دارت عجلة التحركات السياسية في السودان لوقف الحرب مع عودة مفاوضات "منبر جدة"، بعد حالة من الجمود سيطرت على القوى المدنية والعسكرية منذ توقف المبادرة السعودية-الأمريكية ذاتها، التي بدأت في مايو/أيار الماضي، قبل أن تتوقف لمدة أربعة أشهر، دون حل.
لكن الأحد الماضي، بدأت الاجتماعات التي ترعاها الدولتان أيضًا، بين وفود تمثل الجيش السوداني وأخرى عن قوات الدعم السريع، في وقت تنشط فيه القوى المدنية لتشكيل "جبهة مدنية ديمقراطية" أو ما أطلقت عليه "تقدم"، بحثًا عن موطئ قدم في معادلة الحل، المتوقع لها أن تبدأ بالاتفاق على وقف إطلاق النار، ثم التباحث حول تدشين عملية سياسية.
ويزور وفد من قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، عاصمة جنوب السودان جوبا، اليوم الأربعاء، بدعوة من الرئيس سلفا كير ميارديت، في وقت تعقد فيه الجبهة الثورية، التي تضم حركات مسلحة ووقعت على اتفاق جوبا للسلام عام 2020، مباحثات مع نائب رئيس دولة جنوب السودان رياك مشار، ما يشي بأن جوبا قد تلعب دورًا في تعزيز التقارب بين الحركات المسلحة والقوى المدنية خلال الفترة المقبلة.
وقبل أيام أعلنت اللجنة التحضيرية، المعنية بالإعداد لاجتماع وحدة الجبهة المدنية الديمقراطية، الاتفاق على تشكيل الهيئة القيادية برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، لمتابعة التجهيز لعقد مؤتمر تأسيسي في غضون 8 أسابيع.
وحدد الاتفاق الهيكل التنظيمي المؤقت للهيئة القيادية التحضيرية للجبهة المدنية الديمقراطية، التي اختارت اسم "تقدم"، ليشمل هيئة يرأسها حمدوك، وتضم 60 عضوًا آخرين، وتهدف إلى ممارسة المهام الرقابية والإشرافية والتحضير للمؤتمر.
القضية لم تعد تحظى بالاهتمام الكافي من جانب وسائل إعلام عربية بعد الحرب على غزة
وتوافق محللون وسياسيون سودانيون تحدثت معهم المنصة على وجود دَفعة إيجابية تشي بإمكانية وقف الحرب، وأن الظروف الدولية والمحلية مهيأة للوصول إلى تفاهمات، بعد حالة الإنهاك التي تعرض إليها طرفا الصراع، واتساع حجم الخسائر التي تلقتها القوى السياسية المفتتة، بسبب الحرب، حيث إنهم يسعون للحفاظ على ما حققوه من مكاسب خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير.
عضو المكتب السياسي لحزب الأمة القومي في السودان، بازرعة علي العمدة، قال لـ المنصة، إن الأجواء العامة في المنطقة العربية ساعدت على تحريك ملف إنهاء الحرب السودانية، ورغم أن القضية لم تعد تحظى بالاهتمام الكافي من جانب وسائل إعلام عربية بعد الحرب على غزة، فإن ذلك ساعد مجموعات سياسية في أن تعمل بعيدًا عن الضغوط الإعلامية للوصول إلى اتفاق على عقد مؤتمر تأسيسي.
وأضاف أن القوى المدنية تسرع اتصالاتها في هذا التوقيت، لتحديد جدول أعمال المؤتمر التأسيسي والتوافق على أجندة محددة يمكن تنفيذها كمخرج سياسي للأزمة الراهنة، دون ترك أي فرص للدخول في خلافات جديدة قد تؤدي إلى انتكاسة أخرى تساهم في تعقيد الموقف، وأن جهود القوى المدنية وإن كانت تضع في حسبانها ما يدور في مباحثات جدة، فإنها ماضية للوصول إلى توافق وخطة سياسية واضحة في مرحلة ما بعد الحرب، سواء نجحت الجولة الحالية من المفاوضات أو لم تنجح.
وأشار إلى أن المعلومات الأولية بشأن "منبر جدة" تبشر بإحراز تقدم في مسارات التفاوض، وأن هناك فرصة لتحقيق هدفين رئيسيين؛ إيصال المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار. لكن المباحثات لا تزال بحاجة لمزيد من الوقت للوصول إلى تفاصيل تمركز القوات والآليات لإنجاح الجهود الإنسانية.
وقالت وزارة الخارجية السعودية، الأحد، إن المحادثات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في جدة، تتركز على ثلاثة أهداف رئيسية؛ تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، وتحقيق وقف إطلاق النار وإجراءات بناء الثقة، وإمكانية التوصل إلى وقف دائم للأعمال العدائية التي اندلعت بين الطرفين منذ منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي.
الواقع السياسي في السودان بالغ الصعوبة، وهناك حسابات مختلفة لغالبية القوى السياسية
وأوضحت أن المفاوضات "لن تتناول قضايا ذات طبيعة سياسية"، مشيرة إلى أنه "باتفاق القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع سيكون الميسرون (السعودية والولايات المتحدة، والهيئة الحكومية للتنمية "الإيجاد" مع الاتحاد الإفريقي) الناطق الرسمي المشترك الوحيد للمحادثات، ولترسيخ قواعد السلوك التي تم الاتفاق عليها من قبل الطرفين، والتي سوف تسترشد بها المحادثات".
ووصف مستشار قائد قوات الدعم السريع في السودان، هارون مديخير، الاثنين، المفاوضات بأنها "تبشّر بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار"، مؤكدًا أن قوات الدعم لديها الرغبة في وقف الحرب.
وتضع القوى السياسية في حسبانها أن طرفي الصراع أدركا عدم قدرة المواجهات العسكرية على الحسم، وبالتالي فالبديل يتمثل في تدشين خارطة طريق سياسية لا بد أن تكون مستعدة للانخراط بها، في وقت تسعى فيه وساطة منبر جدة للتعرف بشكل أكبر على توجهات المدنيين ورؤيتهم للحل، بما يساهم في تقديم حلول تفاوضية مناسبة لجميع الأطراف، بحسب القيادي بحزب الأمة القومي بازرعة علي العمدة.
ولفت العمدة في حديثه إلى المنصة، إلى أن تحركات القوى المدنية حظيت بدعم واعتراف دوليَّين، تحديدًا من الولايات المتحدة التي ترعى مفاوضات جدة، كما أن وجود رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك على رأس هيئة القيادة للقوى المدنية، بما لديه من ثقل دولي وإقليمي، يشكل ضغطًا إضافيًا لأن تكون رؤية المدنيين للحل حاضرة بقوة في مسارات التفاوض المستقبلية.
ورحبت الولايات المتحدة باجتماعات القوى المدنية، على أمل بدء عملية شاملة للانتقال الديمقراطي في السودان، وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر عبر إكس، إن بلاده ترحّب بجهود أصحاب المصلحة المدنيين السودانيين للتكاتف معًا، وبدء عملية شاملة لاستعادة الانتقال المدني.
ويشارك في الجبهة المدنية الديمقراطية ممثلون لقوى الحرية والتغيير (التحالف الحكومي السابق في السودان)، والجبهة الثورية وحركة العدل والمساواة برئاسة سليمان صندل، والحزب الجمهوري وتحالف القوى السياسية والمدنية في شرق السودان، مبادرات السلام التي تكونت من المجتمع المدني في بعض ولايات كردفان ودارفور، وعدد من تنسيقيات لجان المقاومة، ومجموعات مهنية مثل نقابة الصحفيين المنتخبة واللجنة التسييرية لنقابة المحامين ولجنة المعلمين ونقابة المواني، وأساتذة الجامعات وعدد من منظمات المجتمع المدني، وتنظيمات نسوية وشخصيات مساهِمة في العمل العام.
حسابات مختلفة
غير أن "الواقع السياسي في السودان بالغ الصعوبة، وهناك حسابات مختلفة لغالبية القوى السياسية والمدنية، التي تفتتت على أسس حزبية وجهوية مع حالة الاستقطاب الظاهرة بشأن موالاة البعض إلى أي من طرفي الصراع"، بحسب أستاذة القانون الدستوري والدولي بجامعة النيلين السودانية زحل الأمين، التي تقول لـ المنصة إن ذلك "ترك تأثيرات سلبية في العقلية الذهنية للقادة السياسيين والمكونات التي يعبرون عنها إلى الحد الذي جعل كل كيان حزبي أو أهلي أو اجتماعي لديه ظهير سياسي يدعمه".
وترى الأمين أن تلك المقدمات تجعل من الصعب التوافق داخل جبهة تضم كافة القوى السياسية "هذا لن يحدث الآن وصعب رغم أن الحرب وصلت إلى أبعد مدى لها وليس هناك في الأفق من سبيل لتحقيق أي من الطرفين انتصارًا عسكريًا"، مشيرة إلى أن ما يمكن التعويل عليه هو الحد الأدنى من التوافق لإيجاد مخرج سياسي بعد أن أضحى السودان على حافة الهاوية".
ويدور القتال في السودان على جبهات مختلفة، أبرزها في العاصمة الخرطوم وفي إقليم دارفور غربًا، وولاية جنوب كردفان (وسط السودان) والنيل الأزرق (جنوب)، وأضحى من الواضح أن هناك عاصمة مركزية رئيسية يقع الجزء الأكبر منها تحت سيطرة قوات الدعم السريع، وأخرى بديلة يتواجد فيها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في ولاية بورتسودان ويمارس منها مهامه كرئيس لمجلس السيادة.
وأدى النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى سقوط أكثر من 9 آلاف قتيل، وفق حصيلة للأمم المتحدة التي أشارت إلى نزوح نحو 6 ملايين شخص داخل البلاد أو إلى دول مجاورة، ما يشكل ضغطًا على طرفي الصراع، يدفعهما إلى مائدة التفاوض.