برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا
مقر الأمم المتحدة في بغداد بعد تفجيره في 19 أغسطس 2003

اعتياد الرمادي.. عن مدننا التي صارت ذكرى

دمار ما بعد الثورات وقمع إعادة الإعمار

منشور الأحد 4 فبراير 2024 - آخر تحديث الاثنين 5 فبراير 2024

هل للمدن ألوان؟ هل تتشح القاهرة بالأصفر أم بالرمادي؟ هل تتلون الخرطوم بالألوان نفسها؟ ماذا عن طرابلس، دمشق، رام الله، غزة، عمان، وغيرها. هل يرى السائرون في المدن ألوان الطبيعة أم ألوان البيئة التي عمّرها الإنسان؟

الأزرق لسموات المدن، أما الأصفر فللصحاري، تتلون به مدن الخليج العربي ومصر والعراق والأردن وأجزاء من السودان، ممزوج بالطين البني من فيض الأنهار، والأخضر للزرع والسهول التي تختال بها مدن الشام.

أما الرمادي فلون الغيوم، من الطبيعي أن نراه خلال الشتاءات القصيرة لمدننا العربية، لكنه قد ينتج أيضًا عن التلوث الذي انتشر حتى صار لونًا معتادًا. 

لماذا المدن؟

المدن هي تجلي علاقات رأس المال في تاريخ البشرية الحديث، اعتمد تخطيطها قبل نشأة الرأسمالية الحديثة على التجارة وحركتها، فيما شكّل النظام الإقطاعي ملامح المناطق الزراعية وعلاقة الأرض والطرق والسكك الزراعية وأماكن المحالج والسواقي، والأهم مصادر المياه والري.

كان تأثير علاقات التجارة واضحًا في مدننا القديمة، سواء في عرض الشوارع، أو أماكن الأسواق، أو ساحات أماكن العبادة.

ومع نشأة الرأسمالية الحديثة، صار تخطيط المدن أكثر تركيبًا، ويهدف بالأساس لخدمة دورات تراكم رأس المال المتلاحقة، بحيث زاد الاهتمام بربط مواقع الإنتاج بأماكن الموارد الأولية وسكن القوى العاملة، ما أسفر عن طفرة في إنشاء الطرق والكباري، وصار الهدف الأسمى هو اختصار وقت الإنتاج.

هذا التجلي لعلاقات رأس المال خلال النُظم العمرانية يعكس هيمنة وسيطرة من قطاعات الطبقات الحاكمة على مر التاريخ.

من جهة أخرى، فعوالم الاقتصاد السياسي العمراني لا يمكن فصلها عن حركة السياسة وضوابطها على مر الزمن، لذلك كثيرًا ما كانت المدينة، وأحيانًا العاصمة، هي مركز الحُكم والسياسة، وأهم مكان يجب تأمينه من المخاطر الخارجية والداخلية، وعليه كانت جغرافيا المدينة وتطورات السياسة انعكاسًا لبعضهما البعض.

المدينة العربية والتدمير

على مدار العقدين الماضيين، يبدو تأثير التغيرات السياسية ومحاولات سيطرة القوى الدولية واضحًا على عمران مدننا العربية. بشكل أولًا ممنهج وثانيًا مستمر، دمرت جهات دولية عددًا من المدن العربية، سواء لمراكمة مصالح اقتصادية أو سياسية، وفي أحيان كثيرة الاثنان معًا.

لكن إدراك المجتمعات للتغيرات التي تجري في المدينة يختلف من مجتمعٍ لآخر، لأن هذا التغيير قد يحدث بصورة مستمرة أو متقطعة، وقد يجري في بلدان مجاورة فيكون لدينا إحساس بعدم التأثر بهذه الأحداث، أي يصبح المشهد مرئيًا ولكن غير معاش. لذا، قد تكون التغييرات كبيرة لكن يعتادها الوجدان من تكرار المشاهدة.

ولا يعني هذا أن المدن، قبل تعرضها لهذه التغييرات، كانت وصلت لطور جيد للمعيشة والمدينية لسكانها، لكن فقط تغييرها وتدميرها أتيا بسرعةٍ، ودون أي خيارات أخرى لسكانها.

مشاهد رمادية

بغداد، 21 مارس/آذار 2003، بعد احتلال الجيش الأمريكي وحلفائه ثم تدمير مطارها الدولي، ورغم تضارب إحصاءات عدد القتلى لكنه قدر بما بين نصف المليون والمليون عراقي بين عامي 2003 و2007.

 هل تذكرون لون مشاهد الخرطوم؟ أم هل بعد 20 عامًا من مشاهدة تدمير بغداد صار الدمار مألوفًا؟

لم نملك وقتها الموبايلات ذات الكاميرات فائقة الجودة، لكننا شاهدنا بعض الصور من خلال القنوات الفضائية، وسمعنا أصوات الانفجارات عبر الراديو، نقلت لنا هذه الوسائل أعمال التدمير الواسعة في البنية التحتية، والمؤسسات الحكومية، والمتاحف.

ساهمت الحرب في تحول بغداد تدريجيًا إلى لون أصفر، ناتج عن الانفجارات وسُحب النار والدخان، يتخلله لون رمادي للمباني المنهارة وركام الأسمنت والخرسانة المتكسرة بعرض الطريق. 

بعدها بنحو تسع سنوات صارت دمشق وحلب، وسوريا بأكملها، ساحة حرب مستمرة، وهو المشهد الأشد قسوة في تاريخنا الحديث من حيث وطأة مجازره وامتدادها الزمني، ودوره في تشتيت شعب بأكمله.

بيد مجرمي حرب، أولهم بشار الأسد، دُمرت المباني والمتاحف والمساجد، وكان أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول لعام 2012 شهري التدمير المستمر لدمشق وحلب.

ميدان الحطب في حلب، سوريا. 2017.

حُرق في الجامع الأموي الكبير في أكتوبر/تشرين الأول آلاف القتلى والجرحى. وفي مواجهات دامية بين "الجيش السوري الحر" والقوات النظامية السورية، لجأ العديد من السوريين لمخيم اليرموك الفلسطيني ليحتموا به من الدبابات التي سحقت الأحياء السكنية في دمشق.

بعدها بستة أعوام، في 2018، بدأت ثورة السودان، بحراك عظيم من الشعب ضد غلاء الأسعار والاستغلال المستمر من نظام عُمر البشير، وانتهت بعزله من السلطة في 11 أبريل/نيسان 2019.

لكنها تحولت إلى تراجيديا مع انقلاب الجيش على الحكومة المدنية في 2021، ثم نشوب صراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتسببت هذه الأحداث في تدمير العديد من المواقع الحيوية في السودان منها مصفاة الجيلي في نوفمبر/تشرين الأول 2023، ومطار الخرطوم الدولي، بالإضافة لعدد من الأحياء السكنية، وجسر سد جبل الأولياء، والقصر الجمهوري.

منذ أبريل حتى ديسمبر/كانون الأول 2023، لم تتوقف المجازر في السودان. هل تذكرون لون مشاهد الخرطوم؟ أم هل بعد 20 عامًا من مشاهدة تدمير بغداد، صار الدمار مألوفًا؟

ومن قبلهما، هرست عجلة الدمار ليبيا في دورة مستمرة، بدأت بهجوم قوات الناتو جوًّا على البلاد في يونيو/حزيران 2011 بهدف إسقاط نظام القذافي، حيث تحولت شوارع طرابلس إلى ساحة حرب، استمرت حتى بعد رحيل القذافي من خلال صراع دائم بين مختلف الأطراف الفاعلة، تسبب في تدمير طال مطار طرابلس الدولي في 2014.

توحدت مصر والسعودية على شعار مدن بلا عشوائيات واستغلوه لتصفية طبقات أكثر فقرًا وأقل تمكينًا في البلدين

وتلاحقنا منذ أكتوبر الماضي المئات من مشاهد تدمير غزة، المدينة المحاصرة منذ عام 2006، التي تسببت إسرائيل في تدمير أكثر من 68% من وحداتها السكنية حتى 20 نوفمبر الماضي.

وعلينا ألا ننسى بين هذه الأحداث ما عاشته بيروت في أغسطس/آب 2020، عندما انفجر المرفأ بسبب احتراق كمية ضخمة من نترات الأمونيوم، فدمرت حوالي 40 ألف بناية، منها مبانٍ أثرية.

من قوة الانفجار، هيمنت على المدينة لأيام أصوات الزجاج المتهشم، وصور المباني المدمرة، واللون الرمادي للسيارات المحترقة. دمار جاء فوق طبقات دمار أقدم جراء الحرب الأهلية التي استمرت حتى تسعينيات القرن الماضي.

يوم الانفجار علت سماء بيروت سحب حمراء وبرتقالية، ثم تحولت للرمادي، ولونت معها جميع أنحاء المدينة، وأوجه وأجساد القتلى والمصابين والسالمين، طال الرمادي كل التفاصيل.

وفي القاهرة، تغيرت هوية كثير من الأحياء السكنية منذ 2014، عبر العديد من المشاريع القومية وخطط "التنمية المستدامة"، التي كانت تبعث رسالة لجميع المصريين، مفادها أنتم لا تملكون حق تقرير الوجود.

تحت مسمى تحسين المناطق الحضرية الفقيرة والقضاء على مناطق مباني الأهالي "العشوائيات"، محت الفترة من 2017 إلى 2021 تلك الجغرافيات من على الخريطة، فأُخليت من سكانها، مع ادعاء تعويضهم ونقلهم إلى أماكن أفضل. لم يحصل جميع السكان على سكن بديل، بل شُرد الآلاف منهم، أو أقاموا في مناطق جديدة على أطراف المدينة.

في الفترة نفسها، شُيدت العديد من المدن الجديدة، من أهمها العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة، مثلما تعمر السعودية مدينة نيوم، وهي من مدن الجيل الخامس، التي تنافس فيها السلطات المصرية والسعودية، التجربة الإماراتية، تأثرًا بمدينتي دبي وأبوظبي.  

مثل القاهرة، في جدة والرياض، أجلي الآلاف من السكان الفقراء والبدو الرحل عن مناطقهم بدعوى إخلاء المناطق "العشوائية". توحدت مصر والسعودية على شعار مدن بلا عشوائيات، واستغلوه لتصفية طبقات أكثر فقرًا، وأقل تمكينًا في البلدين. وهو ما أدى لتدمير ممنهج ومستمر، لصيغ حياة سكان الطبقات الوسطى والأكثر فقرًا.

هذه المشاريع التي ولدت باسم "التطوير" وادعاءات"التنمية" و"التحضر"، لم تكن سوى موجة من الإخلاءات وتغيير لوجه المدينة دون استشارة سكانها، بل وتحقير لطبقات وتأكيد على أن حقوقهم في المدينة ليست متاحة.

استغلت السلطات في مصر أحداث الربيع العربي وثورة يناير 2011، لتبرير هذه التحولات، فقُدمت العاصمة الإدارية على أنها تعبير عن التحول للجمهورية الجديدة، وكذلك مشروعات "تطوير" مناطق بولاق أبو العلا ومصر الجديدة ومصر القديمة والزمالك والمعادي، بزعم أنها تنقذ البلاد من الفوضى التي خلفتها ثورة يناير.

آلية التدمير وكارثتها

تغييرات المدن، مثل دمشق والقاهرة وغزة، مقصودة بفعل فاعلين يمكن تسميتهم والإشارة إليهم. يتسببون في قمع الشعوب وتدمير معالم المدن، مثلما دمَّرت الجيوش الأمريكية والإسرائيلية وحلفاؤها العراق وفلسطين بشكل ممنهج. وبينما يكون تعيين أعدائنا الداخليين أكثر تعقيدًا، لكن اجتماع القوى الداخلية والخارجية في أفعال التدمير وحصاد كره الشعوب قد يجعل تمييزهم أسهل.

صارت حالة التدمير مستمرة في مدننا العربية، سواء جراء حرب منظمة واحتلال عدو غاشم، أو تحت مسمى "التطوير والتعمير" الذي ينطوي على محو لذاكرة المدينة وإجلاء سكانها غير المرغوب بهم، دون تعريفه كجرائم عمرانية مستمرة.

فرضت هذه التغييرات أسئلةً جماعيةً على شعوبنا، من قبيل هل كان الربيع العربي غلطة؟ هل أدى للخراب؟ هل أيام مبارك أو القذافي كانت أفضل؟ وجعلتنا نسخر أحيانًا من ذكريات القمع الوسطي الجميل ونحن نقارنه بدرجات القمع الحالية، وتحول نظمنا العربية من ديكتاتورية إلى فاشية عسكرية.

الواقع أن ما نعيشه حاليًا هو نوع من الحالات التي تمر بها الشعوب بعد الثورات الكبرى، حيث يُعاقَب كل من قال لا، ومع هذه الموجة العقابية تطول المدن والعواصم حالة تغيير تام. تُعلن حالة الطوارئ، وضرورة إعادة تعمير البلاد بعد هذه "الأحداث الكبرى"، وهو ما حدث في بغداد، ودمشق، وحلب، ورام الله، وطرابلس، وبيروت، وغيرها.

وتحت ادعاء إنقاذ المدن من الخراب، يُسمح بتحولات اقتصادية تؤدي لتغييرات مجتمعية حادة وعنيفة، لا يجد المواطن أي فرصة لرفضها أو حتى فهمها وسط أجواء الطوارئ المزعومة. فعل ذلك بشار الأسد بعد الثورة السورية في 2012، وإردوغان بعد فشل محاولة الانقلاب عليه في صيف 2016، وقبلهم نابليون الثالث في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية.

اعتياد الرمادي

وكأن بشريتنا أصابها التخلف، وكأن عوالمنا أصبحت لا تستحق شيئًا غير التدمير المستمر، وتعريف أي فعل مقاومة إلى كارثة مستمرة من قبل الأنظمة. وهو تدمير بنيوي عميق يؤكد احتقارًا دائمًا من حكامنا، ومن حكام الغرب الأمريكي والإسرائيليين.

هكذا، ارتبط فعل المقاومة باللون الرمادي. وأمام خطاب إعادة الإعمار ترتبك ذاكرتنا الجمعية، ويميل بعضنا لتبرير أفعال ديكتاتورية باعتبارها ضرورة لإنقاذ البلاد من كارثة. وفي المدى الطويل قد نعتاد الظلم والقهر والتدمير، ونعتاد الرمادي وننسى كل الألوان لأنهم حاولوا إقناعنا بأننا بلا قيمة، نحن ومدننا. 


اقرأ أيضًا: لمن الطرق اليوم


قد تعتاد خصلات رمادية تظهر في شعرك مع تقدم العمر، وتعتبرها أمرًا مسلمًا لا يد لك فيه. لكن المدن وماهيتها ليست أجسادًا، ومن الواجب علينا مصارعة هذا التشبيه وقتاله في خيالنا، لأن تغيير المدن لا يحدث بفعل الزمن، لكن بفعل من يتحكمون ويتكسبون منه، وهم الحكام.

إنهم الحكام ومن حولهم في الطبقة الحاكمة ومن ينتفعون من الإنشاءات. إنهم كل من يتربحون من التدمير لأجل المستقبل.