بعيدًا عن الخلفيات السياسية والأيديولوجية بل والطائفية أحيانًا التي حضرت بقوة وراء دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية ردًا على الغطاء السياسي والحماية التي منحها الرئيس إيمانويل ماكرون، لما اعتبروه إساءةً للإسلام والمسلمين، فإن مجرد توقف الأفراد عن شراء منتجات استهلاكية بعينها بغية تكبيد الدولة التي تنتجها خسائر اقتصادية، يبدو في ظل توازنات القوى الاقتصادية القائمة في العالم اليوم، تصورًا غير واقعي ولا يعدو أن يكون إرضاءً سيكولوجيًا لنزعة شخصية ليس إلا.
وإذا كانت أزمة الرسوم الكاريكاتيرية وما أعقبها من أعمال عنف، هي قضية متعددة الأوجه ملابساتها كثيرة تخص علماء الاجتماع والسياسة، فإن الدعوة إلى المقاطعة بحد ذاتها، منزوعة عن سياق ما يجري، هي موقف اقتصادي يطرح مجموعة هامة من التساؤلات حول جدواه ومدى تأثيره وهل بالفعل يمكن أن يشكل إجراء "عقابيًا" بحق الموجه إليهم؟
وليست هذه الدعوة إلى المقاطعة هي الأولى من نوعها، فقد أطلقت في الماضي دعوات مماثلة ربما كانت أبرزها حملة مقاطعة أو محاولة مقاطعة المنتجات الدنماركية عام 2005 على خلفية شبيهة نوعًا بما يحدث اليوم مع فرنسا، وإن كان الوضع الحالي أكثر تعقيدًا مما كان عليه حينها، وفي النهاية باءت كل تلك المحاولات بالفشل لأسباب سيلي ذكرها.
تنسيق غائب وتوازن لا يسمح
في البداية، ولكي تحقق المقاطعة أهدافها الاقتصادية، فإنها تحتاج قدرًا عالٍ من الترتيب والتنسيق سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وهو الأمر الذي يتطلب مجهودات للتحضير الدبلوماسي وخلق بيئة من التوافق السياسي بين دول تختلف جذريًا فى توجهاتها على مستويات عدة، وهو الأمر الذي حتمًا سيستغرق إعداده شهورًا طويلة قد تمتد لأكثر من سنة في عالم أصبحت تشابكاته الاقتصادية مُعقدة لدرجة يصعب معها تفكيك البنى الاقتصادية القائمة دون إحداث خلل بالغ في جميع الاقتصادات المعنية، قد تمتد آثاره سنين طويلة لأن مثل تلك الحالة لم تكن مطروحة بجدية من قبل.
وحتى ذلك يبدو صعبًا، بالنظر مثلًا إلى الحملة الدولية التي قادتها الولايات المتحدة لمقاطعة إيران، مع اختلاف تفاصيلها وأهدافها. في هذه الحملة لم تنجح القوة العظمى الباقية في العالم، بإمكانياتها ونفوذها السياسي حول العالم، في فرض مقاطعة فعالة على طهران التي نجحت إلى حد كبير في تصريف الجزء الأكبر من إنتاجها النفطي إلى بلدان عديدة رغم تهديد ووعيد واشنطن بفرض عقوبات على كل المتعاملين معها. ويوضح لنا هذا لمحة عن صعوبة تفعيل المقاطعات الاقتصادية أو فرض الحصار الاقتصادي في عالمنا هذا.
أما الاعتقاد بأن حملات المقاطعة على وسائل التواصل الاجتماعي، ودعوة الأفراد للكف عن شراء نوعيات معينة من البضائع الاستهلاكية، ستتسبب في خسائر ملموسة للاقتصاد الفرنسي، اعتقاد ليس في محله، ولا يخلو من سذاجة مفرطة، ولا يتجاوز في أفضل الأحوال موقفًا رمزيًا لمن يتخذه، يرضي به نزعة شخصية ليس إلا.
ذلك أن حملات المقاطعة الشعبية لكي تصبح فعالة حقًا، تشترط أولًا أن يميل الميزان التجارى لصالح الدول المُراد مقاطعتها، أي أن تزيد صادراتها إلى الدول التي ستقاطع شعوبها عن وارداتها منها. وهنا، لا يمكننا استبعاد الصادرات البترولية كما نفعل في العادة، لأننا في هذه الحالة لا نقيس قوة الاقتصاد الصناعي أو الخدمي ولكننا نتحدث عن إجمالي الصادرات والواردات التي تمثل الجزء الأهم (حتى وإن لم يكن بالضرورة الجزء الأكبر) من الدخل القومي.
في هذه الحالة ستكون صادرات الدول العربية وخاصة الخليجية إلى فرنسا أكبر من وارداتها، أي أن الخاسر هنا ستكون الدول التي ستقاطع لا الدولة المستهدفة بالمقاطعة، خاصة في ظل الظرف الحالي لانتشار جائحة كوفيد-19 حول العالم، وما تلاه من انهيارات في أسواق النفط العالمية مع انخفاض الطلب بحدة وارتفاع المعروض إلى مستويات غير مسبوقة، أدت إلى زيادة حاجة الدول المُصدرة للبترول إلى مشترين وليس العكس.
وإلى جانب ذلك، وبغض النظر عن توازن الصادرات والواردات، فإن حجم التبادل التجاري بين فرنسا والدول العربية مجتمعة لا يزيد عن 65 مليار دولار، وهو مبلغ صغير جدًا إذا ما قورن بحجم التبادل التجاري بين فرنسا والولايات المتحدة على سبيل المثال، والذي يصل إلى 88.8 مليار دولار تقريبًا.
أما بالنسبة لمصر، فإن وارداتها من فرنسا لا تتعدى 1.86 مليار دولار (أو ما يمثل 0.33% من إجمالي الصادرات الفرنسية إلى العالم والبالغة 563 مليار دولار)، تستحوذ منها المنتجات الاستهلاكية المباشرة مثل المركبات والسيارات والمعدات والأجهزة الكهربائية التي يُمكن نظريًا للأفراد مقاطعتها على 368 مليون دولار (21.65%) فقط لا غير، والباقي خامات دوائية وحبوب ومنتجات كيماوية وماكينات صناعية وبلاستيك وسكر خام وما شابه من منتجات تمثل في أساسها مُدخلات صناعية تصعب مقاطعتها حد الاستحالة، لأن معظمها يرتبط بعقود طويلة الأجل تمتد لسنوات، وماكينات تم ضبطها للتعامل مع أنواع معينة من الخامات وتُشكل عملية إعادة ضبطها لتتوافق مع أنواع مختلفة في حالات كثيرة معضلة هندسية.
ومع افتراض متفائل بقدرة الأفراد من خلال المقاطعة، على تخفيض الواردات الفرنسية التي يمكن شراؤها من المنافذ التجارية بنسبة 50%، وهو سيناريو يتطلب تحولًا كبيرًا فى نمط الاستهلاك العام، فإن ذلك يعني أن واردات فرنسا إلى مصر ستصبح حوالي 184 مليون دولار، لا يشكل تعويضهم في أسواق أخرى قائمة أو جديدة أي تحدٍّ ولا يحمل أي صعوبة. أما الفشل في التعويض فلن يكبّد الاقتصاد الفرنسي أي خسائر تذكر.
وبالإشارة إلى إمكانية تكرار السيناريو الدنماركي عام 2005 والذي حدث على خلفية كاريكاتيرات صحيفة يلاند بوستن، فإن الأمر يبدو صعبًا مع دولة بحجم فرنسا بما تحمله من ثقل سياسي وما تلعبه من دور محوري في العلاقات الأوروبية مع الدول العربية، وهي كلها صفات لم تكن تتمتع بها الدانمارك، التي لم تكن تملك اقتصادًا متنوعًا مقارنة بفرنسا.
وحتى في حالة الدنمارك قبل 15 سنة، وهي الحالة التي يمكن اعتبارها أوسع وأنجح حالة مقاطعة رأيناها منذ مقاطعة البترول عام 1973، تضررت بعض الشركات هناك بالفعل ولكن ذلك لم يؤثر على الاقتصاد الدنماركي، ولم تتراجع الحكومة الدنماركية وقتها قيد أنملة عن مواقفها واستمرت تمنح الغطاء السياسي للصحفية وتحمي حقها فيما رأته كوبنهاجن حرية رأي وتعبير، استنادًا إلى دستورها وقوانينها الذين يقرون ذلك، اتفقنا أم اختلفنا معه.
علاقات اقتصادية متشابكة
ولا يقف الأمر عند حدود التأثير المباشر في علاقات التبادل التجاري الثنائية بين فرنسا والدول العربية، ففي عصر العولمة الذي أصبحت فيه معظم الشركات الكبرى كيانات متعددة الجنسيات عابرة للحدود والقوميات والقارات، تبدو الأمور أكثر تشابكًا. فعلى سبيل المثال، كثير من المنتجات التي يمكننا أن نعتبرها فرنسية، هي غالبًا منتجات غذائية وسلع استهلاكية FMCG’s ينتج معظمها خارج فرنسا من خلال توكيلات صناعية مثل صناعة السيارات في المغرب والألبان في مصر، أي أنها غير مملوكة بشكل مباشر للشركات الفرنسية الأم.
وبالتالي، ما سيحدث هنا هو أن الشركة المحلية هي التي ستتلقى الصدمة الأولى وربما تتمكن من امتصاصها بحيث لا تصل أبدًا إلى الشركة الأصلية، وإن وصلت سيكون ذلك بعد سنة أو أكثر بما يمثل وقتًا كافيًا لتستعد بما يكفل تلافي الجزء الأكبر من الآثار السلبية، بمعنى أنه في جميع الأحوال ستتحمل الشركة المحلية الضرر الأكبر والرئيسي.
وعلى الجانب الآخر، فإن الآثار السلبية التي ستصيب الشركات المحلية التي ستتحمل القدر الأكبر من الخسائر الناجمة عن حركة المقاطعة، لن تقتصر عليها بل ستمتد إلى أسواق العمل والإيراد الضريبي ومعدل دخل الفرد والناتج المحلي ومعدلات النمو وقيمة العملة ومؤشرات البورصة في الاقتصادات الأضعف، وهي في هذه الحالة اقتصادات الدول المُقاطِعة، بما فيها الدول الخليجية الغنية والتي تمتاز بهياكل اقتصادية هشة، فضلًا عن مصر التي لا تتمتع بثراء الخليج.
وكنت في الحقيقة أتمنى من المنادين بالمقاطعة ومنهم شخصيات يفترض أنها تملك ما يكفي من الوعي والنضج السياسي والفكري، طرح آليات مُحددة لمثل هذا الإجراء وبدائل محددة لمن سيتضررون من العاملين المصريين في القطاعات المختلفة، وأيضًا لكيفية استيعاب الأسواق لمثل تلك التقلبات القطاعية العميقة Shifts of Market Segments والتغييرات الجذرية فى الأنصبة السوقية Market Shares وما سيخلفه ذلك من أوضاع احتكارية بالأسواق ربما يكون من شأنها التأثير على مستويات الأسعار. هذا بخلاف الانعكاسات السلبية التي غالبًا ما ستشهدها سلاسل الإمداد على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما قد لا يكون للاقتصاد المصري قدرة على تحمله.
لن أحدثكم عن الوظائف التى ستُفقد داخل مصر لأن الدورة الاقتصادية الطبيعية في هذه الحالة تحديدًا ستخلق فرصًا جديدة موازية في نفس التخصصات ما دام فقدانها غير راجع في أساسه إلى ركود عام، ولكن ينبغي الانتباه هنا إلى الهيمنة الكاملة المتوقعة لأسماء بعينها على قطاعات التجزئة المختلفة (الصناعة والاتصالات) لو فرضنا جدلًا أن مثل تلك المقاطعة كتب لها النجاح على المدى الطويل. أحدثكم عن اختناقات محتملة في مجموعة من السلع الأساسية وفي مقدمتها صناعة الدواء التي تأتي من فرنسا وحدها خامات تزيد قيمتها عن ربع مليار دولار سنويًا، وما سيتبع ذلك من نقص في مجموعة لا بأس بها من الأدوية وخاصة تلك التي تنتجها شركة سانوفي العملاقة التي بلغت مبيعاتها العام الماضي أربعة مليارات جنيه، ولا يوجد لها بدائل دائمًا وبعضها لأمراض خطيرة مثل تصلب الشرايين.
وغنى عن الذكر بالطبع أن تلك الشركة هي الأخرى ليست فرنسية في الحقيقة ولا يوجد من بين أكبر عشرة مساهمين بها سوى كيان فرنسي واحد.
في الواقع، هناك الكثير من الشركات ليست فرنسية بالقدر الذي تبدو عليه، مثل عملاق النفط توتال الذي يعتبره كثيرون كيانًا اقتصاديًا فرنسيًا لاعتبارات تاريخية، لا تزيد نسبة الملكية الفرنسية الفعلية فيه عن 27.2% بينما يتوزع الباقي على دول أوروبية أخرى (16.7%) والولايات المتحدة الأمريكية (34.9%) والمملكة المتحدة (12.3%) ثم مجموعة من الأفراد والشركات الصغرى من بلدان مختلفة بنسبة 8.9%.
بمعنى آخر، فإن مقاطعة كيانات مثل توتال لن تكون مقاطعة لشركة فرنسية بل لشركة أصلها فرنسي. ولا يتوقف الأمر عند توتال، فشركة الاتصالات أورانج تدخل فيها شركات استثمارية وبنوك أمريكية ونرويجية بنسب متفاوتة، وكذلك سلسلة محلات كارفور بمساهميها الأمريكيين والبرازيليين، ولافارج للأسمنت بملاكها السويسريين والبلجيكيين والأمريكيين والنرويجيين، وهكذا.
يعني ذلك بكل بساطة أن حملات مقاطعة هذه الشركات، حتى وإن نجحت، لن تؤثر كثيرًا على الاقتصاد الفرنسي، قدر تأثيرها مثلًا على الصناديق السيادية النرويجية، وهي الأكبر من نوعها في العالم.
بالتالي، فإن حملات المقاطعة الفعالة هنا ينبغي أن تكون مسبوقة بدراسات تفصيلية للشركات الموجودة بالأسواق وهياكل ملكيتها الحقيقية، ومن ثم مدى تأثيرها على الاقتصاد الفرنسي ككل ونصيب الدولة أو الدول المُقاطعة من حجم أعمالها. أما الامتناع عن شراء نوع من الجبن لأنه يحمل اسماُ فرنسيًا، فهو ليس أمرًا مثيرًا للسخرية فحسب، ولكنه أيضًا مسلك بائس وضرب من ضروب العبث.
لوبيات ولوبيات مضادة
تنطلق حملات المقاطعة من فرضية أن الخسائر الاقتصادية التي ستواجهها الشركات الفرنسية، ستدفعها إلى الضغط على حكومتها لتتبنى سياسات معينة تحقق مطالب المقاطعين، وهو تصور لا يخلو من مراهقة سياسية واقتصادية، ليس فقط لأن خسائر هذه الشركات ستكون محدودة في أفضل الأحوال إذا لم تكن منعدمة أساسًا، ولا لأن قدرة هذه الشركات على الضغط على حكوماتها شبه معدومة، ولكن أيضًا هذه الشركات ترتبط بمصالح اقتصادية مع "لوبيات" أخرى، خاصة الصهيونية واليمينية، أكثر أهمية من تحالفاتها مع مراكز القوى في الشرق الأوسط المفكك سياسيًا إلى درجة تسمح دائمًا باستغلاله.
بمعنى آخر؛ "اللوبيات" المضادة للدول العربية والإسلامية أكثر نفوذًا في مجتمعات المال والأعمال الأوروبية، بما فيها فرنسا.
كما تجدر الإشارة أيضًا إلى سهولة الالتفاف حول هذا النوع من الإجراءات الاقتصادية لأن المُنتج لا يظهر بالضرورة بلد المنشأ الحقيقي على وجه التحديد، خاصة في الدول الأوروبية التي تكتب على معظم منتجاتها عبارة "صنع في الاتحاد الأوروبي" دون تحديد بلد بعينه.
بدائل العجز
ولكن ماذا يعنى كل ماسبق ذكره فى نهاية الأمر؟ هل يُفهم منه أن دولًا مثلنا في منطقة كمنطقتنا، لا تملك أي وسائل ضغط اقتصادي يمنحها مساحات للمناورة، بما يفرض عليها الاستسلام للأمر الواقع والتزام الصمت؟ الإجابة القاطعة هي بالنفي طبعًا، بل هناك الكثير والكثير مما يمكننا فعله، وربما يكون الوضع الراهن، بغض النظر عن سياقاته الاجتماعية والسياسية، مناسبة للتفكير فيها والبدء بها لنكون في المستقبل طرفًا أكثر فاعلية يمتلك أدوات لترجمة مواقفه والسعي خلف مصالحه، أدوات تتجاوز بيانات الشجب والاستنكار.
يمكننا مثلًا أن نشرع فى وضع خطط طويلة الأجل تحررنا من التبعية الاقتصادية والصناعية وحتى الخدمية من خلال إعادة بناء الهيكل الصناعي المصري بحيث نستطيع في المستقبل الاستغناء عن المنتجات الأجنبية، على الأقل تامة الصنع، سواء أساءوا لنا أم لم يسيئوا، بفرض أن هذا حدث بالفعل في الأزمة الأخيرة.
يمكننا أيضًا الاتجاه إلى صناعة الصناعة، أي تصنيع الماكينات وزيادة التركيز على استخراج المواد الخام المتاحة بدلاً من الاكتفاء بالصناعات التحويلية قليلة القيمة المُضافة والتي تعتمد على خامات ومكونات مستوردة مثل صناعة السيارات المصرية المُخزية في الحقيقة.
وإذا تمكنّا من تطوير كفاءة الكوادر المصرية من خلال تحسين جودة التعليم الأساسي والجامعي والتأهيل المهني، بحيث تكون قادرة على تأسيس وتشغيل وإدارة المؤسسات الخدمية والتجارية والمصرفية الضخمة بدلاً من حاجتنا إلى "استيراد" النظم والخبرات الخاصة بذلك من الخارج، وتلك تأتي بأثمان تتجاوز النقود لتصل إلى التضحية بجزء كبير من استقلالنا الاقتصادي، وبالتالي قدرتنا على اتخاذ القرار.
يمكن أيضًا توطين الصناعات الثقيلة والاستراتيجية دون ارتباط مباشر بمثيلتها فى أوروبا أو أمريكا الشمالية أو جنوب شرق آسيا من خلال إعادة الدور السيادي للدولة في الإشراف عليها وتحريكها دون أن تكون لاعبًا فيها بنفسها، أي أنني هنا لا أطالب بتأميم على شاكلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي ولكن في الوقت نفسه لا يجب أن يُترك الحبل على الغارب لكبار رجال الأعمال الذين، بطبيعة الحال، وإنطلاقًا من مبادئهم الرأسمالية، لن يهمهم سوى حساب الأرباح والخسائر حتى لو أتت هذه الأرباح على حساب استقلالنا الاقتصادي الوطني.
يمكننا أيضًا أن نعيد صياغة فكرة التكامل الاقتصادي العربي بعد التعلم من أخطاء الماضي الفادحة التي أفشلت هذا التوجه مرارًا وتكرارًا، وهي قضية كبيرة جدًا لا يتسع المجال هنا للتعرض لها ولمكوناتها المختلفة تفصيلاً، بل تتطلب دراسات مُطولة ومُتعمقة.
الأفكار كثيرة ولا تحتاج سوى من يتبناها بإرادة حقيقية لترجمتها إلى واقع. أما الصراخ والنحيب والنواح فلن يستفيد منه أحد. الموقف الحالي –أيًا كان تقييمنا له أو رأينا فيه- يجب أن يُستغل، ليس للنضال على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والدعوة إلى أساليب عقيمة وغير قابلة للتطبيق ولكن لإحداث تغيير جذرى يفيدنا مستقبلاً أيًا كانت الظروف والتطورات.
تتجاوز المسألة بالتأكيد مجرد مقاطعة منتجات دولة ما على خلفية أحداث بعينها، بل بكيفية تفكيرنا في سياقنا الاقتصادي وما هي تطلعاتنا الحقيقية في نهاية الأمر، تتعلق المسألة في جوهرها، بمدى قدرتنا على الاعتماد على أنفسنا والانطلاق نحو آفاق أكثر رحابة، وهي حتى الآن، تبدو قدرة محدودة للغاية.