في بداية الستينيات كان سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري حوالي 30 قرشًا طبقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، وفي بداية العام الحالي ارتفع سعر صرف الدولار إلى أكثر من 30 جنيهًا. حدث هذا الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه على الرغم من التوجه الضمني السائد تاريخيًا للسياسة الاقتصادية في مصر، القائم على استهداف تثبيت سعر الصرف.
في هذا المقال* أحاول تفنيد الخطوط الرئيسية للتوجهات الاقتصادية التي تم تطبيقها خلال الجولة الحالية لتراجع قيمة الجنيه، وما تنطوي عليه من أوهام يمكن تلخيصها تحت تصور رئيسي، وهو القدرة على تثبيت سعر الصرف، والذي يبدو أقرب لمحاربة طواحين الهواء.
الوهم الأول: قيود الاستيراد مع استثناء مستلزمات الإنتاج هي الحل
مع تفاقم أزمة نقص تدفقات العملات الصعبة بدءًا من العام الماضي، اتجه البنك المركزي لفرض قيود على الاستيراد من خلال وقف التعامل بنظام مستندات التحصيل، وكان أول رد فعل لذلك هو ارتفاع الأسعار نتيجة نقص السلع المتاحة محليًا وبالرغم من ثبات سعر الصرف.
وفي محاولة لتخفيف أثر هذه القيود تم التوجيه عبر استثناء مستلزمات الإنتاج المستوردة من هذه الإجراءات، على أمل أن يسهم ذلك في زيادة المعروض من السلع ومن ثم تقل الضغوط على الأسعار.
لكن الضغوط التضخمية استمرت لأنه وحتى بافتراض أن عملية الإنتاج تتم بشكل لحظي وفوري فكل الطاقات المحلية لا تستطيع تغطية كافة احتياجاتنا. وبالتالي يظل هناك نقص في السلع والخدمات المتاحة محليًا، وبالتبعية ترتفع الأسعار عما كانت عليه قبل فرض القيود على الاستيراد، رغم ثبات سعر الصرف.
أضف الى ذلك أن القيود على الاستيراد تساهم في استنزاف المخزون من السلع، ما يخلق طلبًا مكبوتًا سرعان ما ينطلق مع أي فرصة لفتح الاستيراد، على سعر الصرف نفسه، وهو ما يزيد من ضغوط الطلب على الاستيراد.
ومع مصاعب تدبير العملات الأجنبية، لا يقدر بعض المستوردين على الانتظام في الدفع، ما يؤثر على علاقتهم بالمورِّد الأجنبي ويكبدهم غرامات، أو يضطرهم للشراء بسعر بيع أعلى أو بدون تسهيلات، ويؤدي كل ذلك إلى المزيد من الضغوط على الأسعار وعلى سعر الصرف.
وتساهم القيود على الاستيراد في تشجيع الوحدات الاقتصادية المختلفة على ممارسات بعيدة عن النشاط الرئيسي والإنتاج، لتتحول كثير منها إلى نشاط أقرب للصرافة.
وبالتالي، كانت محصلة القيود على الاستيراد أسعارًا محليةًا أعلى وضغطًا أكبر على سعر الصرف وإنتاجًا مضطربًا. وهو ما شهدناه خلال 2022 ما قاد البنك المركزي إلى رفع هذه القيود في بداية العام الجاري، واضطر إلى تحريك سعر الصرف ثلاث مرات في مارس/آذار و أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ثم مرة ثانية في يناير/كانون الثاني من العام الجاري، رغم كل القيود التي فرضها في 2022.
الوهم الثاني: لا يمكن تحريك سعر الصرف إلا بعد توافر سيولة أجنبية
على مدار 2021 و2022 انخفض فائض صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك والبنك المركزي من حوالى 20 مليار دولار في فبراير/شباط 2021 الى حوالى 0.6 مليار دولار في يناير 2022، ثم تحول هذا الفائض إلى عجز فيما بعد (أي أن التزامات القطاع المصرفي تجاه غير المقيمين أصبحت أكبر من أصوله لدى غير المقيمين)، ومع ذلك كان استمر التمسك بسياسة الحفاظ على مستوى سعر الصرف، على أمل أن تتحسن تدفقات النقد الأجنبي للبلاد دون الحاجة الى تحريك كبير للجنيه.
لكن ذلك لم يؤت ثماره فقد استمر ارتفاع عجز صافي الأصول الأجنبية ليسجل عجزًا بنحو 25 مليار دولار في شهر مارس من العام الحالي طبقًا للأرقام المنشورة، وتجددت مشكلة تأخر الإفراج عن البضائع العالقة في المواني، على الرغم من المساعدات المالية الخليجية التي تلقيناها خلال 2022.
ولن يختلف مصير أي تدفقات جديدة للعملة الأجنبية عن سابقتها طالما يتم اتباع نفس السياسة بهدف الحفاظ على سعر الصرف عند مستوى معين، ويستحيل بناء السيولة المطلوبة لإعادة التوازن في صافى الأصول الأجنبية لنتمكن من تحريك سعر الصرف من موقع قوة! بل بالعكس، يزداد الضغط على سعر الصرف مع تأخير وبطء الحركة ونضطر الى تحريك سعر الصرف ولكن من موقع ضعف!
الوهم الثالث: المشكلة في العرض وليست في الطلب
حينما يتوقع الأفراد والشركات ارتفاع جديد/ شديد في الأسعار (بما فيها الزيادة الناتجة عن تحريك سعر الصرف) في المستقبل، فمن الطبيعي أن يقوم الأفراد والشركات بزيادة إنفاقهم لاستباق الزيادة المتوقعة في الأسعار، وبالتالي تتحول هذه التوقعات الى ضغط فعلي من جانب الطلب المحلي على الأسعار وعلى سعر الصرف.
ويعكس الطلب القوي مؤخرًا على الذهب في مصر مثالًا على تأثير التوقعات على الطلب والأسعار، ما يوضح أن الضغوط التضخمية والطلب على العملات الصعبة نابعة بالأساس من الطلب الآتي من المستهلكين والمنتجين بالإضافة إلى الإنفاق الحكومي، كما تساهم هذه التوقعات المرتفعة في مبالغة البائعين في أسعار المنتج النهائي للتحوط أيضًا، خاصة وأن زيادة الطاقة الإنتاجية مقيدة بسبب مشكلات نقص العملة وتشوهات النشاط الاقتصادي.
الوهم الرابع: الحل التدريجي
سادت تصورات لدى بعض الخبراء وصناع القرار عن إمكانية التحكم في وتيرة تخفيض قيمة العملة المحلية في ظل عدم وجود سيولة كافية تجنبًا لسيناريو الصدمة، لكن انخفاض قيمة الجنيه في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي ثم تثبيته لم يجنبنا تخفيضه مرة ثانية في يناير/كانون الماضي، فمع كل خطوة متأخرة تقل الثقة والمصداقية وتصعب تهدئة التوقعات.
وهذا ما نراه يتجسد حاليًا من خلال الارتفاعات المتداولة لسعر الدولار في السوق غير الرسمية واستمرار فروق أسعار شهادات الإيداع الدولية والإقبال الكبير على شراء الذهب داخليًا، وامتداد النظرة التشاؤمية لتشمل تحليلات كثير من بنوك الاستثمار الكبرى للوضع الاقتصادي في مصر وإحجام المستثمرين الأجانب عن شراء الأصول المصرية. وهي كلها انعكاسات للتوقعات الراهنة بانخفاض مرتقب لقيمة الجنيه تأخر تنفيذه.
وبالتالي تتأخر بالتبعية فرصة تدفقات العملة الأجنبية في السوق الرسمي انتظارًا لسعر صرف أفضل، وهكذا دواليك، وكلما تأخرنا أو ترددنا ترتفع تكلفة استعادة الثقة وإعادة الأمور الى نصابها.
الملخص أنه على مدار أكثر من ستين عامًا استخدمنا كافة الحركات والبركات والأفكار خارج الصندوق لتثبيت سعر الصرف، والنتيجة واحدة وواضحة. والنظرية وتجارب الدول، بما فيها تجربتنا، أيضًا تبين أننا لن نستطيع بناء قواعد صناعية وتصديرية أو جذب استثمارات أجنبية مباشرة في ظل استنزاف مواردنا وجهدنا في محاولات تثبيت سعر الصرف عند مستوى معين بالعافية، وإلا مكانش بقي ده حالنا.
* الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر الجهة التي ينتمي إليها.