سلط قرار مجموعة الشايع تقليص أعمالها في مصر مؤخرًا الضوء على عمق الأزمة الاقتصادية الحالية، والمدفوعة بارتفاع سعر الصرف في الأسواق الموازية بما يقرب من ضعف السعر "شبه الرسمي" لدى البنوك، وما أنتجه من زيادة التضخم وتراجع معدلات الاستهلاك من ناحية، وارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج، لا سيما المستوردة منها، من ناحية أخرى.
في نقاشات السوشيال ميديا على هذا القرار، عُدَّ قرار الانسحاب هذا علامةً على تفاقم الصعوبات التي تواجه الاستثمار الخارجي في مصر رغم الحاجة الماسة إليه، وهي ملاحظة لها وجاهتها من حيث المبدأ، إذ إنَّ إغلاق بعض المحال التجارية الشهيرة التي تبيع "براندات" عالمية، وتحتل مواقع متميزة داخل أهم المولات أو الأسواق التجارية، يبعث بصورة قاتمة حول الوضع الحالي، وما قد يؤول إليه في المستقبل القريب.
لكنَّ الصورة تظل مجرد "صورة" في نهاية المطاف، ولا تعكس الأبعاد الحقيقية أو الأكثر أهمية ومركزية للأزمة الراهنة.
مساوئ البراندات
لا تخص أعمال المجموعات الاستثمارية الأجنبية أو العربية أو المحلية النشطة في القطاعات الاستهلاكية البحتة، مثل براندات الملابس الجاهزة والأحذية ومستحضرات التجميل والعطور وغيرها، سوى شريحة بالغة الضيق من المستهلكين المصريين الذين لا يزالون قادرين ماليًا على شراء مثل هذه السلع، مع الانخفاض الشديد في الدخول الحقيقية للغالبية الكبيرة من المصريين في ظل التضخم المرتفع.
بل إن الأزمة الحالية قد تكون كاشفةً عن هذا النمط غير التنموي من الاستثمارات الأجنبية، خاصة الآتية من الخليج، التي لعبت دورًا محوريًا في زيادة الاستثمارات المرتبطة بالمولات التجارية ذات الأنشطة كثيفة الاعتماد على الاستيراد، لأنها تستورد سلعًا نهائيةً مرتفعة السعر، ولا يخرج نشاطها عن التجارة والتوزيع، بلا أيِّ قيمة مضافة للاقتصاد.
سيقول الخبراء من الناس إن هناك الآلاف الذين فقدوا وظائفهم مع انسحاب هذه الاستثمارات، وهذا صحيح، ولكن كذلك فإن هذه الأنشطة كثيفة الاستيراد ليست كثيفة التشغيل ولا تخلق عددًا كبيرًا من الوظائف. والأهم من العدد، أنها وظائف تتيح لشاغلها مستوى معيشة قليل الجودة، بما يتماشى مع انخفاض القيمة المضافة لتلك الاستثمارات.
فعلى سبيل المثال، سيؤدي إغلاق 60 متجرًا إلى فقدان 375 وظيفة، ما يعني أنَّ معدل التشغيل المباشر لكل متجر أو محل كان 6.25 عامل، وهو معدل تشغيل منخفض للغاية، ناهيك بالطبع عن أنَّ طبيعة هذه الوظائف لا تَعِد بتوليد قيمة مضافة مرتفعة إذ يتركز أغلبها في أنشطة البيع، وخدمة العملاء وتدليلهم.
وجود هذه البراندات في مصر يعني أنَّ شريحة صغيرة من السكان تتبع نفس النمط الاستهلاكي في دول الخليج
هناك بالطبع وظائف ترتبط بهذه الاستثمارات ارتباطًا غير مباشر، مثل حركات الشحن والتفريغ والتسويق والإعلان وغيرها، ولكن من الصعب مرة أخرى تصور أن يولّد نشاط قائم بالأساس على استيراد سلع نهائية مرتفعة السعر، تستهدف شرائح ضيقة من مرتفعي الدخل، أيَّ قيمة مضافة يمكن التعويل عليها من أجل ربط الاستثمار الأجنبي بالتنمية، أو ما ينبغي أن يكون تنمية حقيقية، قائمة على إنتاج سلع وخدمات ذات قيمة مضافة مرتفعة.
لا يُفهم من الكلام بالطبع أنَّ السلع الترفيهية تمثل وزنًا كبيرًا من إجمالي الواردات المصرية، بل على العكس، ففي عام 2022 بلغت واردات مصر من العطور 0.29% من إجمالي وارداتها، والملابس الجاهزة 0.29%، ولعب الأطفال 0.09%، والسجائر وبدائلها 0.19%، والصابون والشموع 0.25%، والكاكاو ومنتجاته 0.18%.
لذلك، فإن الوزن النسبي الصغير لهذه السلع يدل في الوقت نفسه على أنَّ نقصانها أو تقلص الاستثمارات المرتبطة بجلبها وتوزيعها في السوق المحلية، ليس أمرًا مهمًا ليسترعي كلَّ هذا الانتباه، أو ليتخذه البعض دليلًا على عمق الأزمة الاقتصادية، في الوقت الذي نناضل فيه للحصول على العملة الصعبة اللازمة لتمويل شراء الغذاء والوقود ومدخلات القطاعات الإنتاجية صناعية كانت أو زراعية.
الفرصة الكامنة في قلب الأزمة
من الزاوية الاجتماعية، فإن هذا النمط من الاستثمار، المرتبط بكثافة الاستيراد، يكشف تزايد اللا مساواة في توزيع الدخل في مصر.
فوجود هذه البراندات في مصر يعني أنَّ شريحةً صغيرةً من السكان تتبع نفس النمط الاستهلاكي في دول الخليج، في الوقت الذي يبلغ فيه متوسط دخل الفرد في الكويت والمملكة العربية السعودية 11 ضعف نظيره في مصر، والإمارات العربية المتحدة 17 ضعفًا.
الخلاصة إذن أنَّ الاستثمار، ولو كان أجنبيًا، في قطاعات كثيفة الاستيراد لا يعوَّل عليه في تحقيق التنمية، حتى وإن خلق بعض الوظائف أو حقق أرباحًا كبيرة لأصحابه.
وإذا ساهم تقليص هذه الأنشطة في تذكيرنا بسوء الأحوال الاقتصادية، فعلينا أن نتذكر أيضًا أنَّ هذا الوضع يساعد منتجين محليين على إحلال منتجاتهم محل المنتجات المستوردة بالكامل، ما يجعل من أزمة العملة الصعبة نوعًا من الحماية التلقائية للصناعات الوطنية، ما قد يسهم مستقبلًا في تخفيض حدة الاستيراد.
هذا كله مع التسليم بأنه في حالتنا، فإنَّ انخفاض قيمة الجنيه أثبت أثرًا سلبيًا عامًا يرتبط بارتفاع معدل التضخم، في ضوء الاعتماد المفرط على استيراد الغذاء والوقود والكثير من مدخلات الإنتاج، كما أنَّ اختفاء البراندات من السوق المصرية في الأغلب لن يكون له تأثير على أنماط الاستهلاك كمًا أو كيفًا للغالبية الواسعة من المصريين، الذين إما يستهلكون بدائل مستوردة ولكن أرخص كثيرًا، بعضها براندات مقلدة، أو يعتمدون على منتجات محلية تخدم شرائح اجتماعية أوسع.