المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
لاجئون سودانيون على حدود تشاد

لا حياة ولا مفر.. الموتُ يسكن قلب الفاشر

منشور الخميس 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

المؤشرات كلها كانت تنبئ بسقوطٍ قريبٍ في الفاشر؛ من تراجع قدرة الجيش السوداني على الانتشار إلى تفشي حالات السرقة والنهب والاغتصاب على نطاق واسع، لكن ذلك لم يحفز إيمان عبده الأرملة السودانية وأبناءها الثلاثة على ترك المدينة فهي لا تعرف مكانًا سواها، خاصة مع تردى الأوضاع الإنسانية في مخيمات النازحين في دارفور.

فقدت إيمان زوجها في الحرب، ولم تعد تعرف شيئًا عن أهله، كما أنها فقدت والديها منذ سنوات، وتعيش مع ثلاثة أبناء من الذكور أكبرهم في سن السابعة والثاني في سن الرابعة والثالث يبلغ من العمر عامًا ونصف العام.

"غلطة كبيرة كان لازم أترك البيت وأمشي قبل ما يدخلوا الدعم السريع"، تقول إيمان لـ المنصة عبر واتساب، وتبدي ندمها على أنها لم تلحق بباقي أهلها "أغلب قرايبي نزحوا من شهور ناحية تشاد على الحدود مع دارفور".

فرار تحت الرصاص

في يوم الأحد 26 أكتوبر/تشرين الأول، انسحب الجيش السوداني والقوات المشتركة بشكل كامل، تاركين الفاشر غنيمةً سهلةً لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، التي فرضت حصارها الطويل على المدينة، حتى حانت لحظة اقتحامها.

ليلتها فُوجئت المرأة الأربعينية بدخول عناصر مسلحة إلى حي "الدرجة" الذي تقيم فيه وسط المدينة، فاصطحبت أطفالها ولاذت بالفرار، سيرًا على الأقدام.

قطعت عشرات الكيلومترات في ممرٍ وحيدٍ يسير به موكبٌ يضم آلاف الفارين إلى مخيم طويلة للنازحين في شمال غرب الفاشر، "في الطريق اتعرضنا للسرقة والنهب والتفتيش غير الآدمي والتحرش بس كنا مصرين نوصل هدفنا"، تقول إيمان.

وتضيف "أطفالي صغار وكانوا تعبانين من المشي، كنت أضطر أشيلهم ف الطريق أو أقعد أستريح دقايق عشان ما تفوتني المجموعة وتمشي"، أو يلحق بها العناصر المسلحة.

في أغلب الطريق كانت تحمل صغيريها وتترك ابنها الكبير مع جارتها التي كانت تسير وحيدة، "كل ما كان يغيب عن عيني، أترعب خوف يكون حصله حاجة".

وصلت إيمان إلى مخيم الطويلة تقريبًا في الوقت نفسه الذي انتهت إليه رحلة تومة حسن عبد الله، المرأة الخمسينية، بعد ثلاثة أيام من سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة.

"خرجت من بيتي يوم الاثنين اللي فات، مشيت 5 ساعات" تقول تومة التي رافقها في رحلتها ابنها محمد أحمد أحمادي (17 عامًا)، غير أن قوات الدعم السريع أوقفته أثناء سيرهما واحتجزته "قالولي لو ما مشيتي هنقتله قدام عينيكي".

"سبته وهو الوحيد اللي بيعيلني، زوجي اتوفى من 5 سنين وما عندي غيره"، تقول النازحة التي تعاني من مشاكل في الكلى تضعف من قدرتها على السير الطويل. 

التقت تومة بمجموعة من النساء اللاتي رافقنها بعد اعتقال ابنها، "واحنا ماشيين كانوا الناس حوالينا بيقعوا جرحى وميتين برصاص الميليشيات"، تروي لـ المنصة بعضًا من مشاهداتها.

خرجت الأمُّ المكلومةُ مثلها مثل غيرها من النازحين دون أمتعة "حتى المية والأكل ما خلونا نشيلهم معانا، هددونا بالقتل"، وهو ما جعل الطريق أصعب "اللي ما اتقتل بالرصاص مات عطش وجوع، كتير من الناس كانوا عجايز وما يقدروا على الطريق الطويل في الحر".

ما أنقذ إيمان وأطفالها وتومة كانت عربة "كارو" تحمل عشرات الأطفال والنساء والعجائز إلى طويلة "الرصاص ما وقف حوالينا والنساء والأطفال والرجال كانوا بيسقطوا بسبب الضرب العشوائي من غير ما يلتفت إليهم أحد".

حصار الـ500 يوم

كانت إيمان تعيشُ في بيت عائلة زوجها قبل أن يتركها أخوته فارين من الفاشر قبل عام ونصف العام بعد فرض الحصار عليها.

لم تتمكن هي وزوجها الذي كان يعمل في بيع الأعلاف من مرافقتهم "ما نقدر نتحمل تكاليف النزوح، وكنت لسه والدة ابني الصغير".

 قررا الانتظار لحين تحسن الأوضاع آملين في فك الحصار عن المدينة، لكن القدر كان له رأي آخر "قُتل زوجي في انفجار دانة في السوق اللي كان بيشتغل فيه"، لتنقلب حياتها رأسًا على عقب.

"ماعدش فيه مصدر دخل، والناس سابت البلد ومشيت"، اعتمدت إيمان وصغارها على المساعدات التي تقدمها جميعات تابعة للقوات المشتركة في الفاشر أو وما تقدمه التكايا الرئيسية. 

لكن مع بداية دخول قوات الدعم السريع قبل شهرين اشتد الحصار وتوقفت المساعدات الغدائية ولم يعد أمامهم سوى الاعتماد على التكايا "كانت بتقدم وجبات بشكل متقطع على مدار الأسبوع عشان مافيش لا طحين ولا أكل واصل ليها" تقول إيمان. 

تقدر الأرملة أعداد الباقين في الفاشر بما لا يتجاوز بضعة آلاف "الباقي إما نزح على مدار الأشهر الماضية أو قُتل في المعارك أو بعد اقتحام الدعم السريع. من تبقوا فقط هم من لم يكن لديهم القدرة على الخروج من منازلهم، والدعم السريع اقتحموها واحتجزوهم داخلها، أو من كانوا مرضى في المستشفيات وهؤلاء أيضًا تم تصفية جزء كبير منهم".

يتفق ذلك مع ما لدى حكومة الخرطوم من معلومات أوردتها سليمى إسحاق الخليفة، وزيرة الدولة للموارد البشرية والعمل والرعاية الاجتماعية في السودان، التي قالت لـ المنصة في اتصال هاتفي إن لديهم "معلومات عن أن الميليشيات صفَّت جميع المرضى الموجودين في المستشفيات ومرافقيهم، إلى جانب استهداف من يعملون في تكايا الطعام التي كانت بالكاد توفر ثلاث وجبات في الأسبوع لكل أسرة".

تسببت المعارك بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في فرار عدد كبير من المقيمين في معسكر زمزم لإيواء النازحين بالقرب من مدينة الفاشر، 20 أبريل 2025

لا تتوفر إحصاءات دقيقة عن الوضع الميداني في الفاشر، لكن منظمة الصحة العالمية أصدرت بيانًا أدانت فيه ما ورد في تقارير عن مقتل وإصابة أكثر من 460 شخصًا من المرضى ومرافقيهم، إضافة إلى اختطاف ستة من العاملين في القطاع الصحي، وذلك خلال هجوم وقع قبل أيام على مشفى الولادة السعودي بمدينة الفاشر في شمال دارفور.

فيما أكدت دينيس براون، منسقة الأمم المتحدة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية في السودان، أن قوات الدعم السريع أبقت المدنيين في الفاشر محبوسين في مكان لا يستطيعون فيه الوصول إلى الغذاء، وهو ما يعادل استخدام التجويع سلاح حرب، حيث قُطع الدعم الإنساني فعليًا عن الفاشر منذ أكثر من 500 يوم.

وكشفت أن عدد الوافدين الذين كانوا يقطعون مسافة 50 كيلومترًا إلى منطقة طويلة قلّ بشدة؛ مما ينذر بأن قوات الدعم السريع شددت الخناق على المدينة، ومنعت الناس فعليًا من المغادرة.

تخمينات براون تؤكدها الوزيرة سليمى "الوضع الإنساني في الفاشر صعبٌ للغاية. المنظمات الإنسانية ممنوعةٌ من الوصول إلى المدينة، والطرق والاتصالات مقطوعة أيضًا، وهناك عائلات تتعرض لانتهاكات مستمرة لا يمكن الوصول إليها بكافة السبل".

تؤكد سليمى إسحاف على أن "النساء هن الأكثر تعرضًا للانتهاكات، فالقوات تستخدم العنف ضدهن كسلاح انتقامي من المدنيين الذين ظلوا صامدين داخل المدينة منذ أكثر من عامين على حصارها، والشهادات الواردة من هناك تشير إلى أن النساء تعرضن للاغتصاب ثم القتل أمام أعين أسرهن إلى جانب الإعدامات المباشرة للرجال والأطفال".

تبقى هذه المعلومات غير موثقة إذ تخلو المدينة من المنظمات الإنسانية الدولية، غير أن "هناك مساعي من جانب قوات الدعم السريع لإدخال منظمات دولية تابعة لها وتعمل وفق أجندتها السياسية بعدما تعرضت لانتقادات دولية متصاعدة خلال الأيام الماضية، ما يعني أن التقارير التي ستصدر عن أي منظمة قد تدخل الفاشر سيكون مشكوكًا فيها"، وفقًا لسليمى إسحاق.

"المدينة الآن بأكملها تحت سيطرة الدعم السريع، وكحكومة نجد صعوبات في التعرف على كيفية عيش المواطنين داخلها" تقول الوزيرة في حكومة الخرطوم.

سقوط الفاشر

الفاشر كانت آخر معقل للجيش السوداني في إقليم دارفور ما جعلها هدفًا استراتيجيًا لقوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، لذا شكّل سقوطها نقطة تحول في المشهد العسكري والإنساني، وأُطلقت موجة نزوح غير مسبوقة نحو المناطق الغربية مثل طويلة وكتم.

سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة عبر الهجوم من خمسة محاور فيما كان المواطنون متركزين في الأجزاء الغربية حيث يقع حي الدرجة، وفق محمد صلاح، عضو المكتب التنفيذي لمجموعة محاميي الطوارئ في السودان.

الجيش انسحب بشكل عشوائي دون أن يلتفت إلى حماية المدنيين أو مساعدتهم على الخروج الآمن

يقع حي الدرجة داخل المناطق الحكومية والتي تبلغ مساحتها نحو 3 كيلو متر مربع، وتوجد بها قيادة الجيش والمستشفيات ووزارات إقليم دارفور، ومع اقتحامها لم يكن هناك وجود يذكر للجيش السوداني أو القوات المشتركة المتحالفة معه وهو ما قاد لعمليات قتل واسعة.

"في الساعات الأولى من اقتحام قوات الدعم السريع للمدينة غادرها الجزء الأكبر من المدنيين فارين من عملية القتل"، يقول صلاح لـ المنصة عبر واتساب.

توزع الفارّون على مخيم طويلة على الحدود مع دولة تشاد، ومن بقي في المدينة هم غير القادرين على الحركة من المرضى أو ذوي الإعاقة أو كبار السن. 

ويقع مخيم طويلة بأطراف بلدة طويلة على بعد 68 كيلومترًا غرب مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور غرب السودان، حيث تنتشر خيام بالية وأغطية من القش، تؤوي آلاف النازحين الفارّين من جحيم الحرب.

وتقع الطويلة تحت سيطرة جيش حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، التي أعلنت موقفًا محايدًا من النزاع، ما يجعلها مكانًا مفضلًا للنازحين، وتصل إليها المساعدات من بعض المنظمات الدولية، مثل "أطباء بلا حدود" و"يونسيف"، لكن وفقًا لتصريحات سابقة للمتحدث باسم منسقية النازحين واللاجئين في دارفور، آدم رجال، فإن حجم الاحتياجات يفوق بكثير ما يُقدَّم.

هذا ما أدركته تومة فور وصولها إلى المخيم، فجر الأربعاء الماضي، فالوضع ليس أفضل من الفاشر "لا مأوى أم أكل ونتغذى على أوراق الشجر والمساعدات شحيحة جدًا واللي بتقدمه المنظمات الإغاثية بالكاد بيكفي ربع العدد الموجود في المخيم".

المحاصرون في خطر 

يتوقع صلاح ازدياد معدلات الوفيات في المدينة خلال الأيام المقبلة، نظرًا لنقص الغذاء "ما كان بيدخل خلال السنتين اللي كانت المدينة فيهم محاصرة إلا أقل القليل من الأغذية والمساعدات".

ويشير إلى أن الجيش انسحب بشكل عشوائي دون أن يلتفت إلى حماية المدنيين أو مساعدتهم على الخروج الآمن وهو ما جعل "المواطنين يدفعون الثمن خاصة من ينتمون إلى قبيلة الزغاوة الإفريقية التي لديها ثأر قديم مع مليشيات الدعم السريع المنحدرة من القبائل العربية".

مجموعة من قوات الجيش وعناصر الحركات المسلحة المتحالفة في الفاشر، 30 أبريل 2025

ويؤكد عبد العزيز سليمان أروي، مدير إدارة الثقافة والإعلام بحكومة إقليم دارفور، على أن الطريقة الوحيدة لإيصال المساعدات للمدينة المحاصرة من خلال الإسقاط الجوي أو عبر بعض التكايا التي ظلت تعمل حتى لحظة  اقتحام الدعم السريع للمدينة.

"المواطنون يعانون من أوضاع صحية كارثية مع استخدام قوات الدعم السريع غازات سامة ومحرمة دوليًا ضد سكان الفاشر يصل أثرها إلى الشلل النصفي خاصة إذا تعرض لها الأطفال وكبار السن، إلى جانب انتشار الملاريا"، يقول لــ المنصة.

ويزيد في وصف الوضع الحالي، "ليس هناك إسعافات أولية للتعامل مع الحالات المصابة، وأغلبهم الآن موجودون داخل البيوت والملاجئ، ولا يستطيعون الذهاب إلى التكايا التي إما أغلقت أو باتت تعمل الآن لخدمة عناصر الدعم السريع".

هذا فيما لا يتوفر، حسب أروي، لأي من الموجودين حاليًا في الفاشر حرية الحركة، كما أن عناصر الدعم احتجزت التجار للمساومة على الإفراج عنهم وطلب مقابل مادي من ذويهم.

من جانبها تؤكد جاكلين ويلما بارليفليت، مسؤولة مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في السودان، أن آلاف المدنيين عالقون داخل المدينة دون أي ممرات آمنة أو إمكانية لوصول المساعدات الإنسانية بعد أن فرّ أكثر من 60 ألف شخص منها.

وطالبت بعثة تقصي الحقائق بشأن السودان، التابعة للأمم المتحدة، الجمعة، المجتمع الدولي، بإنشاء هيئة قضائية مستقلة لمحاسبة مرتكبي الجرائم في السودان، وقالت البعثة في بيان رسمي إن التحقيقات ستجري بالتنسيق مع الجنائية الدولية، إضافة لتوسيع اختصاص المحكمة على كامل أراضي السودان.

وأشارت إلى أن "قوات الدعم السريع أنشأت هياكل قضائية موازية خارج سلطة الدولة"، مضيفةً أن سقوط مدينة الفاشر نقطة تحول مأساوية في حرب السودان، والمدينة تحولت لبؤرة للفظائع الممنهجة، من قتل جماعي وعنف جنسي وتهجير قسري للمدنيين.

نجت إيمان رفقة أطفالها الثلاثة بعد رحلة مرعبة بوصولها إلى مخيم طويلة، لكنها لا تشعر بالأمان، إذ لا تزال قوات الدعم السريع ترغب في مزيد من التوسع، لذا تحاول العثور على وسيلة توصلها إلى أقاربها في تشاد.

لكن إرهاقها من ناحية، وقلة الإمكانات من ناحية أخرى، يمنعانها من الحركة لتظل في انتظار مصيرها وسط الآلاف ممن يفترشون الأرض في طويلة مع تكدس المخيمات.