لا يتوقف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي ينتمي لليمين المتطرف عن تكرار تهديداته بإلغاء نظام الحماية الذي يصدر بشكلٍ سنويٍّ عن الحكومة الإسرائيلية لكلٍ من بنك ديسكاونت وبنك هبوعليم، ويكفل لهما عدم مواجهة أي دعاوى قضائية جنائية أو مدنية نتيجة علاقاتها مع المال الفلسطيني وما قد تنطوي عليه بعض من هذه المعاملات من شبهة غسيل الأموال.
الأثر الأول لإلغاء نظام الحماية عن المصرفين هو شلل الاقتصاد الفلسطيني وقطاعه المصرفي، وانقطاعه عن نظام النقد الدولي والمصارف العالمية بالكامل، لأن الصلة الوحيدة بين العالم المصرفي والبنوك الفلسطينية هي كل من بنك ديسكاونت وبنك هبوعليم.
وقد حظي القطاع المصرفي الفلسطيني بهدنة مؤقتة من هذه التهديدات، في مارس/ آذار 2024، مع سماح إسرائيل بتمديد عقد الحماية لكل من بنك ديسكاونت وبنك هبوعليم لثلاثة أشهرٍ فقط، بعدما كان يتم على أساس سنوي.
تقليص مدة عقد الحماية يشي أن عقد "الثلاثة أشهر" سيبقى سيفًا مسلطًا على عنق الحكومة الفلسطينية، ينذر في أي لحظة بفصلها عن العالم المصرفي الدولي، وقطع روابط الفلسطينيين وتعاملاتهم التجارية بالبنوك الدولية والعربية، وحرمانهم من أي طرق لتمويل شؤونهم أو استلام حوالاتهم من أقربائهم المغتربين أو مواصلة تجارتهم الدولية.
تعكس تهديدات عقد الحماية واحدة من أشكال القمع الذي تستخدمه حكومة نتنياهو لمعاقبة الشعب الفلسطيني، التي لا تقتصر على هذه الواقعة ولكن سجل حافل بآليات القمع "النقدي".
نهب أموال المقاصة
من أبرز أشكال القمع النقدي التي تزامنت مع عملية السابع من أكتوبر هي نهب إسرائيل لأموال المقاصة الفلسطينية، وهي الضرائب التي تقوم تجمعها إسرائيل من الفلسطينيين نيابةً عن السلطة الفلسطينية، في مقابل واردات الفلسطينيين على السلع المستوردة.
البروتوكول الفضفاض الذي وُقع بجرة قلمٍ عجولة من المفاوض الفلسطيني كان مقصلة بيد إسرائيل
وبينما من المفترض أن تحول دولة إسرائيل هذه الأموال للسلطة الفلسطينية، فقد قامت خلال الربع الأخير من عام 2023 باقتطاع نحو 956 مليون شيكل منها، واستفتحت العام الجديد بحجز 3.1 ملايين شيكل من أموال المقاصة أيضًا، مرورًا بمحاولته شرعنة تحويل ما يقارب 835 مليون دولار من أموال المقاصة المحتجزة طوال 5 أعوام منذ عام 2018 ونقلها للخزينة العامة الإسرائيلية.
جرة قلم نحو التبعية
خطوة سموتريتش تعتبر حجرًا آخر في سلسلة تراتبية استعمارية لم تتوقف استهدفت القطاع المصرفي الفلسطيني، الذي تأسس على بروتوكول باريس أو ما عُرف بالملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو 1994، حين أعطى البروتوكول الفلسطينيين في المادة الرابعة منه صلاحية تشكيل سلطة النقد الفلسطينية.
تحت هذا البروتوكول تعتمد السلطة الفلسطينية على الشيكل الإسرائيلي واحدًا من العملات الرسمية للتداول في المناطق الفلسطينية، وتنشئ غرفة مقاصة تضطلع بمعالجة الترتيبات النقدية بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي بشكلٍ مشتركٍ مع غرفة مقاصة البنك المركزي الإسرائيلي.
وأفرد البروتوكول بنودًا تتناول تحويل بنك إسرائيل المركزي الفائض من الشيكل لدى البنوك الفلسطينية إلى العملات الأجنبية، وذلك وفقًا لمعدلات التبادل التجاري بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي، وبما يتضمن ما يتم تحصيله من أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل.
البروتوكول الفضفاض الذي وُقع بجرة قلمٍ عجولة من المفاوض الفلسطيني وبمبررات "الفترة المؤقتة له المحددة بخمس سنوات" كان مقصلة بلا مؤقِت بيد إسرائيل لتفتيت الاقتصاد الفلسطيني وإخضاعه لها، وترسيخ تبعية مستدامة تضمن لها مكاسب صافية على حساب الفلسطينيين.
تحققت هذه الهيمنة بأدوات مختلفة، مثل تأخير أو تعطيل نقل الشيكل الإسرائيلي بين الأراضي الفلسطينية أو بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي، ورفض تعامل بنك إسرائيل مع غرفة المقاصة الفلسطينية، والتحكم بإيرادات العمال الفلسطينيين في الأسواق الإسرائيلية والذين يتجاوز عددهم 193 ألف عامل.
الاستهداف المنظم للقطاع المصرفي الفلسطيني
ومع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، منذ 2006-2007، توسعت إسرائيل في فرض حصارها المالي المشدد على الفلسطينيين.
اشتمل هذا الحصار على رفض إسرائيل حق سلطة النقد الفلسطينية في تحويل الشواكل الفائضة من البنوك في المناطق الفلسطينية إلى بنك إسرائيل المركزي أو البنوك الإسرائيلية بصفة عامة، تصاعدت هذه السياسة منذ 2007 بدعوى مكافحة الإرهاب، بالتزامن مع اعتبار قطاع غزة كيانًا معاديًا لإسرائيل.
وازدادت هذه السياسة تشددًا تجاه الفلسطينيين حين سحب البنك المركزي الإسرائيلي من كلٍ من بنك هبوعليم وبنك ديسكاونت صلاحية استقبال أي أموال نقدية من البنوك الفلسطينية لسداد التزامات على فلسطين تجاه عملائها أو تحويلها عملات أخرى، وبعد وساطة صندوق النقد الدولي وافق البنك المركزي الإسرائيلي عام 2009 على استقبال 120 مليون شيكل شهريًا، لترتفع لاحقًا إلى 300 مليون.
تحاول إسرائيل تمرير قانون جديد تحكم من خلاله قبضتها على القطاع المالي الفلسطيني
وتم تبرير سياسة الحد من استقبال "الشواكل" أيضًا برقمنة المعاملات المصرفية والرغبة في الحد من استخدام الأموال السائلة، وذلك من خلال إصدار الكنيست قانون لوكر عام 2019 الذي قيد التحويلات المالية (النقدية) بسقفٍ لا يتجاوز الـ 11 ألف شيكل، ارتفعت لاحقًا إلى 13 ألف شيكل عام 2021.
مع توقف إسرائيل عن استقبال النقد من البنوك الفلسطينية، تكدس لدى البنوك الفلسطينية أكثر من 6 مليارات شيكل نقدًا. وساهم ذلك في ضَعف قُدرة البنوك على تمويل القروض وارتفاع تكاليف تخزين الأموال وتأمينها.
هذا بجانب سلسلة اقتطاعات سنوية، بمبررات مختلفة، لإيرادات المقاصة الفلسطينية، لتبلغ خلال خمس سنوات من 2018 إلى 2023 ما يقارب الثلاثة مليارات شيكل، بالتزامن مع سلسلة ضربات عسكرية وأمنية استهدفت البنوك والمصارف في قطاع غزة بالقصف والنهب الذي طال أكثر من 220 مليون شيكل، ومصادرة الملايين من خلال عمليات التخريب والمداهمة لمحلات الصيرفة ومنازل المواطنين في الضفة الغربية، والذي طال في إحدى المداهمات أكثر من 10 ملايين شيكل دفعةً واحدةً.
ما قبل الشيكل.. ما بعد المقاصة
بعد اندلاع حرب السابع من أكتوبر، استخدمت إسرائيل سلاح التلويح بقطع علاقة البنوك الفلسطينية بالعالم الخارجي في حال اعتراف دول أوروبية بالدولة الفلسطينية.
وفي الوقت الراهن، تحاول إسرائيل تمرير قانون جديد تحكم من خلاله قبضتها على القطاع المالي الفلسطيني، إنشاء شركة حكومية وسيطة (*) تكون بديلًا للتعامل مع القطاع المالي الفلسطيني عن البنكين الإسرائيليين اللذين يقومان بهذه المهمة حاليًا.
ويتيح مشروع القانون الجديد لإسرائيل التحكم بشكل مباشر في العديد من العمليات المالية الفلسطينية، رفضها أو المصادقة عليها بشكل مباشر من الحكومة الإسرائيلية.
بمرور الوقت، تتضاءل خيارات الفلسطينيين للتحرر من قيود السيطرة النقدية الإسرائيلية، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال خفض الفائض من الشيكل في البنوك والأسواق الفلسطينية، واستبدال عملات أخرى به تتيح لفلسطين التعامل بشكل مباشر مع العالم الخارجي.
ويمكن بلوغ ذلك عبر تنويع العملات في المحفظة النقدية الفلسطينية، لتشمل الدينار الأردني واليورو والدولار على حساب الشيكل، لأن البنوك الفلسطينية حرة في تحويل العملات الأخرى من خلال البنوك الأردنية والمصرية.
ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال تنويع شركاء فلسطين التجاريين، مع إتاحة دور أكبر للتجارة مع مصر والأردن على حساب إسرائيل، فالأخيرة هي الشريك التجاري لفلسطين في الوقت الراهن بحكم اتفاق باريس وسيطرتها على المعابر.
ما قد يتيح لها "حينها" مرونة أكبر في تأسيس علاقات نقدية ومالية مع البنوك المركزية العربية "مصر والأردن"(**) تُمسك بحبالها بينما تتأرجح حبال وصلها بالنقد الإسرائيلي ما بين الهاوية والهاوية.