى استمرار القتال إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان، ليصل عدد الفارين من ديارهم إلى 11.5 مليون شخص، ما يجعل أزمة النزوح الداخلي في السودان هي الأكبر على مستوى العالم في الوقت الراهن

السوق ملاذ الموظفين

الهادي علي راضي، الكاتب والمعلم المعروف، لم يتخيل أن ينتهي به المطاف بائعًا لأكياس النايلون في سوق غير نظامية. "بعت أكياس النايلون.. لكن فشلت"، قالها لـ المنصة مختصرًا كل شيء.

عمل الهادي عقودًا في تدريس اللغة العربية وفي الكتابة. لكنه، كغيره من المهنيين والمثقفين، وجد نفسه خارج الوظيفة، بعد أن انهارت المدارس وأغلقت المكتبات. تحوّل من معلم إلى بائع في سوق لا يعرف كتبه ولا تاريخه.

"أكياس النايلون خفيفة، واهية، وسريعة التمزق، تمامًا كحياتنا الآن"،  يختزل الكاتب السوداني وصف هشاشة واقع يعيشه الملايين، حيث لا فرق بين شاعر وبائع.

لا يزال الأمن غائبًا. الانفلات هو السائد، والانتهاكات بحق المدنيين تتكرر في مناطق السيطرة المختلفة

في سوق الموبايلات بشندي، مثله مثل غيره يجلس أحمد معتصم خلف طاولة صغيرة. لكن أحدًا لا يعرف أنه كان أستاذَ اقتصادٍ في جامعة الخرطوم، يحمل لقب "دكتور" ومفتاحَ مكتبٍ له هيبته. حين اندلعت الحرب، ظنّ أنها أزمة عابرة. ترك مكتبه وغادر الخرطوم، آملًا في العودة القريبة. لكن الحرب طالت، وغيّرت كل شيء.

دخل معتصم السوق خجولًا، لا يعرف لغة البيع ولا حِيَل السوق، لكنه تعلّم. أصبح "أحمد بتاع الموبايلات". ومع كل نداءٍ بهذا الاسم، كان شيء داخله ينكسر، ليس بسبب الكبرياء، بل لأن الإنسان في هذا البلد يُعرّف بمهنته، وإن فقدها، تلاشى.

في عطبرة، يقف سليمان وداعة، المدير المالي السابق، يبيع الطعمية تحت عمود كهرباء مكسور. لا يضع لافتة، ولا يصحّح لمن يناديه بـ"الحاج". هو، ككثيرين، لم تعد الألقاب تهمه، بل لقمة العيش.

وتسببت الحرب المشتعلة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، في أكبر كارثة إنسانية في العالم، مع دخول نصف السكان تقريبًا في أزمة نقص غذاء متفاقمة، كما أن نحو 30.4 مليون شخص، أي أكثر من ثلثي إجمالي السكان، في حاجة إلى المساعدة، من الصحة إلى الغذاء إلى غير ذلك من أشكال الدعم الإنساني. 

في ظل هذا الوضع، تبدو العودة إلى الوطن أو إلى الوظيفة أو حتى إلى الحياة مغامرة محفوفة بالمخاطر. العودة لا تعني فقط دخول الحدود، بل تتطلب بنية تحتية آمنة، نظامًا صحيًا فاعلًا، ومؤسسات تحترم المواطن وتخدمه، لا تقهره أو تهمله.

لكن رغم كل ذلك، لا يزال ماسا يتوق للعودة إلى قلمه. يدوّن ملاحظات، يحتفظ بالقصص، يعيد صياغة الجمل في ذهنه بينما يملأ برميل الماء، ينتظر ذلك اليوم الذي تعود فيه البلاد إلى السلم، وتعود الكلمة إلى سيرتها الأولى، ووقتها كما يقول "سأعود محمّلًا بحكاياتٍ حقيقية، كتبتها قدماي في الأراضي المحروقة، وسمعتها أذناي في عزّ العطش".