لم يخطر ببال الشاب السوداني أباذر جعفر الأمين ذي الـ28 سنة، أن يُصفي بقالته التي افتتحها بدلًا من أن يصبح واعظًا في الأوقاف، بعد أقل من عامين. فحين اشتدت الحرب في السودان، دفع تجارته، التي وضع فيها جميع أمواله، فاتورة عن الأهالي والمقربين.
اندلع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان الماضي، ولا يزال مستمرًا حتى الآن، وسط مقتل مئات من الضحايا، ونزوح الآلاف.
فصلت ثلاثة أعوام فقط، بين عودة الشاب السوداني بعدما أنهى دراسته في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، ونشوب الحرب، التي تدور في منطقته، دار السلام في أم درمان، التي تبعد نحو 20 كيلومتر عن الخرطوم. يقول للمنصة "أصوات الرصاص تكاد لا تغيب عن أذني طوال اليوم،أحيانًا يدور القتال يدور أسفل منزلي أو في الشوارع الرئيسية القريبة".
تجارة بديلة للوعظ
حين عاد أباذر للسودان تمنى العمل واعظًا في الأوقاف، لكنه لم يجد فرصة، "تخوفت من أن أخضع لمغريات جماعات وتنظيمات سودانية تستقطب المتعلمين بالأزهر لتوظيف الدين لخدمة السياسية، فقررت أفتح البقالة"، يقول للمنصة في رسالة على واتساب بعد أن فشلت الاتصالات به لضعف الشبكة.
ويضيف "فتحتها في نهاية عام 2020 لتكون باب رزق يجعلني قادر على الإيفاء بمصروفات أسرتي الصغيرة، بعد أن تزوجت أثناء دراستي بالقاهرة وأنجبت أول أطفالي، وبالفعل كانت البقالة مصدر رزق كبير".
ينحدر أباذر من أسرة صوفية، لديها خلوة شهيرة تحمل اسم العائلة "خلاوي الغُبُشْ"، لذا لن تجد صعوبة في تفسير سلوكه الذي انتهجه منذ فتح البقالة في إخراج البضائع للجيران واستلام الأموال بعد فترة.
الأهالي من جانبهم كانوا يردون ثمن بضائعه بمجرد أن تتيسر أمورهم، فلم يعجز أباذر عن تجديدها، مع هامش ربح ينفق منه، "أهالي منطقتي، وعلى الرغم من أن أغلبهم يعيشون تحت خط الفقر، كانوا يحرصون على رد قيمة البضاعة بعد فترة قليلة لا تتجاوز في أغلب الأحيان شهر واحد، ومع التوسع في استدانة أهالي المنطقة مني أصبحت مشهورًا، وزاد الإقبال على محلي المتواضع بصورة كبيرة، إلا أن الوضع تبدل مع اندلاع الحرب".
اندلعت الحرب
مع الهلع الذي أصاب الجميع مع اندلاع الحرب، لم يجد أباذر سبيلًا للمساعدة سوى أن يستمر في سياسته؛ يمنح جيرانه ما يحتاجونه من بقالة، يسددون ثمنها في وقت لاحق. لكنهم هذه المرة لم يستطعوا ذلك؛ تعطلت أعمالهم وفقد الكثير منهم مصادر رزقهم.
يتذكر الشاب السوداني امرأة جاءته الشهر الماضي، ضمن كثيرين، للاعتذار عن عدم قدرتها سداد أموال البقالة، "جاءت وهي لا تستطيع النظر إلي، الدموع تغلب وجهها لتقول إن زوجها يستحي مني للدرجة التي لا يمر فيها من الشارع خوفًا من أن أطالبه بما عليه من أموال، مع فقدانه مصدر رزقه الوحيد وعدم قدرته على العمل في أشغال أخرى بسبب الحرب"، وأضاف "كان طلبها أن أوافق على تأجيل السداد حتى يجد فرصة عمل".
ويعلق "لا يمكنني أن أقول لشخص يريد كيلو من الأرز أو السكر أو الدقيق لا، لمجرد أنه لا يمتلك ثمنه".
نفدت بضاعة أباذر تمامًا بعد شهرين ونصف الشهر، وما استطاعه بعد أول شهر في أن يجدد جزء منها، لم يعد متاحًا، "خضت مغامرة للحصول على بضاعة جديدة من سوق ليبيا بعد شهر من الحرب، قبل أن يصيبه الضرر ويتعرض للقصف"، بالإضافة إلى "ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق".
يقول بأسى "حاولت قدر الإمكان توفير بضائع جديدة لكن فقدت القدرة على الصمود.. نفدت بضاعتي بنسبة 95% مع بداية شهر يوليو (تموز) الجاري".
وبقالة أباذر ليست الوحيدة التي أُغلقت، فكثير من محال البقالة في منطقته وكذلك في المناطق القريبة أغلقت أبوابها بالفعل بعدما تعرضت لعمليات سلب ونهب مختلفة، بحسب الشاب السوداني.
تهريب البضائع
لم يعد بإمكان التجار التواجد في أماكنهم المعهودة بمنطقة دار السلام والأحياء القريبة منها، ووفقًا لما ذكره الشاب السوداني للمنصة، لجأ بعضهم إلى تهريب البضائع التي يحصلون عليها إلى منازلهم خوفًا من نهبها من قبل القوات المتقاتلة.
مع تلك المتغيرات، باتت منازل أصحاب البقالات هي المقصد، تمتد أمامها طوابير من المواطنين للحصول على احتياجاتهم اليومية، بحسب أباذر، الذي أشار إلى أن "البعض الآخر اختار النزوح وترك مدينة أم درمان بأكملها، وهو ما جعل الأسواق الرئيسية، مثل سوق ليبيا وسوق أم درمان، يتحولان إلى أماكن مهجورة ومدمرة نتيجة الضربات الجوية التي طالتهما إلى جانب عمليات السرقة والنهب".
اقتحام المنازل
لا تقتصر الظروف التي يعيش فيها أباذر والكثير من السودانين على العجز عن توفير البضائع، بل أن الأمر يتعدى ذلك إلى عمليات قتل وخطف واقتحام للمنازل.
وكما كانت الحرب تدفع أباذر إلى تقديم يد العون لجيرانه ببضائعه، فإن الجيران تكاتفوا معًا وابتكروا وسيلة لحماية بعضهم بعضًا، يقول عنها الشاب السوداني "لا ينزل أحد لقضاء حاجة سوى في مجموعة تتكون من 10 مثلًا، لتوفير الحماية المطلوبة حتى لا يكون لقمة سائغة لعناصر مسلحة تنتشر بشكل مستمر في الطرقات والأحياء، وفي حال نزل أي من المواطنين بمفرده فإن فرص عودته سالما تكون صعبة".
ويوضح جانبًا آخر للفزع الذي يعيشون فيه "العناصر العسكرية التي يمر أمامها المواطنون تطالبهم بترك أسمائهم وعمل تحريات عنهم، وفي حال كان لديهم آراء معلنة عن تأييد القوات المسلحة، تقوم العناصر التابعة لقوات التدخل السريع باقتحام منزله، والعكس صحيح".
وأمام تلك الظروف، ومع فقد أباذر كل ما يملكه من أموال خلال الثلاثة شهور الماضية، ليست لديه الآن خطة للمستقبل، بين البقاء أو النزوح "الأوضاع التي نمر بها في المنطقة تصعب تحديد الوجهة المقبلة".
وبسبب الحرب، لا يرى أباذر مجالًا لمواصلة الدراسة التي التحق بها عند عودته إلى السودان، تمهيدي الماجستير في أصول الدين بجامعة أم درمان، بعدما أغلقت الجامعة أبوابها بسبب الحرب، ولا أن يستمر كتاجر، بعدما نفدت بضاعته التي أنفقها على الأهالي دون مقابل.
تحول أباذر إلى ما يشبه الأيقونة، لكنها لا تختلف في معاناتها عن مئات الآلاف من السودانيين ممن يدفعون أثمان الحرب بأشكال مختلفة.