برخصة المشاع الإبداعي: الأمم المتحدة، فليكر
لاجئون في مخيم زمزم للنازحين داخليًا في إقليم دارفور بالسودان، 1 يوليو 2004

الفول والعدس والجراد والتكَايَا.. الحرب تدمر مائدة إفطار السودانيين

منشور الأربعاء 3 أبريل 2024

تبدل حال المعز حامد هذا العام، فبعدما كان يقضي شهر رمضان في حفلات الإفطار الجماعية في شوارع السودان، صغر حلمه ليصبح توفير حفنة من الدقيق وبعض البقوليات. فهو الآن لا يجد سوى الفول والعدس ليسد رمقه أسرته طيلة شهر الصيام، وأحيانًا ما يخوض مغامرة خطرة للمشاركة في توفير الغذاء لأهالي الحي.

أثّر استمرار الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لما يقرب من عام على قدرة السودانيين على سد جوع أسرهم وأطفالهم، وسط تحذيرات دولية من وجود نحو 5 ملايين شخص في السودان على شفا المجاعة.

يروى المعلم الأربعيني قصته لـ المنصة عبر عدة مكالمات هاتفية جرت بصعوبة شديدة، جراء انقطاع شبكات الاتصال بشكل مستمر وعودتها لمدد صغيرة على مدار اليوم.

يبعد منزل المعز عن العاصمة الخرطوم حوالي ثمانية كيلومترات، "اضطريت للهروب من بيتي" يقول حامد عن الأشهر الأولى للحرب، اتجه وسطًا إلى ولاية الجزيرة، قبل أن يصلها القتال في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فقرر العودة لمنزل العائلة يرافقه أبناؤه الخمسة ووالدته وابن عمه.

تهريب الغذاء

قبل الحرب، كان المعز يعمل بإحدى مدارس حي شمبات، بمدينة الخرطوم بحري، قبل أن تتوقف الدراسة وينقطع راتبه. ثم عمل متطوعًا في غرفة طوارئ بحري، التي تشكلت وقت الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير لتأمين الشوارع وتوفير الخبز والدقيق، قبل أن تأخذ منحى اجتماعيًا أكبر بعد اندلاع الحرب.

نقل الغذاء أشبه بتهريب المخدرات

يؤدي أفراد غرف الطوارئ أدوارًا بديلةً عن الحكومة الغائبة ومنظمات العمل الإغاثي التي تجد صعوبة في الوصول إلى مناطق الاشتباكات، فتحاول سد احتياجات المواطنين، خصوصًا الغذائية، كما يعملون على توفير كافة الاحتياجات المعيشية لسكان الأحياء التي توجد بها هذه اللجان في الولايات السودانية المختلفة.

ما زال حي شمبات تحت سيطرة قوات الدعم، ويعد وصول الغذاء إليه شبه مستحيل في ظل التضييق الذي يمارسه الجيش على حركة مرور المؤن والمساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرته.

"عملية نقل الغذاء إلى الحي أشبه بتهريب المخدرات والبضائع غير الشرعية" يقول المعز الذي يخوض والمتطوعون في غرف الطوارئ رحلة خطرة للحصول على المواد التموينية وتوفيرها لأهالي الحي.

تأتي المواد التموينية البسيطة إلى شمبات من منطقة شرق النيل، التي تبعد عنها بمسافة تصل إلى 20 كيلو مترًا وتسيطر عليها قوات الدعم السريع، بينما "تبقى مهمة المرور على الأكمنة المختلفة المنصوبة على الطريق لتوصيل الغذاء أشبه بالمعجزة".

يصف المعز حامد تجربته في نقل الطعام لحي الشمبات، "نستقل سيارات صغيرة ونحملها بكميات قليلة من الغذاء خشية ضبطها على الطريق"، ولا تخلو عمليات المرور إلى أسواق شرق النيل من عمليات تفتيش مستمرة.

كما أن مرور الغذاء للحي لا يعني وصوله للمواطنين، يحكي "في إحدى المرات استولت قوات الدعم على ما نحضره بالكاد ليكفي إفطار 50 أسرة... وفي مرة أخرى تعرض زميلي بالغرفة للاعتقال على يد قوات الدعم السريع، وواجه اتهامًا بالعمل لصالح الجيش بعد ضبطه عائدًا من شرق النيل".

بعد هذا الموقف اشترطت قوات الدعم السريع حصول المواطنين على إذن مسبق قبل التحرك في رحلة الحصول على المواد التموينية، "بعد تدخل أطراف عديدة جرى إطلاق سراح زميلي قبل أيام، لكن المشكلة أن الغذاء لم يصل تكية آل حضرة التي أعمل على إعداد الطعام بها في ذلك اليوم".

البقوليات للإفطار والسحور

تشكل التكايا الوسيلة الوحيدة التي يعتمد عليها السودانيون لسد جوعهم خلال رمضان، ويُعرفها حامد بأنها عبارة عن مطابخ توجد في المساجد والبيوت الكبيرة وتشرف عليها غرفة الطوارئ وكبار العائلات في الحي.

أما وجبة الإفطار فـ"تحتوي على صنف أو صنفين وقد تكون طبقًا من الفول إلى جانب الفاصوليا"، بينما تتنوع مكونات وجبة السحور بين البليلة والعدس، يوضح حامد "يمكن أن تكون الوجبة من صنف واحد في حال لم تكن هناك مواد تموينية في الأسواق التي تشهد إقبالًا واسعًا مع شح السلع بوجه عام".

توفر الوجبات لا يعني كفايتها أو صلاحيتها، "الوجبات في الأغلب لا تكفي الأسر، وتبقى أقل كثيرًا من احتياجاتهم، كما أنه في كثير من الأحيان تأتي المواد التموينية غير صالحة لكن لا سبيل آخر سوى الطهي وتوفير الغذاء".

يشتاق أبناء حامد إلى البروتين الحيواني "يسألوني دائمًا عن توفر اللحوم أو الدجاج الذي اعتادوا على تناوله لكني أرد: ما يسد الرمق أفضل من الموت جوعًا".

نقص الغذاء ليس الأزمة الوحيدة التي تواجهها الأسر السودانية في حي شمبات "قضينا شهر فبراير دون كهرباءـ، واستمر الوضع حتى الأسبوع الثاني من رمضان"، يوضح حامد مشيرًا إلى أن الوضع ذاته بالنسبة لشبكات الاتصالات "قوات الدعم السريع تجري عمليات تشويش على الإنترنت"، محذرًا من أزمة جوع كارثية خلال الأيام المقبلة.

وقف الاتصالات أدى إلى انقطاع وسائل التواصل ولم تصل التبرعات للحي

وهو ما حذّرت منه الأمم المتحدة الأربعاء الماضي، ووصفته إيديم وسورنو المتحدثة باسم منسّق الأمم المتّحدة للشؤون الإنسانية مارتن جريفيث بـ "واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في الذاكرة الحديثة".

وقالت وسورنو إن "شركاءنا في المجال الإنساني يتوقعون وفاة حوالي 222 ألف طفل بسبب سوء التغذية خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة"، مشيرة إلى خطر وفاة الأطفال الضعفاء بسبب أمراض يمكن الوقاية منها، في حين أن أكثر من 70% من المرافق الصحية خارجة عن الخدمة.

انقطاع الاتصالات والتبرعات

يعمل غالبية أبناء شمبات في وظائف حكومية أو عمالًا ومزارعين، وأغلبهم من البسطاء، ومع توقف تلك الأعمال وعدم صرف الرواتب الحكومية منذ اندلاع الحرب، اضطر المواطنون لصرف مدخراتهم على النزوح والطعام، فبات الوضع المعيشي مترديًا للغاية.

"تجهيز التكايا يكون من خلال التبرعات التي تصل من الخارج، عبر حسابات بنكية ويتم نقلها إلى أشخاص آخرين يتبعون غرف الطوارئ لتجهيز موائد الإفطار"، يوضح المعز حامد.

لكن وصول التبرعات يقابله بعض العقبات "توقف شبكات الاتصالات أدى إلى انقطاع التواصل، وفي أيام عديدة لم تصل الأموال إلى الحي، وتكفل بعض الأهالي ممن لديهم مدخرات بسيطة لتجهيز التكايا".

من جانبها تؤكد مريم عز الدين صديق، وهي أحد مؤسسي مبادرة "عطاء حب السودان" التي تعمل من أوغندا، أن النقص المستمر في الغذاء والعلاج، مع فشل المنظمات الدولية في توصيل المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وتراجع الاستيراد، واختفاء سوق العمل، أدت إلى شح شديد ومتواصل في المواد الغذائية والأدوية مع الغلاء الفاحش.

يشير حامد إلى أن مجموعات كبيرة من أهالي شمبات في مصر والسعودية وقطر والولايات المتحدة ساهموا في تمويل التكايا، بينما يواجهون الآن صعوبات في إرسال الأموال للبنوك السودانية العاملة في مناطق بعيدة عن الاشتباكات، بالإضافة لصعوبات توصيلها إلى شمبات.

واتفقت مريم مع حامد في توضيح أهمية دور التكايا التي يقودها متطوعو غرف الطوارئ باعتبارها البطل الأبرز لإطعام مئات الآلاف، لافتة إلى وجود أكثر من 300 تكية في العاصمة تطعم ما يزيد عن ربع مليون مواطن ممن اضطروا للبقاء في المدينة، وحذرت من توقف التكايا عن تقديم الطعام "بسبب توقف استلام التبرعات نتيجة انقطاع الإنترنت".

تشهد شمبات حالة من الهدوء الحذر عسكريًا، يشير المعز حامد إلى أن أهالي شمبات يقعون فريسة للطرفين "قوات الدعم تنصب أكمنتها وتعرقل وصول الغذاء، وفي بعض المرات يتم مصادرته. فيما تعمل قوات الجيش التي تسيطر على غرب أم درمان على بعد ثمانية كيلومترات فقط من شمبات على قطع الكهرباء فيترتب عليه انقطاع المياه، ويشرب الأهالي من النيل مباشرة".

يشكو حامد حظر قوات الجيش دخول المواد العلاجية "كما أن الدانات التي تطلقها في مناطق قريبة من الحي تصيب المواطنين بالفزع".

في مطلع مارس/آذار الماضي، دعا مجلس الأمن إلى وقف فوري لإطلاق النار في السودان خلال شهر رمضان والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بلا عوائق، غير أنه لم يتم تطبيقه بعد.

الوضع في جنوب دارفور أكثر صعوبة... يموت طفل كل ساعتين

توضح مريم أن الوضع في دارفور أكثر صعوبة "ينشر النشطاء صورًا لمواطنين يأكلون الجراد، وفي مخيم زمزم للنازحين جنوب دارفور يموت طفل كل ساعتين بسبب انعدام الغذاء، حسب أطباء بلا حدود ومنسقي معسكرات النازحين، وفي بعض المناطق يضطر النازحون لأكل علف الحيوانات".

وقُتل ما لا يقل عن 13 ألف شخص منذ بداية النزاع حتى منتصف مارس الماضي. وتقدر المنظمة الدولية للهجرة عدد النازحين داخليًا بنحو 9 ملايين، وهو ما يمثل حوالي 13% من مجموع النازحين داخليًا على مستوى العالم، بينهم نحو أربعة ملايين طفل.

يبقى المعز حامد وعائلته مع مئات الآلاف من السودانيين المضطرين للبقاء في السودان، بينما تفشل المنظمات الأممية والدول الإقليمية في إنهاء الصراع الذي بدّل حياة المواطنين فحرمهم الغذاء والعلاج وطقوس الليالي الرمضانية، ليقترب العيد دون بادرة أمل في إنهاء الصراع.