من ويكيبيديا - برخصة المشاع الإبداعي
مقر الفيدرالي الأمريكي

أرحنا بها يا أيها الفيدرالي

منشور الأحد 23 أبريل 2023

الفيدرالي الأمريكي هو أقرب شيء في الولايات المتحدة للبنك المركزي كمؤسسة رسمية مسؤولة عن إدارة السياسة النقدية؛ أي كل ما يتصل بالمعروض النقدي، وهو تعبير فخيم يشير إلى كمية النقود المتداولة أو القابلة للتداول في الاقتصاد ما بما في ذلك أموال البنكنوت والودائع في البنوك وغيرها.

ويتعلق المعروض النقدي بقضايا تمس حياة الملايين اليومية لأن النقود وسيط أساسي لتبادل السلع والخدمات، كما أنها الأداة الأساسية التي نستخدمها للتعبير عن قيمة السلع والخدمات بما في ذلك الأصول، كالأراضي والعقارات وغيرها، ومن مهام النقود الأساسية اختزان القيمة في المستقبل.

ولا يقتصر الاهتمام بالأسعار فحسب على أسعار السلع والخدمات، ووتيرة ارتفاعها أو ما بتنا جميعًا نعرفه جيدًا بالتضخم، ولكنه يمتد إلى أسعار النقود نفسها ممثلة في أسعار الفائدة وأسعار الصرف لعملة في مواجهة أخرى.

ويمكن الجزم بأننا في مصر، والعالم بشكل عام، نعيش أزهى عصور الاهتمام الجماهيري بالسياسة النقدية، وبكل ما فيها من أسعار، فمن كان يتصور أن تتحول اجتماعات البنك المركزي المصري إلى مادة للمناقشات اليومية بين أناس عاديين يخشون ويرجون الكثير من جراء رفع سعر الفائدة أو تخفيض سعر الجنيه في مواجهة الدولار، وبما ينعكس في نهاية المطاف على معدلات التضخم.

أدت هذه الزيادة الكبيرة في المعروض النقدي إلى ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة على نحو غير مسبوق منذ الثمانينيات

 

بل بلغ الأمر بالبعض أن صاروا يهتمون بقرارات الفيدرالي الأمريكي بما أنها تؤثر في نهاية المطاف على الدولار الأمريكي، وهي العملة التي تتم بها غالب المعاملات الدولية في التجارة أو الاستثمار أو الاقتراض.

رفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة تسع مرات خلال السنة الماضية من نحو صفر  إلى ربع في المائة في مارس/آذار 2022 إلى ما بين 4.75 و5% في مارس 2023 علمًا بأن أسعار الفائدة كانت تتراوح بين صفر وربع في المائة طيلة سنتي جائحة كورونا (بين مارس/آذار 2020 ومارس 2022).

فماذا كان يعني انخفاض سعر الفائدة على الدولار وقتها؟

الإجابة بسيطة؛ كانت تكلفة الاقتراض سواء من أجل الاستهلاك أو الاستثمار منخفضة، بل ومنخفضة للغاية. وقد كان الفيدرالي الأمريكي يهدف من وراء ذلك إلى تنشيط الاقتصاد الأمريكي بما يخفف من وقع أزمة كورونا، وأثرها الانكماشي.

لكن أدت هذه الزيادة الكبيرة في المعروض النقدي إلى ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة على نحو غير مسبوق منذ الثمانينيات لتقترب من 9% في منتصف 2022. وهو رقم بالغ الارتفاع في اقتصاد بلغ متوسط التضخم السنوي فيه منذ 1983 وحتى 2021 نحو 2.69% فحسب. ولا تكمن مشكلة ارتفاع التضخم فقط في انخفاض القدرة الشرائية وتراجع الدخول الحقيقية مع عجز المستهلك عن شراء ذات القدر من السلع والخدمات بنفس الكمية من النقود، بل تمتد كذلك إلى إشاعة درجة كبيرة من عدم اليقين حول قرارات الاستثمار المستقبلية لأن التضخم يعني تدهورًا في قيمة النقود.

كأي بنك مركزي، واجه الفيدرالي الأمريكي التضخم برفع سعر الفائدة، وهو ما يرسل رسالة مفادها أنه من الأفضل عدم إنفاق النقود في الوقت الراهن لأن العائد المستقبلي عليها، ممثلًا في سعر الفائدة، سيكون مرتفعًا، وبالتالي يحقق الفيدرالي ما هدف إليه، وهو تقليص المعروض النقدي من الدولار بما يدفع بالتضخم نحو الأسفل. ومن هنا دخل الفيدرالي الأمريكي، ومعه العالم الذي يعتمد على الدولار كثيرًا، في نفق طويل من رفع سعر الفائدة على أمل تخفيض التضخم.

امتد التوسع في نشاط الاقتراض ليشمل أغلب الاقتصادات في العالم، بما فيها مصر ونحو خمسين أو ستين دولة

 

وقبل عدة أيام، هلت  أولى البشائر، وأظهرت البيانات الخاصة بالتضخم في الولايات المتحدة تراجعًا إلى 5% للمرة الأولى منذ سنة طويلة. إن هذه أول إشارة قوية لنجاح سياسة الفيدرالي في احتواء التضخم، ولكنها أتت بتكلفة اقتصادية، لأن ارتفاع أسعار الفائدة تعني ارتفاع تكلفة الائتمان، وبالتالي الاستثمار ومن ثم قدرة الاقتصاد على النمو والتشغيل.

ومع موجة الإفلاسات التي ضربت بعض البنوك الأمريكية متوسطة الحجم كبنك سيليكون فالي وفيرست ريبابليك بدأ يظهر للجميع أن هناك تكلفة كبيرة لرفع الفائدة على الدولار خاصة وأن العالم بأسره قد اعتاد على سعر فائدة منخفض منذ مطلع عقد الثمانينيات.

أتاح سعر الفائدة المنخفض، نتيجة لانخفاض معدلات التضخم طيلة تلك الفترة، ظروفًا مثالية للتوسع في الأنشطة المالية، خاصة أنشطة الاقتراض سواء من قبل الحكومات أو الشركات الخاصة أو المستهلكين.

وامتد التوسع في نشاط الاقتراض ليشمل أغلب الاقتصادات في العالم، بما فيها مصر ونحو خمسين أو ستين دولة من ذوي الدخل المتوسط بشرائحه المختلفة في قارات العالم الكثيرة، والتي وجدت فرصة مناسبة للاقتراض من أجل تمويل استهلاكها أو استثماراتها. 

ويشهد على هذا التوسع الهائل ما جرى في أسواق السندات، وهي أكبر أسواق للاستدانة في العالم، والتي قُدر حجم الدين فيها بنحو 133 تريليون دولار في 2022 أي نحو 129% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم. ويشمل ذلك السندات الحكومية وغير الحكومية، أغلبها مقوم بالدولار واليورو والين، ولكن كثيرًا منها مقومًا بعملات أخرى يتم تداولها محليًا في اقتصادات كالصين والبرازيل والهند.

وأسواق السندات على ضخامتها لا تمثل سوى سوقًا واحدة ضمن أسواق الاستدانة الكثيرة للغاية التي تشمل أذون الخزانة والأوراق التجارية قصيرة الأجل والرهن العقاري والقروض البنكية وغيرها وغيرها.

ونحن اليوم في مصر نجد أنفسنا بين مطرقة التضخم المرتفع وسندان رفع أسعار الفائدة، وما تنتجه هذه الورطة من انخفاض مستمر في قيمة الجنيه في مواجهة الدولار.

وأدى ضعف الجنيه مع ارتفاع التضخم والفائدة لزيادة تباطؤ الاقتصاد المصري، في وضع يطلق عليه الاقتصاديون ركودًا تضخميًا. ولا يبدو أن ثمة مخرجًا على المدى المباشر من هذا المأزق لا في مصر ولا خارجها إلا إذا هدى الله الفيدرالي الأمريكي للتوقف عن رفع سعر الفائدة مع ظهور بشائر انخفاض معدلات التضخم في الولايات المتحدة.  

هي حالة من التبعية، التي لا تجعل للكثير من دول العالم خاصة ذات الاقتصادات الهامشية مساحة للتحكم في مصائرها، بل وتجعل حظوظها في النمو أو الركود وصولًا إلى الإفلاس مرهونة بسياسة مكافحة التضخم داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه التبعية لها جذور هيكلية بالطبع مرتبطة بما ننتجه ونصدره ونستورده واعتمادنا على الاستدانة من الخارج لتمويل عجز خارجي مزمن.

ولكن فاقم من هذه التبعية إدمان الاستدانة مع انخفاض أسعار الفائدة وتوسع أسواق المال خلال العقود الأخيرة بشكل أتاح لبلدان مثل مصر إدارة مشكلات التبعية من خلال الاندماج شيئًا فشيئًا في أسواق المال العالمية من أجل الاستدانة أو البحث عن مستثمرين في ديونها الحكومية كما يحلو للبعض تسميتها، ومن بين تلك الدول تركيا والإكوادور والمكسيك والأرجنتين وسريلانكا وباكستان.

يؤمل أن تسهم السيطرة على التضخم في الولايات المتحدة وبالتالي خفض أسعار الفائدة في تحسين شروط التبعية النقدية والمالية للكثير من الاقتصادات في الجنوب العالمي (وهو الاسم الشياكة للاقتصادات الهامشية)، ومصر من ضمنها.

وللحد من هذه التبعية هناك حاجة لتبني سياسات طويلة الأجل تعالج مصادر الاختلالات المالية أو للتعاون الدولي بين هذه الدول المدينة لتحسين وضعها الجماعي في أسواق المال، أو بالبناء الهادف على اتجاهات بعض الاقتصادات الكبرى مثل الصين ولكن كذلك اقتصادات أصغر مثل البرازيل وجنوب إفريقيا والهند وبالتأكيد روسيا، لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في المعاملات الاقتصادية العالمية.