يرتبط في أذهاننا دائمًا يوم 6 أكتوبر بالمعجزة العسكرية في عبور قناة السويس، وبمجموعة أفلام حرب أكتوبر التي كنا نشاهدها في التليفيزيون كل سنة في ذكرى الحرب، ولكن نادرًا ما نتذكر ما تبع الحرب من تأثيرات اقتصادية عالمية. ربما في ذكرى الحرب التاسعة والأربعون، مناسبة لاستعراض أهم تأثيراتها الاقتصادية، وما تبعها من تأثيرات على النظرية الاقتصادية، وتحديدًا صعود النيوليبرالية، كنتيجة لعجز السياسات الاقتصادية الكينزية أمام الهزات الاقتصادية العنيفة التي أنتجتها الحرب.
رغم نجاح حرب أكتوبر في كبح جماح التوسعية الإسرائيلية وتعزيزها من سيادة مصر على أراضيها، يمكن القول بأنها أذنت بعصر من تراجع استقلالية القرار الاقتصادي، ليس في مصر فحسب، ولكن حول العالم. حيث ازدادت قوة أسواق المال العابرة للدول، فضلًا عن قوة أذرع سوق المال السياساتية متشكلة في مؤسسات التمويل الدولية العابرة للدول، وهو الأمر الذي نختبره حاليًا، كما غيرنا من البلدان، في ظل فرض صندوق النقد الدولي شروطه المنحازة ضد أصحاب الدخول المنخفضة عبر العالم.
أدى عبور القوات المصرية لقناة السويس يوم 6 أكتوبر إلى صدمة النفط الأولى عندما قامت الدول العربية من أعضاء منظمة أوبك في 17 أكتوبر/تشرين 1973 بحظر نفطي، لدفع الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967. أدى هذا لهزات عنيفة في الأنظمة والأفكار والسياسات الاقتصادية بشكل لا نبالغ إن قلنا إنه قسم التاريخ الاقتصادي لما قبل أزمة النفط وما بعدها.
كان التأثير الفوري صادمًا، زاد سعر النفط حوالي أربع أضعاف في غضون أيام، وامتدت الطوابير في محطات الوقود حول العالم، وتحولت للعنف في أحيان كثيرة، وبدأت المحطات فرض قيود على شراء الوقود، ومررت بعض الدول، مثل هولندا، عقوبات تصل للسجن لمن يتخطى الحصة المسموح بها، ومنعت الكثير من الدول سكانها من القيادة في عطلات نهاية الأسبوع.
ما بالنسبة للتأثير طويل المدى على النظرية والسياسات الاقتصادية، فسنركز هنا على محورين، محور التغيير الجذري في خريطة الاستثمار العالمي بسبب الفوائض الهائلة التي حققتها دول الخليج نتيجة أزمة النفط، وتأثير ما يسمى بالركود التضخمي على تطور النظرية والسياسة الاقتصادية.
صعود الخليج كقوة استثمارية عملاقة
يقول ماثيو هيوبر، أستاذ الجغرافيا والبيئة في جامعة سيراكيوز، في كتابه "دماء الحياة" أن رد الفعل الشعبي في دول الشمال المتأذية من ارتفاع أسعار الطاقة كان يميل إلى ضرورة خروج السياسة من عمل الأسواق، فكان هناك قناعة بأن ما فعلته دول الخليج هو تدخل نادر في عمل الأسواق، وهو بالطبع تصور مثالي عن عمل الأسواق لا يمت للواقع بكثير من الصلة.
ولعل ما يعبّر عن هذه الحالة الشعبية/الشعبوية كانت أغنية على النمط الفلكلوري الأمريكي الـ western ظهرت في السبعينات تطالب حكومة الولايات المتحدة بقطع إمدادات الغذاء عن دول الشرق الأوسط التي تتلاعب بالأسواق. تقول كلمات الأغنية:
إذا لم يخفضوا سعر النفط سنقطع عنهم إمدادات الطعام
سنمنحهم حوالي أسبوع ليأتون بكلام مختلف
لقد ارتفعت أسعار النفط وأصبح من الصعب البقاء أحياء
وأراهن أن دول الشرق الأوسط تجد هذا مضحكًا
في رسالة لمسؤول الطاقة في إدارة الرئيس الأمريكي وقتها نيكسون، كتب أحد المواطنين "دع العرب يشربون نفطهم، ونحن سنأكل حبوبنا"، في إشارة متحدية لقدرة الولايات المتحدة على الصمود بدون النفط العربي، واستحالة صمود العرب بدون الغذاء الأمريكي.
رغم ضرورة تفادي اختزال ظاهرة معقدة مثل صعود النيوليبرالية في حرب أكتوبر كسبب وحيد، فسرعة التحول وحِدته كانا من الصعب أن يحدثا بهذا الشكل دون اندلاع الحرب، وما تلاها من سياسات تقييد نفطي من دول الخليج.
يقول أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والأنثروبولوجيا ديفيد هارفي في كتابه "تاريخ موجز للنيوليبرالية" إن وفقًا لوثائق الاستخبارات البريطانية، كانت بريطانيا تعتقد أن الولايات المتحدة ستقوم بغزو دول الخليج بعد حصار النفط لتأمين إمدادات الطاقة.
ويضيف هارفي أن السعودية، لتفادي ردة فعل عنيفة من قِبل الولايات المتحدة، وافقت حينها على إعادة تدوير مكاسبها البترودولارية الناتجة عن زيادة أسعار النفط من خلال مصارف نيويورك الاستثمارية. لكن بسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحصار ذاته، لم تكن هناك اختيارات كثيرة لاستثمار تلك الأموال باستثناء إقراض الحكومات.
يستشهد هارفي بمقولة والتر ريستون، رئيس سيتي بنك وأشهر مصرفي في العالم وقتها، بأن الحكومات، بعكس الشركات، لا يمكن أن تنتقل أو تختفي. كان إغراء الأموال الرخيصة وقتها قوي جدًا بالنسبة للحكومات المأزومة، خاصة في العالم الجنوبي، نتيجة الأزمة الاقتصادية الناتجة عن أزمة النفط. فبشكل ما تسبب "سلاح البترول" في الأزمة، لكنه في نفس الوقت قدم لها المسكنات حتى وإن لم يقدم العلاج.
ولعل هذا تذكرة مهمة بأن رأس المال عادة ما يحتاج لمساحات لارأسمالية، مثل فتح أسواق كانت مقيدة، أو زيادة الاعتماد على أموال دافعي الضرائب/الحكومات، أو الملكيات العامة، ليستند عليها وقت الأزمات.
من أجل تيسير هذه المعاملات، يقول هارفي إنه كان من الضروري توفير مزيد من حرية الحركة لرؤوس الأموال، وتم تسخير النفوذ الأمريكي لتحقيق هذه الغاية. ومن ثم نجح إعادة تدوير تلك الفوائض بشكل كبير عبر العالم. يكتب هارفي في هذا الصدد:
"قبل عام 1973، كانت أغلب استثمارات الولايات المتحدة الخارجية مباشرة، تركز بشكل أساسي على استغلال موارد المواد الخام [...] أو رعاية أسواق معينة (الاتصالات والسيارات وما إلى ذلك) في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
لطالما كانت البنوك الاستثمارية في نيويورك نشطة على الصعيد الدولي، ولكن بعد عام 1973 أصبحت أكثر نشاطًا، وأصبحت تركز بشكل أكبر على إقراض الحكومات الأجنبية. تطلب هذا تحرير الائتمان الدولي والأسواق المالية، وبدأت حكومة الولايات المتحدة بنشاط في تعزيز ودعم هذه الاستراتيجية على الصعيد العالمي خلال السبعينيات.
تم تشجيع البلدان النامية المتعطشة للائتمان على الاقتراض بكثافة، [...] وبما أن القروض مخصصة بالدولار الأمريكي، فإن أي ارتفاع متواضع، ناهيك عن الكبير، في أسعار الفائدة الأمريكية يدفع بسهولة البلدان الهشة إلى التخلف عن السداد، مما يعرض بنوك الاستثمار في نيويورك لخسائر جسيمة".
في هذا الصدد، يمكن فهم أزمات الديون التي انتشرت في الثمانينات، وتحديدًا في أمريكا اللاتينية، التي نشطت فيها المصارف الأمريكية كثيرًا.
بحلول عام 1982، كان لدى أكبر تسعة بنوك في الولايات المتحدة ديون لاتينية تصل إلى 176% من رأس مالها. اقترب إجمالي ديونها الخاصة في بلدان العالم الجنوبي إلى ما يقرب من 290 في المائة من رأس مالها. أدت أزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات لزيادة وانتشار برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، وتحولت هذه المؤسسة، الذي أسس نظامها الأساسي جون ماينارد كينز، للذراع السياساتي لهذا المشروع النيوليبرالي، وصارت الخصم الأكبر لإرث كينز ذاته كما سنرى أدناه.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذه الدينامية، فصارت أيضًا مكبلة بالديون بعد انفتاح أسواقها على المصارف والقروض والاستثمارات الأمريكية، ودخلت في أزمات عنيفة في ثمانينات القرن الماضي مما أدى لتدخل صندوق النقد ببرنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي عام 1991 بعدما أسقط نادي باريس جزءًا من ديون مصر مكافأة لها على المشاركة في حرب تحرير الكويت.
الركود التضخمي وصعود النيوليبرالية
بدأت النيوليبرالية التحضير للصعود من قبل اندلاع حرب أكتوبر. يقول هيوبر في هذا الصدد أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية يجب أن يُنظر إليها على أنها فترة احتضان النيوليبرالية، حيث تزايد الاستياء الشعبي في الولايات المتحدة من الحكومة والضرائب المرتفعة والسياسات الكينزية، وتراكم هذا الاستياء حتى حانت اللحظة السياسية المناسبة للتعبير عنه في عام 1973، وهي لحظة شكلتها جزئيًا المخاوف بشأن "صدمات النفط".
الاعتقاد بأن إرهاصات الصعود النيوليبرالي كانت سابقة على حرب أكتوبر يشبه ما قاله منظر الرأسمالية البريطاني بول ميسون في كتابه "ما بعد الرأسمالية"، حيث يرى ما حدث من ركود تضخمي بعد عام 1973 كجزء من دورات كوندراتيف الاقتصادية، التي تقسم التاريخ الرأسمالي إلى دورات صعود وهبوط تستمر نحو 40-60 عامًا.
يرى ميسون أن الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحرب أكتوبر ما كانت إلا منحى تصاعدي حاد جدًا لدورة كوندراتيف، لكن تراجع النمو والإنتاجية وأسواق المال وزيادة الاضطرابات العمالية كانت بدأت بالفعل قبل عام 1973.
فمنحنى صعود الدورة بدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ووصل لقمته في 1973، وبدأ في الهبوط منذ ذلك الحين، ومستمر في الهبوط حتى الآن حيث شهد العالم منذ وقت كتابة ميسون لكتابه ست فترات ركود، وكان هذا بالطبع قبل أزمة كورونا وحرب أوكرانيا.
رغم خطورة التركيز على الاتجاهات الدائرية في الاقتصاد على حساب الاتجاهات التاريخية والبنيوية المتجاوزة للدورة الاقتصادية، والتي كنت أشرت لها في مقال سابق، فإن هذا التحليل يؤكد على الخط الاقتصادي الفاصل التي شكلته حرب أكتوبر، والذي يجادل ميسون أنه لا يوجد حد فاصل أكثر وضوحًا منه في التاريخ الاقتصادي:
"زادت أسعار النفط أربع أضعاف، والصدمة الناتجة دفعت الاقتصاديات الرئيسية إلى الكساد، فانكمش اقتصاد الولايات المتحدة بنسبة 6.5% بين يناير 1974 ومارس 1975، وفي بريطانيا انكمش الاقتصاد بنسبة 3.4%. حتى اليابان، التي نما اقتصادها بمعدل يقترب من ال 10% سنويًا في مرحلة ما بعد الحرب، انكمش اقتصادها.
كانت الأزمة فريدة لأن في البلدان الأكثر تضررًا، تزامن الانكماش مع معدلات تضخم مرتفعة. بحلول عام 1975 وصل التضخم في بريطانيا إلى 20% ووصل إلى 11% في الولايات المتحدة. احتلت كلمة "الركود التضخمي" صدارة عناوين الصحف".
فشلت الحلول الكينزية التقليدية في مواجهة معضلة تزاوج التضخم مع الركود، فحتى هذه اللحظة كان يُرى في الأرثوذوكسية الاقتصادية أن الركود يؤدي دائمًا لانخفاض الأسعار، وأن التضخم لا يحدث إلا نتيجة للرواج الاقتصادي.
وبالتالي كانت النصيحة الكينزية هي اتخاذ تدابير معاكسة للدورة الاقتصادية counter-cyclical، بمعنى التوسع في الإنفاق والائتمان في فترات الركود وكبحه في فترات الرواج. ولكن مع الركود التضخمي، ستؤدي أي زيادة في الإنفاق بهدف مكافحة الركود لمزيد من التضخم، وأي سياسات انكماشية لكبح التضخم كانت ستؤدي لتعميق الركود.
ساعد هذا على صعود الأفكار النيوليبرالية المرتبطة بالتقشف، والتي كان يعد لها العدة مفكرين على رأسهم فريدريك هايك، وميلتون فريدمان، وكارل بوبر، ولودفيج فون ميزس فيما يعرف بـ "جمعية مون بيليرين"، وهي المؤسسة التي أخذت على عاتقها إعلان الحرب على دولة الرفاه، وأي توجه أيديولوجي جماعي، فضلًا عن حربها الأيديولوجية والسياساتية مع النقابات العمالية، والإنفاق الحكومي الاجتماعي.
وكان لهذه الجمعية بالغ التأثير فيما يخص إنشاء شبكة كبيرة من المراكز البحثية الليبرتارية، والتأثير على السياسات الاقتصادية في كل أنحاء العالم.
TINA
توافر الظروف الموضوعية لهيمنة هذا النظام لا يعني بالضرورة إنه كان حتميًا، كما كانت تروج رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر في تعبيرها الشهير "لا يوجد بديل آخر" أو there is no alternative والذي تم اختصاره لاحقًا لـ TINA، وأصبح التكثيف الاصطلاحي الأهم للنهج النيوليبرالي، والذي مثلت تاتشر أحد أهم رؤوس حربته مع الرئيس الأمريكي رونالد ريجان.
شكلت تجربة بينوشيه في تشيلي، والذي وصل للحكم عن طريق انقلاب عسكري دموي مدعوم أمريكيًا ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادرو الليندي في عام 1973 أيضًا، حقل تجارب مهم للأفكار النيوليبرالية. كان ميلتون فريدمان يلتقي ببينوشيه ويدعم تجربته علنيًا وبشكل مباشر، وأيضًا بشكل غير مباشر عبر ما يسمى بـ"أولاد شيكاغو"، وهم مجموعة من الاقتصاديين التشيليين الذين تتلمذوا على يد فريدمان ورفاقه في جامعة شيكاغو.
لم يكن هذا المسار حتميًا، لأنه كما اتضح لاحقًا لم تؤد هذه الثورة النيوليبرالية إلى خفض حجم وتأثير الحكومات على الاقتصاد. فلم تكن النيوليبرالية مرادفًا بسيطًا لسياسات التقشف، لكن ما يميزها حقًا أن تقشفها كان انتقائيًا، تزداد حدته في فترات الركود، لأن ما ننساه أحيانًا هو أن التقشف يمكن أن يحدث أيضًا في ظل سياسات كينزية في فترات النمو، ولهذا تم توصيف السياسات الكينزية بالمعاكسة للدورة الاقتصادية countercyclical، والنيوليبرالية بالمسايرة لها pro-cyclical.
بدلاً من خفض الإنفاق الحكومي، ومن ثم الضرائب، أدت النيوليبرالية فقط للاعتماد على ضرائب الفقراء على الاستهلاك بدلًا من ضرائب الاغنياء على الدخول والثروات. وأدت لتوجيه الإنفاق الحكومي لصالح الطبقات الأغنى، ولصالح الإنفاق غير الاجتماعي؛ مثل السلاح. ولم تضع حدًا للديون العامة والخاصة، بل زادت تلك الديون جراء الثورة النيوليبرالية كثيرًا كما أشرنا أعلاه.
ما حدث كان أقرب للتقشف الانتقائي المنحاز ضد الفئات الأقل دخلًا إنفاقًا وتحصيلًا، فكانت الحكومات النيوليبرالية كريمة كل الكرم في دعم الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، وإنقاذ البنوك المفلسة التي تسببت في الأزمة المالية العالمية، فضلًا عن الدعم المتتالي للبورصات من الانهيار، حتى أصبحت البورصة الأمريكية، على سبيل المثال، مقومة بأعلى من قيمتها بكثير بسبب ارتفاع أسعار الأسهم كثيرًا مقارنة بالأرباح الفعلية للشركات المدرجة.
كل هذا الدعم الحكومي الكريم لرأس المال الكبير لم يثر أي غضاضة في نفوس أي من "أولاد شيكاغو" الذين انتشروا في كل مكان جراء الثورة النيوليبرالية، ولم نسمع حينها من يتحدث منهم عن ضرورة ترك الأسواق لحالها، وضرورة تحجيم الدولة ورفع أيديها عن الأسواق.