
يوميات صحفي في غزة| أسئلة بلا إجابات
الصباح الأول بعد الحرب عادي ورتيب
أسوأُ العادات الغزاوية إطلاقُ النار بكثافةٍ في الأفراح والأحزان. هكذا يعبرون عن مشاعرهم. وهذه هي المرة الأولى التي تمنيت فيها سماع إطلاقهم الكثيف للنار؛ أن يستيقظ الجميع من ثباتهم. أن يخرجوا للشوارع محتفلين بنجاتهم أو نجاة من تبقى منهم بعد 735 يومًا من المعاناة وآلام الفقد والنزوح والتجويع، ولكن لم يحدث شيء من هذا كله.
كنت أستعدُ للنوم بعد منتصف ليلة الخميس 9 أكتوبر/ تشرين الأول بعد ساعات طويلة من متابعة جلسات التفاوض في شرم الشيخ بين حماس وإسرائيل. المتابعة كانت قاسيةً نفسيًا، فلا أخبار تريح، حتى أصدرت حماس بيانًا بموافقتها على بنود الاتفاق، تبعها إعلان من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب عن التوصل لاتفاق حول المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
كأنه حلم
هل انتهت الحرب؟ لم أصدق. تحدثتُ إلى صحفيين خارج غزة، أكدوا الأخبار، شاهدت المصادر الرسمية ولم أصدق بعد. خرجت للشارع، هدوء تام وسط عتمة ساعات الليل الأخيرة. لا تهليلات. لا تكبيرات. لا أحد. الجميع نيام. انتظرت قليلًا وقلت "كمان شوي الناس بتطلع تطخ بالشوارع مع الفرحة" لم يحدث ذلك.
جلستُ وزوجتي حتى الفجر على ضوء القمر، وأقنعنا أنفسنا أنّ الفرحة قادمة صباحًا، لكن شيئًا ما داخلي لم يكن فرِحًا. لم يكن سعيدًا بالنجاة.
الكثير من الأسئلة؛ على ماذا اتفقوا في شرم الشيخ؟ ما هي البنود وآلية التنفيذ؟ كيف سنستعيد حياتنا بعد دمار منازلنا وشوارعنا ومرافق الخدمات الأساسية التي بُنيت على مدار عقود ماضية؟ من سيعيد الأموات ومن سيدعم الناجين ويعيد لهم حياتهم؟
خرجتُ في الصباح الباكر بعد سماع أصوات محدودة لأعيرة نارية، وتساءلت "هل هكذا يحتفل الناس بنجاتهم؟ أين فرحتهم التي اعتدنا عليها؟".
في يناير/كانون الثاني الماضي، لحظة إعلان التوصل لاتفاق وقف نار من الدوحة، أذكر مئات وربما آلاف الأعيرة التي أطلقها الغزيون في السماء احتفالًا. أذكر كيف انتشرت النكات يومها حول اختراق الغزيين للغلاف الجوي برصاصهم، وآخرون قالوا مستنكرين "لو الرصاص إلى انطخ بالجو استخدموه بالمعارك، كانت فلسطين تحررت".
صباحًا، الجميع في دهشة؛ "عنجد الحرب خلصت؟". كان جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يقصف ويفجِّر ويطلق الرصاص، والطائرات الحربية تجول السماء ذهابًا وإيابًا وعلى ارتفاعات منخفضة، والطريق بين الجنوب والشمال مغلق، وهو ما زاد من حيرة المواطنين وحيرتنا كصحفيين.
حاولت البحث مع المصادر والاستعلام عن ساعة بدء سريان وقف إطلاق النار وانسحاب جيش الاحتلال من داخل المدن. استعلمت عن تفاصيل الاتفاق وآلية تنفيذه. استعلمت عن فتح الطريق أمام الغزاويين، ولم أتوصل إلى أي معلومة دقيقة، مثلي مثل باقي الزميلات والزملاء.
فرحة ناقصة
رصدتُ فرحة أعداد محدودة من الأطفال ونساء في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح حيث أنزح وأعمل، وفي مناطق محيطة بالمدينة تتركز فيها خيام ومخيمات النازحين؛ فرحة منقوصة لنازحين وصلوا حديثًا، واحدٌ منهم قال "احنا ملحقناش ننسى لفلوس إلي دفعناها للشاحنة عشان نطلع من غزة، دفعت 3500 شيكل، ما يعادل 1100 دولار، عشان أوصل دير البلح، من وين بدي أجيب فلوس وأدفع عشان أرجع أنقل أغراضي، ولوين بدي أنقلهم إذا البيت دمروه".
لم أجد إجابة على أسئلته، التي سمعتها من أكثر من 20 من الأصدقاء والأقارب النازحين خلال محادثاتي معهم للاطمئنان وتبادل التهاني بالسلامة.
في بداية حرب الإبادة، بعد أسبوع واحد من انطلاق شرارتها، أصدر الجيش الإسرائيلي أول أوامر الإخلاء القسري لجميع الفلسطينيين في شمال وادي غزة شمال القطاع.
أكثر من مليون و200 ألف يقطنون في تلك المناطق وجدوا أنفسهم تحت التهديد بالقتل جراء القصف والأحزمة النارية المتتالية، وكُنت واحدًا من هؤلاء الذين قرروا نقل عائلته بكل أفرادها خوفًا مما هو قادم.
"الخوف والألم والحيرة" قد تكون أبرز المشاعر التي تملكتني ودفعتني لترك المنزل وحيدًا دون ونيس. غادرنا إلى منازل وخيام ومدن لم أحلم أو أفكر يومًا في الانتقال لها أو المبيت فيها ليوم واحد سابقًا، تبعتها سيطرة جيش الاحتلال على محور نتساريم وفصل القطاع إلى قسمين، ما تسبب في حزن وصدمة.
نمت يومًا بعد يوم طوال عام و4 أشهر من الانتظار والشوق حتى أنّ معظمنا فقد الأمل بالعودة، واعتقد غالبية الغزيين أنّ ما نعيشه فصل حديث من فصول النكبة الفلسطينية الممتدة منذ ما يزيد عن 75 عامًا.
وبالعودة إلى إعلان وقف إطلاق النار والسماح للنازحين بالعودة في يناير من العام الحالي، بكينا وبكيت وأنا أقف على تبّة النويري المرتفعة بالقرب من وادي غزة على الطريق الغربي وأنا أشاهد السيول البشرية أثناء عودتها سيرًا. مشيت بين الحشود، المبتسمة المتلهفة للحظة وطء قدمها تراب مدينة غزة؛ مدينتنا الأحب والأقرب إلى قلوبنا، وتحقق ذلك بدموع الفرح والتهليل واستقبالنا من الصامدين على أرضها تحت التجويع والقتل.
آلام العودة
قد تكون عودتنا الكبرى السابقة أكثر فرحًا نتيجة مشاعر الاشتياق وكسر رغبات الاحتلال الإسرائيلي بعدم السماح لنا بالعودة بعد طول انتظار وفقد الأمل، لكن العودة الحالية بعد أيام قليلة من النزوح فتحت بابًا أكبر على المصير المجهول لما هو قادم من حياتنا.
من سيعوض الفقد والألم ومن سيبني ويُعمّر، وكم من الوقت نحتاج لإعادة المستشفيات والمدارس والمنازل والشوارع، وكم نحتاج من الوقت لتصلنا الكهرباء والماء. أسئلة أتهرب من طرحها على ذاتي، حيث أصبحت أكره الوقوف أمام المرايا التي تعكس جسدي وتضعني أمام ذاتي أنظر لها بحيرةِ الباحث عن مستقبل مجهول.
صباح السبت 11 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أي بعد أقل من 20 ساعة على سريان وقف إطلاق النار. قررت الهرب من كل المحيط وخرجت في زيارة استكشافية لحجم الدمار شمال القطاع، تجولت بين مئات المباني التي كنت أحفظ تفاصيلها. كيف تشوهت وتحول معظمها إلى كومة ركام، شاهدت ملابس الغزيين ممزقة بين الحجار والأتربة. مشيت على شوارع خرج ما في باطنها لندوس عليه بأقدامنا المُغبرّة. وشاهدت عشرات الغزيين في الشوارع يبكون حالهم.
قابلت أكثر من 9 شبان بشكل منفصل بعد وصولهم إلى المناطق الشمالية؛ أطراف بيت لاهيا الجنوبية وجباليا، معظمهم يائس من عدم قدرته على الوصول لمنزله بسبب استمرار تمركز جيش الاحتلال داخل القطاع خلال المرحلة الحالية، وآخرون شاهدوا منازلهم المدمرة، وشاهدوا أحياءهم المدمرة بالكامل وقرروا العودة حيث النزوح جنوبًا "على إيش بدنا نرجع، على الركام؟ لا في ميّ ولا أكل ولا في حياة، مهل بس يفتحوا لنا الطرق ويصير في إعادة إعمار بنرجع"؛ هكذا قال أحدهم ونحن نتحدث سويًا.
شاهدت رجلًا وزوجته وأطفاله يجلسون على ركام بناية شمال شارع النصر شمال غرب مدينة غزة، اقتربت منه وسألته "هادة بيتك؟"، أجابني "أنا بس بدي أعرف، بدي حد يجاوبني على سؤالي وسؤالنا كلنا"، استغربت وسألته "وايش سؤالك!"، أجاب "كل دا كان ليه؟". وقفت أمامه بلا ملامح وبلا مشاعر، هل أبتسم؟ هل أبكي؟ هل أصرخ؟ بماذا أجيب إذا كانت القيادات الفلسطينية لا تملك جوابًا شافيًا منطقيًّا قد يقنع المواطنين، إجابة قد تريح وتزيل ما في صدورهم من غمة وقهر على ضياع الماضي والحاضر وانتظار مستقبل مجهول.