في افتتاح قمة مجموعة بريكس قبل يومين، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حديث متلفز ليقول إن الحد من استخدام الدولار بات أمرًا لا رجعة فيه، مستعرضًا بيانات عن القوة الاقتصادية للدول الأربعة القائدة لهذه المجموعة، التي تناطح العالم المتقدم ممثلًا في مجموعة السبعة الكبار.
قد يبدو حديث بوتين مثيرًا للسخرية، فهو يعلن طموحاته عبر حديث مسجل، إذ يخشى السفر إلى مقر انعقاد القمة في جوهانسبرج (جنوب إفريقيا) بسبب اتهامه بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وقد يبدو حديثًا ملهمًا أيضا كون الاجتماع الخامس عشر للمجموعة يأتي في سياق مؤشرات فعلية على أن هيمنة الدولار في تراجع.
تنبع أهمية القمة، التي تختتم أعمالها اليوم، من أنها تأتي في وقت تقوم فيه المجموعة التي أسستها روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، بتوسيع عضويتها، ولذلك أعلنت خلال القمة عن قبول مصر وخمس دول أخرى كأعضاء دائمين.
وتتطلع البلدان المنضمة حديثًا لـ"بريكس" لإيجاد وسائل للتجارة بغير الدولار، بعد ارتفاع قياسي للفائدة الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة. فما هي حلول "بريكس" لتجاوز الأزمة؟ وما مدى واقعيتها؟
لماذا يتحدثون عن تراجع الدولار؟
منذ أن بدأت الولايات المتحدة في 2022 في رفع أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة، والصحافة العالمية تتداول خطابات صادرة عن البلدان النامية عن ضرورة الحد من الدولرة De-dollarization.
والصوت الأبرز في هذا الخطاب للرئيس اليساري للبرازيل، لولا دا سيلفا، الذي وضع مسألة التحرر من الدولار على رأس المعارك التقدمية التي يريد أن يدفع بها للأمام.
وعبر عن اهتمامه البالغ بالأمر في خطاب له في الصين أبريل/نيسان الماضي قال فيه " كل مساء أسأل نفسي لماذا كل الدول مضطرة لأن تتاجر على أساس الدولار ؟".
يمكننا أن نفهم المناطحة الخليجية للولايات المتحدة في سياق ما تبديه السعودية من رغبة في استقلالية أكثر أمام واشنطن
وزاد من هذا الزخم العقوبات الواسعة التي فرضها الغرب على موسكو في أعقاب العدوان الروسي على أوكرانيا، والتي استهدفت الحد من الدخل الأجنبي لروسيا، مثل امتناع الاتحاد الأوروبي عن استيراد الطاقة منها والتنسيق دوليًا لوضع حد أقصى لسعر البرميل الروسي، وطردها من النظام الدولي للمراسلة بين البنوك (سويفت)، وهو ما يُعطل قدرة موسكو على الاندماج في التجارة الدولية.
لكن بغض النظر عن طموحات بعض السياسيين في مناطحة الهيمنة الأمريكية، تُشير مؤشرات إلى أن سيطرة الدولار على المعاملات الدولية لم تعد كما كانت في عصرها الذهبي، وذلك مع اتجاه الاقتصاد العالمي لأن يكون متعدد الأقطاب، خاصة بعد صعود الصين.
تحدث عن هذا التراجع بنك جي بي مورجان الأمريكي، في تقرير في يونيو/حزيران الماضي، واستشهد على ذلك بأن العملة الأمريكية باتت تمثل 58% فقط من احتياطات النقد الأجنبي العالمية، وهو انخفاض قياسي عن مستويات سابقة.
وبينما لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على نصيبها في معاملات النقد الأجنبي، إذ تسيطر على 88% منها، يُشير البنك إلى خطوة المفاوضات الدائرة بين السعودية والصين حول إمكانية أن تبيع الأولى النفط للثانية بعملة غير الدولار.
تمثل مفاوضات السعودية تحولًا تاريخيًا في نظر بعض الباحثين، الذين يعتبرون أن سطوة الدولار تأسست على اتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة في السبعينيات بأن لا تبيع السعودية نفطها بغير العملة الأمريكية.
ويمكننا أن نفهم هذه المناطحة الخليجية للولايات المتحدة في سياق ما تبديه المملكة من رغبة حالية في الوقوف في موقع أكثر استقلالية أمام واشنطن، بدا ذلك واضحًا في تحديها الصريح للمطالب الأمريكية بزيادة الإنتاج وخفض الأسعار في 2022.
ما هي حلول بريكس؟
ولفهم كيف تستغني الدول عن الدولار في المعاملات الدولية، نحتاج للنظر بشكل أكثر تفصيلًا إلى بعض آليات التعامل بين دول الـ"بريكس"، التي تقدمها المجموعة كحلول لباقي الدول لمواجهة الارتفاع الحالي لتكلفة الحصول على الدولار.
واحدة من أكثر الآليات شيوعًا التي تروج لها الصين بكثافة هي خطوط المبادلة بين اليوان الصيني والعملات المحلية، وانتشرت هذه الآلية بقوة خلال آخر عقدين ضمن محاولات الصين لتدويل عملتها المحلية، بحيث تتيح منحها للدول التي تستورد منها كي تستورد بضائعها باليوان بدلًا من الدولار.
أونيل: المجموعة لم تقم بشيء ذا جدوى منذ تشكيلها، وتبدو فكرة تأسيس عملة موحدة "سخيفة"
ويُقبل بلد مثل الأرجنتين بقوة على استخدام هذه الآلية، مع تجديد عقد مبادلة للعملات مع الصين في يونيو بقيمة عشرة مليارات دولار، بجانب سماحه بفتح حسابات باليوان في بنوكه المحلية، في ظل ما تعانيه البلد من ضعف عملتها أمام الدولار ما اضطرها لرفع الفائدة مؤخرًا إلى 118%.
ومن المبادرات المطروحة أيضًا ما قامت به البرازيل في مارس/آذار الماضي، مع توقيعها اتفاقًا لتأسيس نظام لتسوية معاملاتها التجارية مع بكين باليوان الصيني، كما تتجه البرازيل للانضمام لنظام الربط المصرفي مع الصين بديلًا عن نظام سويفت.
وهناك فكرة أن يتم استخدام عملات محلية غير متداولة دوليًا ضمن حافظة تمويلات بنك التنمية الجديد، التابع للـ"بريكس"، فقد طرح البنك قبل أيام سندات بعملة جنوب إفريقيا، وأعلن خلال القمة عن طرح سندات أخرى بالعملة الهندية.
وقالت رئيسة البنك، الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف، خلال القمة إن البنك يطمح لأن يكون على الأقل 30% من تمويلاته مقومة بالعملات المحلية.
وهناك الطموح الأكبر لدول "بريكس"، وهو أن يتطور ذلك الاندماج النقدي والتجاري لدرجة شبيهة بما جرى في الاتحاد الأوروبي، بحيث تقدر المجموعة على إصدار عملة خاصة بها.
الاقتصادي جيم أونيل، الذي سبق وأن صك اصطلاح "بريكس" على مجموعة الدول الأربعة، قال في تصريحات أخيرة للفاينانشال تايمز إنه يرى أن المجموعة لم تقم بشيء ذا جدوى منذ تشكيلها، وأنه يرى أن فكرة تأسيس عملة موحدة "سخيفة".
لكن مجلة فورين بوليسي رأت في تقرير قبل أشهر أن هناك عوامل تدعم هذه العملة، فدول هذه المجموعة تتمتع بفائض تجاري، أي أنها تستطيع أن تكتفي ذاتيًا عن العالم الخارجي وتتداول نشاطها التجاري فيما بينها، كما أنها ليست دولًا واقعة داخل حدود ضيقة مثل الاتحاد الأوروبي ولكن منتشرة في بقاع عدة من العالم، ما يجعل إنتاجها السلعي شديد التنوع.
ما الذي تستفيده مصر من الانضمام لـ"بريكس"؟
لا تُعد آليات التمرد على عملات العالم المتقدم شيئًا جديدًا على مصر، فالبلد مشهور بصفقة أبرمها مع الاتحاد السوفيتي في 1948 على أساس نظام مقايضة السلع، وهي واحدة من أولى الاتفاقات المبرمة من هذا النوع الذي يطلق عليه "التجارة المضادة".
تُعزز عضوية مصر في "بريكس" من قدرتها على استخدام آليات للفكاك من السيطرة التامة للعملات الصعبة
وقد نشأت أشكال التبادل التجاري بغير العملات الدولية لأسباب عدة، منها أزمة الكساد الكبير، وكذلك عدم اندماج دول الكتلة الشرقية في نظام بريتون وودز الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
ولأن مصر كانت من الدول التي تعاني من ضعف إيراداتها من العملات الصعبة، توسعت بشدة في المتاجرة في الستينيات والسبعينيات بنظام الاتفاقات الثنائية للتجارة والدفع، وهو نظام يدعم فكرة المتاجرة بغير استخدام العملة الصعبة أو باستخدامها في نطاق محدود.
ومع اشتداد الأزمة المالية للدول النامية، وفي مصر أيضًا، خلال الثمانينيات، التي نتجت عن انخفاض أسعار النفط، أحد مصادر الإيراد لهذه الدول مع ارتفاع قوي في الفائدة الأمريكية، أقبلت مصر مثل العديد من البلدان على أساليب التجارة المضادة في محاولة لإيجاد حلول لمشكلة العملة الصعبة.
لكن أدوات التجارة المضادة انحسرت بقوة خلال العقود التالية، مع انهيار الاتحاد السوفيتي واندماج الكتلة الشرقية و مصر في العولمة المالية الجديدة.
ومع عودة الحديث عن التمرد على الدولار، ظهرت العديد من المبادرات المصرية للعودة لهذا المسار، منها الاتجاه لشراء القمح من رومانيا أو الهند بنظام أشبه بالمقايضة، فيما تسعى لشراء هذه السلعة من روسيا بالعملة المحلية.
وتحدث مجلس الوزراء هذا العام عن السعي لإبرام اتفاقات تجارية مع دول إفريقية بنظام الصفقات المتكافئة، وهو التعبير المستخدم للحديث عن أشكال من التجارة المضادة، وقال وزير الصناعة إن مفاوضات تمت مع رواندا لتسوية المدفوعات تحت هذا النظام.
وتعمل الحكومة حاليًا على تنفيذ صفقة متكافئة مع إندونيسيا لكي تكون نموذجًا يتم اتباعه فيما بعد، وتحت هذه الصفقة سترسل لنا شركة إندونيسية حبوب القهوة وسنعطيها في المقابل تمورًا.
كما أن البنك المركزي لمصر ينفذ بالفعل عمليات تبادل للعملات مع الصين، وتصل قيمة هذه الصفقات في الوقت الراهن إلى 2.6 مليار دولار وتندرج تحت الديون الخارجية قصيرة الأجل.
باختصار، ما ستستفيده مصر من عضويتها في "بريكس" هو تعزيز قدرتها على استخدام آليات للفكاك من السيطرة التامة للعملات الصعبة، فقد أصبحت جزءًا من مجموعة دول كلها تعاني من نفس الهم، وعلى رأسهم كيان ضخم مثل الصين يريد أن يحول تفوقه التجاري إلى تفوق مالي أيضًا.
وستساعد هذه الآليات، إن نجحنا في تطبيقها، في التقليل من حدة الأزمة الراهنة مع ارتفاع ما تتحمله مصر من تكلفة للاقتراض بالعملات الصعبة.