حسب تقدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تعرضت نصف المباني في قطاع غزة للتدمير خلال قرابة شهرين من العدوان الإسرائيلي، وهو تقدير مرشح للارتفاع بالطبع إذا تواصلت الحرب مجددًا بعد انقضاء أيام الهدنة المؤقتة.
الدمار ليس غريبًا عن قطاع غزة، فالمواجهة الحالية هي الخامسة منذ انسحاب إسرائيل الأحادي منه في 2005، لكنها بالقطع الأكثر فتكًا وتدميرًا في تاريخه المعاصر، ومن ثَمَّ فإن مقتضيات إعادة تأهيل القطاع للحياة ستكون بالضرورة أكبر من كل السوابق التي يمكن القياس عليها، سواء لإعادة بناء المباني السكنية والخدمية، أو استعادة المرافق الأساسية من مياه وكهرباء وطرق ومدارس ومستشفيات.
عادة ما ينصبُّ الاهتمام أثناء عمليات إعادة البناء بعد الحروب على الجوانب التمويلية، أي التقدير المالي للتكاليف، وعلى الجوانب الفنية التي تدور حول كيفية التعامل مع الممولين المحتملين وحجم وشكل المساهمات وقنوات توظيفها.
يستند هذا المنهج إلى افتراض ضمني بأنَّ إعادة البناء أمر حتمي، وأنَّ كلَّ صراع مسلح ينتهي بتدمير واسع النطاق، ستعقبه بالضرورة حلقات من ضخ الأموال لإعادة البناء. وهذا الافتراض مُستمدٌّ من السابقة التاريخية التي أسَّست لاقتصاديات إعادة البناء؛ مشروع مارشال الذي شهد تحويلات مالية ضخمة من الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لإعادة بناء أوروبا الغربية التي نالها التدمير.
لكنَّ خطة مارشال هذه لم تجرِ في فراغ سياسي، بل على العكس تمامًا، كان حرص الولايات المتحدة على تمويل إعادة بناء أوروبا الغربية واليابان جزءًا لا يتجزأ من تكريس نفوذها بين حلفائها وأعدائها المنهزمين، في سبيل تكوين كتلة العالم الحر التي ستواجه الاتحاد السوفيتي، كما كانت جهود إعادة البناء شرطًا مهمًا لاستيعاب نفوذ الأحزاب الشيوعية المتصاعد في بلدان غربية مثل فرنسا وإيطاليا.
ولكن في مقابل مشروع مارشال، انتهت الكثير من الصراعات المسلحة في العقود الماضية دون إطلاق برامج إعادة إعمار، إما لأنَّ المصالح السياسية لم تكن تستحق تخصيص الموارد اللازمة، أو لأنَّ الاستقرار السياسي والأمني والمؤسسي لم يكن مضمونًا لإنجاح إعادة الإعمار.
ولنا في التدمير واسع النطاق الذي شهده العراق وسوريا في إطار الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، نموذج تعيس يُضاف إليه الوضع الحالي في دول مثل اليمن وأفغانستان، وقبلهم جميعًا في الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، وهي تمثل جميعًا حالات صراعات أهلية أو دولية ممتدة ومدمِّرة، بل مدمِّرة للغاية، لم تعقبها إعادة إعمار، أو على الأقل لم يكن كافيًا لإزالة آثار الحرب.
هوية من يحكم غزة ستكون محوريةً في تحديد نطاق وفاعلية إعادة الإعمار بعد الحرب
إذًا، عمليات إعادة الإعمار ليست مجرد مسائل مالية أو فنية أو حتى اقتصادية حسب، بل تقع في صُلب الاقتصاد السياسي من ناحية، وتتحدد في حجمها وشكلها ونطاقها بنتائج الصراع المسلح نفسه من ناحية أخرى.
ولا تنطبق تلك المقولات على أي مكان بقدر ما تنطبق على حالة قطاع غزة بعد تلك الحرب، حيث ستتحدد فرص إعادة الإعمار من عدمه ومحتوى الخطة وتفاصيلها بالكامل، وفق الواقع التي ستفرضه الحرب على الأرض. وبما أنَّ للصراع في غزة أبعادًا إقليمية ودولية حاضرة، فإن إعادة الإعمار، إن حدثت على النطاق المطلوب الذي يسمح بإعاشة السكان ستكون امتدادًا للصراع نفسه.
تقترب الحرب من إنهاء شهرها الثاني، وحتى الآن لا يبدو "القضاء على حركة حماس"، أيًا كان ما يعنيه ذلك الهدف، أمرًا يقترب الجيش الإسرائيلي من تحقيقه. كما أنَّ إعادة احتلال القطاع بالكامل كما أعلنت بعض الدوائر داخل التحالف الحاكم مرارًا ليست محل إجماع داخلي، بل وتلقى معارضة أمريكية معلنة.
لكن في المقابل، فإنَّ "إخراج حماس من حكم القطاع"، ومرة أخرى أيًا كان ما يعنيه ذلك بحكم طبيعة الحركة وتاريخها المنغمس في مجتمع غزة، أمر ممكن غالبًا، وللمفارقة فإنه سيحدث بالاتفاق مع حماس نفسها، التي يمكن التوصل معها لحل يقضي إما بعودة السلطة الفلسطينية، الاقتراح الذي تعارضه إسرائيل ولكن تضغط نحوه الولايات المتحدة، أو بوجود قوة عربية أو دولية تعيد إنتاج صيغة قوات حفظ السلام (يونيفيل) في جنوب لبنان، وهو ما تلقفه الأتراك وعارضته الدول العربية.
على كلٍّ، فإنَّ هوية من يحكم غزة ستكون محوريةً في تحديد نطاق وفاعلية وفاعليات إعادة الإعمار بعد انتهاء العمليات العسكرية، ولا شكَّ أنَّ العملية ستكون مسيسة للغاية، بل وستكون في الأغلب امتدادًا للصراع العسكري، لكن بأدوات أخرى.
فإسرائيل التي تعمَّدت تفجير كارثة إنسانية في القطاع، بقطعها إمدادات المياه والوقود والطعام والدواء ومهاجمة المستشفيات واستهداف المدارس التي نزح إليها المدنيون، ستسعى إلى استخدام إعادة الإعمار لتحقيق أهدافها، سواء بإضعاف حماس، أو بفرض صيغة أشد إحكامًا من حصار القطاع، أو حتى تماديًا في سيناريو التطهير العرقي لجعل غزة غير قابلة للحياة، وهو ما لا يخفيه المسؤولون الإسرائيليون.
من ناحية أخرى، لن تضخ الدول العربية الثرية، خصوصًا في مجلس التعاون الخليجي، أموالاً ما لم يكن لها كلمة مسموعة في من سيحكم القطاع. لن تنفق تلك الدول التي تعد حماس والجهاد الإسلامي من ضمن الأذرع الإيرانية أموالها لتستأنف حماس سيطرتها على القطاع في ضوء المخاوف المتصاعدة من نفوذ طهران.
ربما نكون قريبين من إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية، أو هكذا آمُل، لكن الطريق أمام إعادة إعمار القطاع سيكون طويلًا ومعقدًا ومرهقًا إلى درجة ستفاقم معاناة ملايين الفلسطينيين يوميًا، وسيشكّل ساحة جديدة يُستكمل فيها ما بدأه الصراع العسكري بين إسرائيل وحماس، لتحديد من يحكم غزة، وكيف سيحكمها.