أصبحت من وسائل الدعاية المعروفة أن تبني الشركات قضيةً أخلاقيةً تهم جمهورها، لدفع المستهلك نحو الانتماء للمجتمع الذي يناصر هذه القضية أو تلك. فكرة المسؤولية الأخلاقية هذه بدأت تنتشر بين الشركات في ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تصبح حجر ارتكاز مهمًا في استراتيجيات التسويق الحديثة.
يشرح المفكر سلافوي جيجيك أنَّ الغرض من تبني الشركات قضايا أخلاقية، هو جعل المستهلك يشعر بالرضا عن نفسه وهو يدفع النقود في السلعة الصحيحة، وأنَّه بشراء هذا المنتج بالذات؛ يقوم بعمل خيري ويساهم في رفع المعاناة عن شخص ما قد لا يعرفه، ولكنه يؤمن بقضيته.
يفسر هذا إعلان عدة شركات عن تضامنها مع الكيان الصهيوني، مثل توزيع ماكدونالدز وجبات مجانية على الجنود الإسرائيليين، أو إعلان سلسلة محلات الملابس الشهيرة أمريكان إيجل الذي يحمل علم إسرائيل خلفيةً للعلامة التجارية تضامنًا مع الكيان الصهيوني. لقد اختارت هذه الشركات جانبًا تنحاز إليه، فلماذا نستكثر على أنفسنا ونحن ندعم قضية بهذا النبل وهذا القدر من المصاب أن نختار!
المقاطعة هي إحدى وسائل المقاومة المتاحة بين أيدينا كمصريين، في مواجهة البشاعة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. يعتقد البعض أنَّ هذا التضامن ليس أكثر من موقفٍ أخلاقيٍّ غير مجدٍ ولن يغير شيئًا على أرض الواقع ولن يخفف معاناة أحد. هذا حقٌّ يراد به باطل، لأنَّ فاعلية المقاطعة، بالإضافة إلى بعدها الأخلاقي كأحد أشكال المقاومة السلمية، تتجلى في كثير من الأبحاث الأكاديمية والدراسات التسويقية التي تحاول مساعدة الشركات في التغلب على آثارها. فإذا كانت المقاطعة غير مجدية، لماذا يحاربونها بكل طاقتهم؟
هل المقاطعة فعّالة فعلًا؟
في عام 2014، وخلال كلمة استغرقت نحو أربعين دقيقة أمام مؤتمر السياسات للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية/AIPAC عن أهم المخاطر التي تهدد الكيان الصهيوني، ذكر بنيامين نتنياهو حركة مقاطعة إسرائيل/BDS حوالي 14 مرة، كعدو استراتيجي لا يقل خطورة عن إيران وحماس.
تصف حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها/BDS نفسها على موقعها، بأنها "حركة فلسطينية المنشأ عالمية الامتداد، تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين، وصولًا إلى حق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات... [تعمل على] تفعيل المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والرياضية الشاملة وسحب الاستثمارات من نظام الاستعمار والأبارتهايد الإسرائيلي".
وبينما كانت أصوات مصرية تشكك من جدوى المقاطعة وتأثيرها، نجحت الحملة في كلٍّ من مصر وفرنسا، في إجبار شركة أورانج على سحب استثماراتها من إسرائيل، حيث تواصلوا مع موظفين في مقر الشركة الأم في فرنسا، ممن يرفضون تعامل شركتهم مع الكيان الصهيوني من خلال النقابة التي يُمثَّل فيها اتحاد عاملي أورانج، وساعدوا الحملة بتسريب المعلومات والعقود التي عززت من قدرة الحملة في التفاوض مع الشركة*.
ومع محاصرة الشركة بأدلة تورطها مع الاحتلال، استشعرت أورانج أنَّ عواقب المقاطعة ستكون وخيمة. ومع تهديد الحملة بتوسيع نطاق المقاطعة إلى أربعة بلدان أخرى، هي المغرب وتونس وجنوب إفريقيا والسنغال، قررت أورانج الانسحاب الكامل من دولة الاحتلال عام 2015.
نشأت الحركة في لحظة انقسام فلسطيني عام 2005، ممزوجة بالإحساس بفشل مشاريع التحرر المختلفة وتعمق الاحتلال، مما خلق احتياجًا لأفكار جديدة. في تلك الأثناء كان العدو الصهيوني بدأ بناء الجدار العازل الفاصل بين مدن الضفة الغربية وأراضيها، لمنع الفلسطينيين من التمدد السكاني وتبع ذلك غضب شعبي عالمي، فكان حتميًا استغلال هذا الزخم.
وقاد عمر البرغوثي، الذي كان متطوعًا في حملة جنوب إفريقيا للمقاطعة وعلى دراية كبيرة بتفاصيلها، عملية استنساخ التجربة فلسطينيًا، فبدأ نقاشًا عالميًا موسعًا في مؤتمر المنتدى المجتمعي في البرازيل لتدشين حملة مقاطعة عالمية. وفي فلسطين، بدأت الحركة بشكل لا فصائلي فجمعت في بدايتها 74 منظمة مجتمع مدني فلسطينية، ثم انضمت لها بقية مؤسسات المجتمع المدني ولحقت بالجميع التنظيمات السياسية، فأصبحت BDS الحملة الجامعة لكل الطيف الفلسطيني.
ومن أهم المعايير التي تعمل بها الحملة إثبات تورط الشركات المراد مقاطعتها في الاستفادة والتربح من الاحتلال، ولذلك تقوم BDS بالبحث وجمع المعلومات وتفنيدها لتكون أكثر فاعلية وإيلامًا، فالهدف هو إجبار تلك الشركات على سحب استثماراتها ووقف التعامل مع الاحتلال، وليس السعي لإفلاسها أو معاداتها بلا نهاية.
كذلك يجب أن تكون هناك بدائل متاحة لتلك الشركات، ليكون خطاب مقاطعتها فعالًا. فمثلًا، شركة إنتل لصناعة رقائق الكمبيوتر ليست على قائمة أهداف الحملة، على الرغم من استثماراتها الواسعة في المستوطنات، وذلك لعدم وجود بديل لها.
الفهم مهم الآن لتجذير الصراع بدلًا من صعود وهبوط موجات المقاطعة مع كل مذبحة للشعب الفلسطيني
لذلك، يبدو من الأجدى أن نتوقف عن مناقشة جدوى المقاطعة، ليس فقط لأنها ناجحة، ولكن لأنها قائمة بالفعل في كل أنحاء العالم. لسنا وحدنا ولسنا أفرادًا، بل ولسنا فقط أنصار القضية من العرب، فالمقاطعة ممتدة في دول كثيرة حول العالم.
إن أولوليتنا الآن هي تطوير الوعي والخروج بالمقاطعة من نطاق المؤازرة العاطفية والأخلاقية لمدىً أعمق. إن الأغلبية الساحقة من المصريين مع الفلسطينيين بالفطرة، ولكن الفهم مهم الآن لتجذير الصراع، بدلًا من صعود وهبوط موجات المقاطعة مع كل مذبحة للشعب الفلسطيني.
أسئلة الجودة والاستدامة
واحدة من المشكلات التي تواجه حركات المقاطعة هو ارتباطها بالنزاعات المتفجرَّة، وعدم صمودها على المدى البعيد. لذلك، من المهم الخروج من هذا الحيز الضيق بتقوية البدائل لترسيخ مفهوم المقاطعة في عاداتنا اليومية.
يتحدث مستشار التسويق صلاح أبو المجد بشكل مفصل عن ديناميكية حركة السوق حاليًا مع تصاعد دعوات المقاطعة.
يشرح أبو المجد أن المقاطعة هي نوع من "استبدال الطلب"، أي تبديل علامات تجاربة وطنية بأخرى أجنبية، ولا تعني الإقلاع عن الاستهلاك. لذلك فإن نفس عدد المستهلكين سيظل موجودًا داخل دائرة السوق المحلية المغلقة. وبالتالي لن تتأثر دورة رأس المال المحلية، بل على العكس، فبدلًا من خروج جزء من الربح خارج البلاد، تدور الأموال بشكل محلي إلى حد كبير.
ويرى كذلك، أنه على المدى البعيد، ستؤدي حركة المقاطعة "بالضرورة لتعزيز الاستثمار في الصناعات المحلية في المدى المتوسط والطويل، وهو مكسب في المدى الطويل من الطبيعي أن يقترن بخسائر في المدى القصير".
سيكون للمقاطعة ما يعرف في الاقتصاد بالأثر المضاعف/multiplier effect؛ فعندما تقلع عن شراء سلعة مستوردة وتستبدل بها أخرى محلية، تتوسع دائرة رأس المال لمواكبة زيادة الطلب على المنتج المحلي، وذلك بتوسيع قاعدة الإنتاج والاستعانة بعمالة مدربة وتوسيع وجود المنتج، وبالتالي تتوسع خطوط الإمداد وتجارة الجملة والصناعات المساعدة، فتتسع دورة المال المحلية بشكل يفيد الاقتصاد.
كان الأولى بدلًا من التحذير من المقاطعة محاولة تعزيز جودة الصناعات المحلية
وهنا يبرز واحدٌ من الأسئلة الصعبة التي تواجه تأصيل سلوك الاعتماد على المنتج المحلي بشكل دائم، لا كبديل مؤقت، وهو تقويض الصناعة المحلية وقدرتها المحدودة على المنافسة والاستدامة، أي سؤال "الجودة".
الشهر الماضي أصدر الاتحاد العام للغرف التجارية المصرية بيانًا يزعم أن حملات المقاطعة لن تؤثر على العلامات التجارية الأجنبية بقدر ما ستضر بالعمالة وأصحاب رأس المال المصري، وناشد المواطنين "عدم الانسياق وراء تلك الدعوات".
قد تبدو هذه التصريحات ذات وجاهة، لكنها في الحقيقة لا تقدم معلومات محددة عن هذا الضرر أو حجمه، وأعداد العمالة التي ستتأثر به، ومستوى دخولهم، مثلما لم يوضح حجم رأس المال الذي سيتضرر، ولا حجم الضرر الواقع على الاقتصاد ولا مداه الزمني، وذلك للتفكير في سياسات محددة للتعامل معه ومع أثره.
وهكذا تصبح هذه التصريحات مجرد عناوين للاستهلاك المحلي، وإن كانت تعود بنا مجددًا إلى أزمة تداول المعلومات في مصر، وانعدام الشفافية والرقابة والحساب. كيف لنا أن نعرف متطلبات السوق دون بحث ميداني متجدد أو الاعتماد على معلومات موثقة؟ خاصة وأن البيانات الحكومية والرسمية تتباين في كثير من الأحيان.
ربما كان من الأولى، بدلًا من التحذير من المقاطعة، محاولة تعزيز جودة الصناعات المحلية لتكون قادرة على المنافسة، وتشبيك الصناعات الصغيرة والمكملة ببعضها البعض، ناهيك عن تحسين مهارة الأيدي العاملة، وهو ما يعتمد على تحسين جودة التعليم، بدلًا من أن تتمثل أولويات الدولة في بيع الأراضي والتطوير العقاري لتكون النتيجة الحتمية أننا نعيش على الإعانات ونستورد غذاءنا.
التجربة التركية
في أواخر القرن الماضي، مرَّت تركيا بأزمة اقتصادية طاحنة أفقدت الشعب الثقة في قدرة الحكومة على التصدي للانهيار، فسارع بتحويل مدخراته للدولار. وبنهاية عام 1994، كان ما يناهز 50% من إجمالي قاعدة الودائع بعملات أجنبية، بالمقارنة بـ1% في 1993. استمر الانهيار مع تعويمات عدة لليرة التركية التي انهارت قيمتها، وتراجع التصنيف الائتماني المقترن بارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة.
تبع ذلك انسحاب العديد من الاستثمارت الأجنبية، التي كانت عماد الاقتصاد التركي، خصوصًا مع استمرار تدخل الجيش في الاقتصاد وارتفاع معدلات الفساد والديون.
ولكنَّ التحول بدأ في 2002 بخطة إصلاح اقتصادية شاملة، ترتكز على تنمية بشرية حقيقية واهتمام ملموس وفعال بالفرد كصانع للتنمية، من خلال تطوير شامل للتعليم والصحة، وخفض نسب الفقر مع تنمية الصناعة وتوسيع نطاقها وتعزيز أثرها وتحسين جودتها.
ركزت تركيا بشكل خاص على تنمية الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتمكينها في مختلف المجالات منها المجال السياحي والصناعي، مع تقليل سيطرة الجيش على الاقتصاد بشكل تدريجي. مما أوصل تركيا لتكون من أقوى 16 اقتصادًا في العالم بحلول 2014، وكانت تجربتها الصناعية ملهمة.
يعمل المنتجون المصريون على تعميق حضورهم في السوق المحلية رغم القيود والمناخ الصعب للاقتصاد
إن تعزيز الصناعة المحلية وتوسيع نطاقها ودورها سيقدم بطبيعة الحال إجابة عن أسئلة الجودة والاستمرارية التي تعطل جهود المقاطعة. وفي هذا السياق، يحاول الكثير من أصحاب الأعمال المصريين حاليًا خلق فرص حقيقية لمنتجاتهم، وتثبيت وجودهم وسط أجواء مقاطعة العلامات الأجنبية، مع السعي لإرضاء العملاء وكسب ولائهم. هنا لن تعود السلعة المحلية مجرَّد بديل مؤقت، مما يفتح الباب لفرصة لتجربة تنموية جديدة في مصر.
وبينما يحاول المنتجون تعميق حضورهم في السوق المحلية، رغم القيود المفروضة عليهم والمناخ الصعب للاقتصاد المصري ومشكلات توفير الخامات والعمالة، نرى على الجانب الآخر الكثير من المستهلكين وهم يتشاركون أسماء منتجات مصرية ذات جودة عالية، ويسوِّقون لها بشكل غير نفعي لتعم الفائدة.
يبقى دور الحكومة في البناء على كل هذا الجهد المبذول، فبعدما أبدت السوق المصرية، مُنتِج ومستهلك، الاستعداد للعمل من أجل تحسين الأوضاع، ننتظر من الحكومة تذليل العقبات وإتاحة المناخ الذي يثري هذا الزخم وينفع الجميع.