لم تكن أموال صفقة رأس الحكمة حدثًا سعيدًا فقط بسبب توقيت وصولها أو ضخامتها، التي بلغت نحو 35 مليار دولار، بل كذلك كونها جاءت في صورة استثمار أجنبي مباشر، لا دين جديد تستخدمه الحكومة في سداد التزاماتها المتراكمة.
لكنَّ السؤال المُلِح الآن هو ما إذا كانت صفقة رأس الحكمة ستمثل طريقًا لخروج مصر من عنق الزجاجة، لتبدأ مسار التعافي الاقتصادي والاستدامة المالية، بما يعني أن تفتح لنا الصفقة طريقًا لا ينتهي بأزمة ديون خارجية أخرى في السنوات القليلة القادمة.
الإفلات من سنوات عصيبة
بينما ركزت أغلب التحليلات على حجم صفقة رأس الحكمة وتفاصيلها الاستثمارية، جاء الحديث خافتًا عن أهمية توقيتها، الذي تزامن مع آجال التزامات خدمة الدين الخارجي بين عامي 2024 و2026، وهي الأعلى على الإطلاق في تاريخنا المعاصر.
تفيد بيانات البنك المركزي بأنَّ على مصر في 2024 سداد نحو 35 مليار دولار في صورة أقساط وفوائد للدين الخارجي متوسط وطويل الأجل، ثم ستنخفض هذه الالتزامات في 2025 إلى 19.37 مليار دولار، قبل أن ترتفع إلى 25.202 مليار في 2026.
وبدءًا من 2028، ستتجه تلك الالتزامات للانخفاض بشكل كبير حتى تصل إلى 3.5 مليار دولار فقط في 2034.
ستسهم أموال الصفقة في تدعيم موارد مصر الدولارية خلال هذه الأعوام الحرجة، أو ما يطلق عليه المحللون "سد الفجوة التمويلية"، وهو تعبير يصف الفجوة الناشئة عن مصروفات دولارية لا يقدر الاقتصاد على توليد مقابل لها، أو حتى أن يسددها بالاقتراض من المصادر المعتادة.
واستنادًا لمذكرة أصدرها بنك الاستثمار الأمريكي جولدمان ساكس،الشهر الماضي، فإنَّ الاستثمار الإماراتي في مشروع رأس الحكمة، الذى أعقبه تعويم الجنيه وإتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على تسهيلات تمويلية ممتدة، أدى إلى تغيِّر كبير في توقعات التمويل، بما يغير من وضع الفجوة التمويلية لمصر من عجز 13 مليار دولار إلى فائض 26.5 مليار خلال السنوات الأربع المقبلة.
إذًا، لن يكون من قبيل المبالغة القول بأنَّ الاتفاقات الأخيرة ساعدتنا على تجاوز ذروة الأزمة التي كنا سنواجهها بين 2024 و2026، شريطة ألاَّ تتوسع الحكومة في الاقتراض متوسط وطويل الأجل مرة أخرى، بما يزيد من التزاماتنا المستقبلية، ويجعل من الاقتصاد المصري عرضةً لنفس العوامل السلبية التي كان علينا مواجهتها لولا صفقة رأس الحكمة.
حتى لا تتكرر الأزمة
إجابة السؤال الملح حول قابلية الأزمة للتكرار، يقتضي منَّا أيضًا بحث جذورها النابعة من الاقتصاد الحقيقي، فمن أبرز أسباب توسع الدولة في الاقتراض الخارجي خلال السنوات العشر الماضية هو محاولة تغطية العجز المزمن في الميزان الجاري، خاصة عجز ميزان التجارة بالنظر إلى أنَّ الواردات كانت ولا تزال تقترب من ضعف الصادرات.
ما لم تتبن الحكومة نهجًا شديد المحافظة في الاستدانة من الخارج فقد نجد أنفسنا أمام أزمات تمويل جديدة
كانت احتياجات الاقتصاد المصري التمويلية سبب التوسع في الاقتراض الخارجي خلال الفترة التي أعقبت اتفاق صندوق النقد الدولي الأول (2016-2019). ولنتذكر جيدًا كيف واجهت مصر أزمة عميقة في تدبير ما يلزمها من النقد الأجنبي في أعقاب تآكل احتياطيات البلاد الدولارية بين 2011 و2012 في وقت لم يكن رصيد الدين الخارجي المصري يتجاوز 35 مليار دولار ككل (مقارنة بـ165 مليارًا في 2023)، بل وكانت خدمة الدين الخارجي لا تعدو 6% من الصادرات المصرية والدخل الأوَّلي مقارنة بما هي عليه في 2022 (23%).
ما حدث أنَّ نمو الدين الخارجي تحوّل في السنوات الماضية إلى التزام ضخم يزيد الضغوط التمويلية الخارجية، خاصة مع عدد من الصدمات الخارجية المتلاحقة بدءًا من جائحة كورونا ثم الحرب في أوكرانيا ثم رفع الفيدرالي الأمريكي للفائدة على الدولار على نحو متتالٍ.
لكن لا يلهينا هذا عن حقيقة أنَّ جذور المشكلة طالما كَمَنَت في احتياجات الاقتصاد المصرية الأصلية، التي تدور بالأساس حول التمويل الخارجي الضروري لتدبير فاتورة واردات بالغة الضخامة وتدوير القطاعات الإنتاجية.
الكرة في ملعب الحكومة
ومن ثَمَّ؛ ما لم تنتهز الحكومة التدفق الناتج عن صفقة رأس الحكمة، فتتبنَّى نهجًا شديد المحافظة في الاستدانة من الخارج، بما يُترجم إلى تخفيض مستمر في وزن رصيد وخدمة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتتبنَّى أيضًا استراتيجية اقتصادية تخص القطاعات الإنتاجية بما يزيد من القدرة على توليد العملة الصعبة أو تخفيض الطلب عليها، فقد نجد أنفسنا أمام أزمات تمويل خارجي أخرى في المستقبل القريب.
تَعِد صفقة رأس الحكمة بتدفق استثماري نادر في ضخامته إلى قطاع مهم للصادرات الخدمية ألا وهو السياحة، ويُؤمَل أن تكون مقدمة لجذب رؤوس أموال أجنبية وعربية إلى رؤوس شاطئية أخرى على البحرين المتوسط والأحمر، ما يعني خلق مصدر مستدام للعملة الصعبة، بشرط إيجاد البنية المادية والمؤسسية التي تؤهل لانتعاش هذه الاستثمارات الساحلية في مصر.
ولا يعني هذا بالضرورة عدم الحاجة إلى الالتفات إلى القطاعات الإنتاجية خاصة الصناعات التحويلية والزراعة بغية تعميق هياكلها الإنتاجية بما يحسِّن من وضع الميزان التجاري السلعي في ضوء الكثافة الكبيرة للاستيراد، لأنَّ مصادر اكتساب العملة الأجنبية في الاقتصاد المصري، سواء كانت الصادرات الخدمية مثل السياحة أو عائدات قناة السويس أو حتى تحويلات المصريين بالخارج، طالما أظهرت درجة كبيرة من التذبذب حالت دون إنقاذ الاقتصاد من أزمات تمويل خارجية سابقة.