مع احترامي لأصحاب الرأي الاقتصادي المدروس المحسوبة إحصائياته وتبعاته، والقائل بأن مقاطعة منتجات الشركات والدول التي تساند الكيان الصهيوني ستضر الاقتصاد المصري، ولكن أين هي استقلالية الاقتصاد المصري ونحن نستورد على أقل تقدير 60% من احتياجاتنا الغذائية؟ كيف ستحقق أمنك الغذائي ثم استقلالك الغذائي وتكتفي ذاتيًا، وأنت مستمر في ملاحقة السوق العالمية وإفقار صناعاتك المحلية؟ متى سترمي الدولار وتكون صاحب قرار؟
هل نسينا عندما كانت المقاطعة هي منهج الدول العربية الرسمي؟ عندما كانت الدول العربية قادرة على إجبار دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية على ألَّا تُصدَّر سياراتها الميتسوبيشي والتويوتا والمازدا وغيرها للكيان الصهيوني؟ أو حتى من إبرام عقود شراكة مع شركات تتعامل معه منذ العشرينيات وحتى التسعينيات، إلى أن انتهى بنا الحال لاتفاقية أوسلو للسلام وتفسّخ بعدها الموقف الرسمي العربي؟ هل نسينا ولولة الدول الغربية وآخرها فرنسا على مقاطعة منتجاتها عندما أساؤوا لرسول الله؟
مع احترامي لهذا العقل الاقتصادي الذي تحدث فقط عن الأيدي العاملة لدى المحلات، وهؤلاء تلقوا بالفعل عدة دعوات من مطاعم ومحلات محلية للحصول على وظائف مماثلة. لماذا لا تهتم أيضًا بفلاحي الزراعة التعاقدية الذين يزرعون البطاطس والطماطم و بنجر السكر بشكل حصري لتلك الشركات العالمية؟ فهم طبقًا لنظريتك متضررون أيضًا!
لماذا لم يتفتق ذهنك عن أفكار وحلول اقتصادية لإعادة تدوير هذا الإنتاج والتصنيع؛ ليصبَّ في السوق المحلية فيخفف من فداحة التضخم الذي نعاني منه؟ هل اطَّلعت على ما فعلته روسيا بعد خروج الشركات العالمية منها، ونورتنا بأي دروس مستفادة لتقليل وطأة الضرر؟
اشترِ منتجًا صنعته يدٌ تشبهك. كن صوتًا له معنى يصدح بالحق
فعلى سبيل المثال؛ عندما انسحبت سلسلة مطاعم ماكدونالدز من روسيا عقابًا لها على حرب أوكرانيا عام 2022، وأغلقت أكثر من 850 فرعًا، وألغت تعاقدات مع مئات الموردين، وجمَّدت عقود أكثر من 62 ألف عامل وموظف، اشترى رجل الأعمال الروسي ألكساندر جوڤور جميع الفروع وأسس سلسلة مطاعم محلية تقدم نفس الخدمة بنفس أطقم العمل.
لم تخسر روسيا شيئًا بل على العكس؛ انقطع سيل الأموال الذي كان يذهب إلى الفرانشايز؛ أجر الشركة الأم صاحبة العلامة التجارية، ليزيد عدد الفروع وتزيد معها الوظائف. كانت تلك العلامات التجارية التي يزيد عددها عن 800 ألف تُدرُّ على الاقتصاد الأمريكي وحده ما لا يقل عن 500 مليار دولار.
لماذا لا نبني على مبادرة الشعوب العربية العظيمة ونتيح للمنتج المحلي مكان للمنافسة، بل ونعطيه الفرصة الحقيقية ليتطور؟ لوهلة، تخيلت أننا سنجد من يحاولون تفسير فتور حماستنا للمقاطعة تدريجيًا حتى ننسى الأمر تمامًا. تخيلت أننا سننتهز جميعًا هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا الشخصي والإنساني، لنعبُر بها عقبة الفورة المؤقتة، وتصبح المقاطعة أسلوبًا لحياتنا، يستطيع من خلالها المجتمع أخيرًا أن يكون له من أمره شيئًا.
لا تسمعوا لهم، هؤلاء من يُهبِطون هِمَّتكم ويسممون وعيكم ويشككونكم في قدراتكم وأهميتكم.
الآن، ونحن نملك الحافز والحجة والعقيدة لنغيَّر من واقعنا الاقتصادي، ونمدُّ أعناقنا قليلًا خارج حفرة الاعتماد على السوق العالمية والمنتجات المستوردة، التي انزلقنا فيها حتى قاعها بدون تفكير أو حساب للعواقب.
عندما أُصبنا بعقدة الخواجة وجودة منتجه وصرنا نُفضِّل ماركة مستوردة للمياه وأخرى للزبادي وثالثة للحلوى، عندما اعتمدنا شكل العبوة معيارًا للجودة انتهت قدرتنا على الابتكار، وتصديق أن الأغذية الطازجة هي ما زُرِعت في أرضك وحُصِدت منها فوصلت إليك مباشرة.
الآن، ونحن في هذه الأيام العظام التي يمكننا فيها إعادة المعنى إلى صوتنا والقوة لقرارنا، يتحدث البعض عن عبء المقاطعة على الاقتصاد وعن أهمية أن "نحب بلادنا كما نحب الجيران"!
العجب كل العجب ممن لا يرون أنَّ هناك فرصة حقيقية أمام الصناعات المصرية للنهوض والتوسع، والاحتقار كل الاحتقار لمن لا يرونها قضية واحدة ومصيرًا واحدًا ودمًا واحدًا يُراق الآن على ترابنا جميعًا.
قاطع.. بل وتوخَّ المقاطعة! قاطع بضائع قد ترى عليها دم أخيك وبنته وأبيه وأبيك. اشترِ منتجًا صنعته يدٌ تشبهك. كن صوتًا له معنى يصدح بالحق، ويدًا لأخيك لا مع عدوِّه وعدوِّك.
ساعد نفسك؛ ولا تصالح.