في أبريل/نيسان الماضي وجد الجنرال عبد الفتاح البرهان نفسه في مواجهة دموية كادت أن تكلفه حياته. فوفقًا لرواية أحد حراس البرهان الشخصيين، اضطر رئيس مجلس السيادة، الحاكم الفعلي للدولة، لحمل بندقية كلاشينكوف للدفاع عن نفسه، وتبادل النار مع مقاتلي الدعم السريع الذين اقتحموا مقر قيادته، قبل أن يسحبه رجاله إلى مكان آمن.
بحسب هذه الرواية، قُتل أكثر من 30 من الحراس في المعركة التي صاحبت الهجوم، قبل انسحاب مقاتلي الدعم السريع من مقر إقامة الفريق أول، خريج الكليات العسكرية الرسمية. وكان الرجل الأقوى في السودان قاب قوسين أو أدنى من الاغتيال في اللحظات الأولى لاندلاع القتال، الذي أوشك في شهره الثالث على الانزلاق لحرب أهلية شاملة في البلد المنهك من انقساماته وصراعاته.
وفي 26 يونيو/حزيران استولت ميليشيا الدعم السريع، التي تدين بالولاء لآل دقلو وقبيلة الرزيقات، على مقر قيادة قوات الاحتياطي المركزي، وهي وحدة شرطة سودانية معسكرة. كما تقلص وجود الجيش في مدن العاصمة الثلاثة؛ الخرطوم، بحري، أم درمان، في مقابل انتشار كبير لقوات الدعم السريع، رغم أن قوات الجيش هي عمليًا أكبر في العدد وقوة النيران من قوات الدعم السريع.
يعاني الجيش أيضًا من تراجع في دارفور ومدنها، ويعجز عن تأمين مواقعه. ودفعت الأحداث الأخيرة الجنرال البرهان لحث المواطنين على حمل السلاح "لنيل شرف الدفاع عن بقاء الدولة السودانية"، مما يدل على فقدان الجيش السيطرة، ومحاولة الحشد والتجنيد لرأب الصدع المتزايد في الأداء العسكري.
طرح الأداء الكارثي للجيش السوداني السؤال القديم من جديد، لماذا تنهار جيوش دول عربية وإفريقية إمام ميليشيات عقائدية وقبائلية، لا تقارن بها عددًا ولا عدة؟
لهذا تراجع أداء الجيش السوداني
رغم تفوق الجيش السوداني في العدد، إذ يصل لما يزيد عن 200 ألف مقاتل مُدرّب، وكذلك في قوة النيران، فهو الطرف الذي يملك قوات جوية، كما يملك مدرعات ومدفعية ثقيلة لا تملكها ميليشيا الدعم السريع، فأداؤه القتالي المتراجع وفقدانه لمواقع في العاصمة، التي كان ينظر لها أنها معقله الحصين، يعد أحد الألغاز العسكرية.
يمكن تلخيص بعض أسباب تراجع الجيش السوداني أمام ميليشيا لا تملك المعرفة العسكرية التي يملكها ضباط الجيش من خريجي المعاهد العسكرية فيما يلي:
أولًا: أدلجة القوات المسلحة
نجحت محاولات الإسلاميين في اختراق الجيش والأجهزة الأمنية، التي بدأها حسن الترابي في السبعينيات، في خلق كوادر موالية ومؤدلجة، قامت بانقلاب 1989 على الحكومة المنتخبة بعد أزمة سياسية ساهم الإسلاميون في تفاقمها في الحكومة والبرلمان.
بعد نجاح الإسلاميين في الاستيلاء على السلطة، توسعت عمليات أدلجة الجيش وتحويله لمؤسسة عقائدية تدين بالولاء للإسلاميين بدلًا عن كونه مؤسسة محترفة.
تتحول الجيوش المؤدلجة إلى مؤسسات للمكافآت، تتم فيها الترقية والتصعيد وفقًا لاعتبارات الالتزام العقائدي والأيدلوجي والولاء، وليست الكفاءة المهنية.
ثانيًا: المصالح التجارية للجنرالات
أدت عقود من سيطرة تحالف العسكر مع الإسلاميين إلى نمو ما يعرف بالبيزنس الأمني/العسكري، وهي شركات يستفيد منها ويديرها ضباط عسكريون وموظفون أمنيون إما في الخدمة أو متقاعدين.
في يونيو 2022 نشر تقرير لمركز الدراسات الدفاعية المتقدمة/C4ADS، بيانات تحدد 408 كيانًا تسيطر عليها النخب الأمنية والعسكرية، وتشمل شركات زراعية وبنوك وشركات الاستيراد الطبي. بشكل عام، يشكل نمو المصالح التجارية للنخب العسكرية والأمنية أحد أهم التحديات التي تواجه دول العالم الثالث التي تنشط جيوشها سياسيًا.
الرتب العسكرية التي مُنحت للحركات بشكل شبه رسمي تباع في سوق لبيع الرتب في الخرطوم
يؤدي التداخل بين الأمني والعسكري والاقتصادي والسياسي إلى أضرار تصيب السياسة والاقتصاد، كما تصيب الجاهزية العسكرية والقتالية. وفقًا لتقرير مركز الدراسات الدفاعية، فإن نظام البشير مكَّن كارتل النخب الأمنية والعسكرية التي شكلت دولة السودان العميقة، ووضع الأساس لتلك النخب لاستغلال الفساد والحقوق الاقتصادية الحصرية داخل النظام الاستبدادي في السودان.
صرف الاهتمام بالاقتصاد نظر قادة الجيش عن تطوير القدرات القتالية والتدريب للجيش السوداني، وجعل أولوياتهم تتجه لمصالح تجارية واقتصادية متداخلة مع الدولة، وهو ما يفسر ضعف التدريب والانضباط العسكري والقتالي للعسكريين في المعارك الأخيرة.
في ظل هذا الوضع تراجع دور العسكريين المحترفين، وظهر ما يمكن تسميته العسكريين رجال الأعمال، وهم من تكون اعتبارات الكفاءة لديهم متركزة حول توليد الثروة وتعظيم الربح، لا القدرات المهنية، ما يؤثر بالتبعية على جاهزية وفاعلية الجيوش.
ثالثًا: تعدد مراكز القيادة والسيطرة
تقوم الجيوش الحديثة على توحيد القيادة والسيطرة في هيكل واحد، بحيث لا تتضارب القرارات العملياتية أو الاستراتيجية، ولا تؤدي الخلافات بين هياكل القيادة المتعددة إلى صراعات مسلحة.
هذا ليس الوضع في السودان، حيث تتكاثر الجماعات المسلحة تكاثر الفطر في أرض رطبة. وتنفرد كل جماعة بهيكل قيادة وسيطرة تعترف به الدولة وفقًا لاتفاق جوبا للسلام، الذي ضم جماعات مسلحة رئيسية مثل حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان (فصيل مناوئ)، والناشطين في دارفور، والحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال الناشطة في كردفان والنيل الأزرق (فصيل مالك عقار).
تمنح هذه الحركات رتبًا عسكرية معترفًا بها، ووفقًا لوسائل إعلام محلية، فإن الرتب العسكرية التي مُنحت للحركات بشكل شبه رسمي تباع في سوق لبيع الرتب في الخرطوم.
فقدت الدولة مقومها الأساسي؛ وهو السيطرة الحصرية على العنف الشرعي، ومنحت شرعية سياسية واجتماعية لتعدد الولاءات المسلحة والقيادات، مما جعل الصراعات المسلحة أمورًا يستسيغها المزاج العام على اعتبار أنه احتجاج مسلح، وليس خروجًا على الدولة.
وهنا تتلاشى الخطوط الفاصلة بين المعارضة والتمرد المسلح، وتُنتج حروبًا لا منتصر فيها ولا منهزم بشكل قاطع. في مثل هذه الأجواء يتحول الجيش الرسمي إلى جماعة مسلحة أخرى، لا تعبر عن كل السودانيين، الذين يحق لكل منهم اختيار الجماعة المسلحة التي تعبر عنه أو تدافع عن مصالحه، وأولها المصلحة في الحياة ذاتها، بعد تورط الدولة لفترات طويلة في عمليات تطهير عرقي أو نهب منظم.
رابعًا: ضعف العقيدة القتالية
خلق تعدد السلاح والولاءات وأدلجة الجيش وضعًا أضعف من نظرة الكثير من السودانيين إلى جيشهم الوطني، حيث فقد الجيش صفته الوطنية الجامعة في تصورات جماعات سودانية مسلحة وغير مسلحة.
مع بدء الصراع، نظرت قطاعات واسعة من السودانيين إلى حميدتي والبرهان على أنهما "وجهان لعملة واحدة". كما رفعت جماعات ومثقفون سودانيون وما يُعرف بلجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير، شعارات "لا للحرب"، وهي شعارات ساوت بين الأطراف المتصارعة، وأضرت بالجيش في الأساس، القائم على التجنيد والتعبئة القومية، على خلاف ميليشيا الدعم السريع التي تستمد خزانها البشري من روابط قبلية في الأساس.
كما أضعفت مواقف الجيش السابقة عقيدة مقاتليه، خاصة مشاركته في القمع الوحشي للاحتجاجات، ودوره السياسي، والشكوك حول ولاء بعض قياداته لنظام البشير.
أثر تسييس الجيوش
كلها عوامل لعبت دورًا في إضعاف عقيدة الجيش القتالية، وارتباك تصورات عدد كبير من أفراده الذين يقاتل الكثير منهم لحساب دولة متخيلة، لا وجود لها في وعي كثير من السودانيين، الذين توزعت ولاءاتهم بين القبيلة والعرق والعقيدة الدينية.
تشابكت عوامل مختلفة أدت إلى تراجع أداء الجيش السوداني، لكن تبقى الحالة السودانية قائمة كدرس قاسٍ وحزين، ربما يجيب عن أسئلة جاهزية الجيوش وكفاءتها القتالية، وكذلك كيف تضررت الجيوش من السياسة، تمامًا كما أضرت الجيوش بالسياسة.