بالأمس مدت هدنة الأيام الأربعة التي أدت لوقف جريمة العدوان الإسرائيلي على غزة مؤقتًا، بعد مقتل نحو 15 ألف مدني فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، على مدى 49 يومًا، وذلك في إطار الصفقة التي رعتها قطر ومصر وأمريكا للتفاوض غير المباشر بين حكومة الاحتلال وحركة حماس من أجل إطلاق سراح 50 محتجزًا إسرائيليًا في قطاع غزة مقابل 150 أسيرًا فلسطينيًا في سجون الاحتلال، جميعهم نساء و"أشبال" أقل من ثمانية عشر عامًا.
الأطراف المعنية بهذه الحرب غير المسبوقة في بشاعتها وحجم ضحاياها من الفلسطينيين خلال سبعة أسابيع تأمل أن كل يوم إضافي تمتد فيه الهدنة سيجعل من العودة لحالة الحرب المتواصلة التي شنتها إسرائيل أمرًا صعبًا نسبيًا.
وفي الوقت نفسه، فإن الوقف الكامل للعمليات العسكرية الإسرائيلية أمر مستبعد في ضوء الوجود الإسرائيلي الفعلي على الأرض واحتلال معظم شمال قطاع غزة، وكذلك الدعم الأمريكي المعلن لرغبة حكومة المتطرفين الحالية في إسرائيل في توجيه ضربة قوية لحركة حماس تجعل من الصعب الرجوع للأوضاع التي كانت قائمة قبل اندلاع حرب 7 أكتوبر.
ولكن الضغط الداخلي من أهالي بقية الأسرى المحتجزين في غزة ممن لم تشملهم المرحلة الأولى المتفق عليها التي اقتصرت على 50 محتجزًا فقط، ربما أجبرت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على القبول بتمديد محدود للهدنة، وفقًا للمعايير ذاتها التي طُبقت في المرحلة الأولى.
ولا شك أن نتنياهو يخشى أن إطالة أمد الهدنة قد يدفع لتصاعد المطالب بإقالته من منصبه، وتولي رئيس وزراء آخر مهمة استكمال ملاحقة حركة حماس والإفراج عن بقية الأسرى الإسرائيليين، حيث يدرك "ملك إسرائيل" المهزوم أن نهايته اقتربت وحتمية.
النزول عن الشجرة
ولو كان الأمر في يد نتنياهو ووزرائه "الدواعش" من قبيل بن إيتمار غفير وبتسلئيل سموتيريتش لما توقفت المجزرة وحرب الإبادة الجماعية التي شهدها العالم على شاشات التليفزيون وعبر السوشيال ميديا، مما أدى إلى إدانة واسعة من شعوب العالم، بما في ذلك الدول المعروفة تاريخيًا بدعمها المشروع الصهيوني.
رغم كل تلك العشوائية والإجرام في القصف لم يتمكن جيش الاحتلال من القضاء على المقاومة
جرائم الحرب الفجة المتمثلة في منع وصول الدواء والغذاء وقصف المستشفيات والمدارس التابعة للأمم المتحدة، حيث تؤوي ما يزيد على مليون ونصف المليون الفلسطيني اضطروا للنزوح من بيوتهم في شمال قطاع غزة إلى الجنوب بالقرب من الحدود مع مصر؛ كل ذلك اضطر نتنياهو إلى النزول عن الشجرة خالي الوفاض تقريبًا، واضطر لقبول وقف مؤقت لإطلاق النار من دون أن يحقق أيًّا من أهدافه الكبرى المعلنة منذ الهجوم المذل لدولة الاحتلال، الذي قام به مقاتلو حماس في 7 أكتوبر وأسفر عن مقتل 1200 إسرائيلي وتحطيم وهم التفوق المطلق لجيش الاحتلال وتمكنه من القضاء على المقاومة: القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى الذين احتجزتهم حماس في سياق عملية "طوفان الأقصى" ونقلتهم إلى غزة، وبينهم الكثير من ضباط وجنود جيش الاحتلال.
وما يجب أن يضعه كافة المحللين والمراقبين في اعتبارهم عند تقييم الصفقة الأخيرة أن حرب العدوان الإسرائيلي على غزة لا تجري بين جيشين متكافئين في السلاح والعتاد ولا الأعداد. ولا يمكن أن يوصف الجيش الإسرائيلي بالتفوق عندما يستخدم أحدث ما لديه من أسلحة زودته بها أمريكا ليقصف بشكل همجي متواصل جوًا وبحرًا وبرًا مساحة محدودة من الأرض لا تتجاوز 360 كلم مربع ويهدم كل ما فيها من مبانٍ، بينما لا تمتلك حماس أي دفاعات جوية أو مضادات أرضية ولا مدافع طويلة أو قصيرة تقصف بها إسرائيل.
هي حرب بين أحد أقوى جيوش العالم وحركة مقاومة تتقن أسلوب حرب العصابات، وأبدعت على مدى أعوام عدة وسائل بسيطة وبدائية لتطوير أسلحة تستطيع إلحاق خسائر موجعة بالعدو، رغم كل ما يمتلكه من أسلحة طيران وبحرية ومدفعية وتكنولوجية ومخابراتية.
ورغم كل تلك العشوائية والإجرام في القصف، لم يتمكن جيش الاحتلال من القضاء على المقاومة، ونقلت نيويورك تايمز السبت 25 نوفمبر/تشرين الثاني عن خبراء غربيين تقديرهم أن عدد قتلى تنظيم حماس منذ بدء حرب العدوان الإسرائيلية لم يتجاوز ألفين من بين 40 ألف مقاتل.
تغييب حماس
ولكن هذا لا يعني أن القادم سيكون سهلًا على حركة حماس. وفي ظل الاتصالات العديدة التي تجري في الغرف المغلقة منذ بدء الحرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يجري البحث عن بدائل لكيفية إدارة القطاع في المستقبل من دون أن يكون لحماس دور مباشر عقابًا لها على القيام بهجوم السابع من أكتوبر. كما يروج الرئيس الأمريكي بقوة، ومعه وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إلى أهمية السعي لإحياء المفاوضات من أجل تنفيذ حل الدولتين، وهو ما تدعمه الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، على رأسها مصر والسعودية والأردن.
المهم هو البدء في العمل على حل دائم للقضية الفلسطينية
ويدور الحديث بشكل واسع حول إعادة إحياء دور السلطة الفلسطينية، ولو في ثوب جديد لا يشمل بالضرورة الرئيس الحالي محمود عباس البالغ من العمر 88 عامًا، وربما توسيع منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل حركة حماس ومنظمات فلسطينية أخرى لتوفير غطاء لإدارة قطاع غزة من دون أن يكون هناك دور مباشر ورسمي لحماس.
ولكن تبقى كل هذه سيناريوهات لا يعرف أحد كيف أو إذا ما كان سيتم تنفيذها فعلًا، في ضوء أنه حتى الإدارة الأمريكية الحالية كانت قد تخلت عمليًا عن السعي لتحقيق حل الدولتين.
وقال بايدن في تصريحاته التي أدلى بها بعد انتهاء المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى إنه يعتقد، من دون أن يمتلك الدليل على ذلك، أن حماس قامت بهجومها في 7 أكتوبر لكي لا تنجح جهوده في التوصل لاتفاق تاريخي لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وتنفيذ المشروع الطموح لإقامة خط سكة حديد يربط بين الهند وإسرائيل انتهاء بأوروبا.
كما أنه من غير المتصور أن تكون أي حكومة في إسرائيل مستعدة على المدى القصير لتجاوز أجواء الحرب والانتقام والبدء في إعادة إحياء مسار السلام من أجل إقامة دولة فلسطينية. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية نهاية العام المقبل، من غير المتوقع أن تضع إدارة بايدن ضغطًا كبيرًا على إسرائيل من أجل القبول بذلك السيناريو الطموح الخاص بإعادة إحياء مسار التفاوض من أجل إقامة دولة فلسطينية، حتى لو كانت منزوعة السلاح كما اقترح مؤخرًا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتأكيد على أن المهم هو البدء في العمل على حل دائم للقضية الفلسطينية يتمثل في إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس.
ولذلك فإن المرجح على المدى المنظور هو استمرار احتلال الجيش الإسرائيلي أجزاء من القطاع واستمرار العمليات العسكرية بدعوى ملاحقة قادة ومقاتلي حركة حماس، وإن لم يكن على نطاق واسع كما شهد العالم على مدى خمسين يومًا.
من يشعر بالانتصار
المعركة لم ولن تنتهي قريبًا، وإن كان يضاف لها الآن عامل الاهتمام الدولي الشعبي المتنامي بعدالة قضية الشعب الفلسطيني، وهو ما غاب عن الرئيس بايدن في خطابه المخصص للترحيب بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
بايدن تحدث بتعاطف بالغ، كما كل محطات التليفزيون الغربية، عن النساء والأطفال الإسرائيليين، ولكنه لم يشر بكلمة واحدة إلى الأسيرات الفلسطينيات والقصر الفلسطينيين الذين يمثلون روح المقاومة والسعادة الغامرة التي انتابت أسرهم وأقاربهم لدى استقبالهم أحرارًا وأبطالًا في إطار صفقة التبادل.
فقط المحطات العربية والمصرية اهتمت وأفردت وقتًا مطولًا لعودة السجينات الفلسطينيات والأشبال من المقاومين إلى بيوتهم في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وأجواء الاحتفال والانتصار التي صاحبت استقبالهم بعد مرور الباصات التي كانت تحملهم وسط دخان قنابل الغاز التي أطلقها جيش الاحتلال والإطارات المحترقة التي أشعلها الفلسطينيون.
جيش الاحتلال أصر ألا يصاحب إطلاق سراح الفلسطينيات والفلسطينيين أي مظاهر احتفالية في وقت تستقبل فيه إسرائيل بحزن وإهانة نساء عجائز وأطفالًا يعودون من قطاع أمطروه بكافة أنواع القنابل والصواريخ على مدى خمسين يومًا تقريبًا. وربما تكون هذه التصرفات الإسرائيلية أحد أهم المؤشرات لدى المقارنة بين من يشعر بالانتصار مقابل من يشعر بالهزيمة مع بداية اليوم الخامس من الهدنة.