تصميم: أحمد بلال
نادر فرجاني، اقتصادي مصري ساهم بأعمال عدة عن مقتضيات التنمية الاقتصادية والبشرية في مصر.

نادر فرجاني.. الناس قبل الأرقام

منشور الأربعاء 15 يناير 2025

برحيل نادر فرجاني في اليوم الأخير من عام 2024، تكون مصر فقدتْ أغلب قامات جيلها الثاني من الاقتصاديين الكبار؛ ذلك الجيل الذي انشغل في أغلبه بقضيتيّ التنمية والعدالة اللتين تمثّلان جوهر معنى الالتزام الأخلاقي والتقدّمي للمثقف العربي منذ ما يقرب من قرن على الأقل.

هذا الالتزام غالبًا ما ينتهي بإخراج المثقف من دائرة اهتمامه النوعي واختصاصه الضيّق إلى الشأن السياسي العام والقضية الاجتماعية الأوسع، لينخرط حتمًا في السياسة بالقول أو بالفعل؛ بعدما يُدرك يقينًا أن كل الأشياء مُترابطة، وأن كل شيء يبدأ وينتهي بالسياسة، وهو ما تحقق في أعمال فرجاني التي كانت دائمة الاشتباك مع نقد السياسات العربية.

الهجرة ونشأة النيوليبرالية في مصر

حظيت هجرة العمالة المصرية والعربية إبان طفرة الخليج النفطية في السبعينيات والثمانينيات بقدر كبير من اهتمام فرجاني عبر أعماله الثلاثة "الهجرة إلى النفط: أبعاد الهجرة للعمل في البلدان النفطية وأثرها على التنمية في الوطن العربي" (1983)، و"رُحّل في أرض العرب: عن الهجرة للعمل في الوطن العربي" (1987)، و"سعيًا وراء الرزق: دراسة ميدانية عن هجرة المصريين للعمل في الأقطار العربية" (1988).

حلَّل فرجاني نشأة التوجه للهجرة نحو الخليج باعتبارها انعكاسًا للظروف الداخلية في مصر من حيث محدودية فرص العمل وانخفاض مستويات الدخول، والانقلاب على سياسات التصنيع والتنمية، بدءًا من هذه الحقبة، لذا رأى أن قرار الهجرة ليس قرارًا شخصيًا، والمهاجرون ليسوا أحرارًا، فـ"الأفراد يتخذون قراراتهم في إطار قيود بنائية حاكمة؛ وبالتالي لا يكون القرار الفردي إلا جانبًا ضئيلًا من عملية الهجرة".(1)

تطلع فرجاني منذ وقت مبكر لأن تتخلص الشعوب العربية من السلطات التي تهدر مواردها

ناقش فرجاني أيضًا كيف أصبحت تحويلات العاملين في الخارج واحدةً من أكبر أربعة مصادر للنقد الأجنبي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وأثر ذلك في تعميق هشاشة الوضع التجاري لمصر كمّيًا وكيفيًا، فضلًا عن مساهمتها، ضمن ممارسات الهجرة عمومًا، في زيادة الميل الاستيرادي، التي أثّرت بدورها سلبًا على فرص نمو الصناعة الوطنية والقدرات الإنتاجية المحلية.

وحذَّر بشكل متكرر من خطورة ما تقوم به الهجرة من تفريغ البلدان المُرسلة للعمالة من جزء من قواها الفاعلة، وبدلًا من أن تترابط الطبقة العاملة وتؤدي دورها في المساءلة عن حقوقها يسود في المجتمع الخلاص الفردي، وهي التحولات التي ساعدت لاحقًا على تعزيز التحول النيوليبرالي في مصر.

رصَدَ فرجاني منذ وقت مبكر كيف ساعدت طفرة النفط/الهجرة في انحسار القيم التنموية في البلدان المصدرة للعمالة مقابل القيم الاستهلاكية وتآكل الروح المؤيدة للوحدة العربية مقابل صعود النزعة القُطرية، ما جعل هذه الطفرة خطيرة في الأجل الطويل، بما ترتبه من آثار تهدّد المشروع المُتشابك والمترابط، للتنمية والوحدة، المشروطتين تاريخيًا ببعضها البعض، كما رأى فرجاني دومًا.

ضد السلطوية وحكم السوق

لم يخضع للتعريفات التقليدية الضيّقة للتنمية، ولا أغرته الموضات الخطابية التنموية التي تنتجها أبواق المنظمات الاقتصادية الدولية، لهذا عرّفها في واحد من كتبه عن الهجرة باعتبارها عملية تغيير هيكلية واسعة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، تشمل تحسين مستوى معيشة المواطنين وتطوير القطاع الإنتاجي وتخليص الاقتصاد من تبعيته للخارج "فالتنمية إذًا هي نهضة حضارية تؤدي إلى ترقية النسق الاجتماعي-الاقتصادي باتجاه مستويات رفاه أعلى للبشر"(2).

أكد فرجاني على هذا المضمون التحرري البنيوي للتنمية في كتابه "هدر الإمكانية: بحث في مدى تقدُّم الشعب العربي نحو غاياته" (2001) بقوله إنها "عملية تحرير ونهضة حضارية شاملة تقتضي الانعتاق من شبكة علاقات السيطرة-التبعية"(3).

لم تُبهره البهرجات الاستهلاكية للطفرة النفطية بما أنتجته من مظاهر للتنمية

وكما نرى يؤكد ثبات المضمون، عبر التعريفين السابقين، رسوخًا في وعيه بالجوهر التاريخي الحقيقي لعملية التنمية، ورؤية مختلفة جذريًا لأبعادها ومعاييرها عما تروّجه البروباجندا الرسمية نيوليبرالية الطابع السائدة التي اكتسحت عقول الأكاديمية وسياسات المنطقة والعالم منذ عقود، والتي أفرغت التنمية من مضمونها التاريخي لصالح أطر وسياسات تعميق التبعية والتراكم الريعي والطفيلي، التي ما زلنا نتجرّع ثمارها المرّة.

ويضع فرجاني مسألة الوحدة العربية في قلب مفهوم التنمية، إذ يرى أن الوحدة ليست مشروعًا تدفعه العواطف القومية بل ضرورة تطوّر اقتصادي واجتماعي.

باختصار، رأى أن التنمية على مستوى العالم العربي لن تتحقق بدون التخلص من التبعية الاقتصادية وفي إطار وحدة وتكامل عربي؛ هذا التصور لا يمكن أن يتحقق في نظره بدون تحول سياسي كبير تتمكن فيه الجماهير من صناعة القرار، ما قاده في النهاية للإيمان بضرورة التحول الديمقراطي في البلدان العربية.

تطلع فرجاني منذ وقت مبكر لأن تتخلص الشعوب العربية من السلطات التي تهدر مواردها؛ البشر والأرض وعوائد النفط، واستبدالها بحكومات داعمة للتنمية، كما جاء في كتابه "هدر الإمكانية"، الذي يعد أشهر كتبه إذ أُعيدت طباعته خمس مرات.

في مقابل نقده للسلطوية لم يؤمن أيضًا بسيطرة قوى السوق الحر على المجتمع، رغم الزخم النيوليبرالي في بداية الألفية الجديدة، إذ قاد إصدار تقرير التنمية البشرية العربي لعام 2002، مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لكنه ظل متحررًا من الخطابات النيوليبرالية السائدة في الأوساط الدولية في هذا الوقت. 

في تقرير التنمية البشرية، أكد فرجاني على خطورة أن تُترك التنمية لقوى السوق الطليقة، محذرًا من آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على البشر في البلدان العربية، التي فاقمت من ترديّ التنمية البشرية في غالبية المنطقة، وأن استمرار الأوضاع الراهنة سيؤدي إلى إهدار إمكانية التنمية البشرية بها؛ بما يهدّد كامل المستقبل العربي وإمكانات رفاهه المستقبلية، وضياع فرصه في اللحاق بالشرائح المتقدمة عالميًا.

التاءات الثلاثة لنادر فرجاني

جُملة ما نرى من هذه الجولة شديدة الإيجاز والانتقائية نوعًا، بالضرورة، في أفكار واهتمامات فرجاني، أن الرجل باعتباره اقتصاديًا مُلتزمًا شغلته دومًا القضية الأكبر والأعمّ لوطنِه العربي، وهى حالة الترديّ الشامل التي وصفها بالانتظام حول تاءات ثلاث، يمكن القول بأنها كانت قضاياه الأساسية، الحاضرة دومًا صراحةً أو ضمنًا، في مختلف أعماله وعبر مُجمل رحلته البحثية، وهى تاءات "التخلّف والتجزئة(4)والتبعية"، التي توازيها وتقابلها ما وصفه يومًا بمحاور العمل العربي الضرورية الثلاثة: التنمية والتعاون العربي والمشاركة الشعبية.

لم ينزلق كأكاديمي نقدي ملتزم إلى المنهجية التي تجرّد الظواهر الاقتصادية من إطارها وجوهرها الاجتماعي

تلك الثلاثية لم تغب عن ناظريه في كافة محاولاته تناول قضية التنمية الاقتصادية والإنسانية في المنطقة، فلم تُبهره البهرجات الاستهلاكية للطفرة النفطية، بما أنتجته من مظاهر للتنمية على حساب جوهرها، كما لم تغرِه أو تخدعه الخطابيات النيوليبرالية، ولم ينزلق كأكاديمي نقدي ملتزم، رغم خلفيته الإحصائية التي غالبًا ما تغري بذلك، إلى المنهجية الوضعية السائدة التي تجرّد الظواهر الاقتصادية من إطارها وجوهرها الاجتماعي، كما تعزلها عن جمهورها بالإفراط الاصطلاحي والإلغاز الرياضي.

كما كان من سِعة الأفق العلمي والوعي المنهجي، الذي يضعه ضمن المجموعة الأكثر تقدمًا في الأكاديمية الاقتصادية والاجتماعية العربية، إذ أكّد في سياق أبحاثه على ضرورة الوعي بالتركيب والتعقيد في الظواهر الاجتماعية، داعيًا إلى الانتقال من نموذج "السبب-النتيجة" إلى نموذج "شبكة السببية" كنموذج مفهومي أدق علميًا وأكثر واقعية تتفاعل ضمنه عدة متغيّرات بشكل حركي وديناميكي.

وفي النهاية ربما لا توافق فرجاني على كل قناعاته أو أقواله، فهذه طبائع الأمور، وربما لا تعجبك أحيانًا حِدة منشوراته الدارجة على السوشيال ميديا، لكن يظل يُحسب للرجل، إلى جانب إسهاماته العلمية المتميّزة والتزامه الفكري الجاد، جمعه أخلاق الاستقلال والصدق والشجاعة النادرة في زمن استفحال الهزيمة وتفشّي الإمّعات، التي ظل ثابتًا عليها بصلابة حتى أيامه الأخيرة؛ فلم توهن الشيخوخة عزيمته ولم تَثَلَم الهزائم العامة حِدته.


(1) سعيًا وراء الرزق، صفحة 35

(2) الهجرة إلى النفط صفحة 20

(3) هدر الإمكانية صفحة 16

(4) المقصود بالتجزئة التصور النقيض للوحدة العربية