يستخدم المثل الشعبي "نقول تور (ثور) يقولوا احلبوه"، في الإشارة لأي سلوك غير منطقي يستحيل أن يُحقق الهدف منه، إذ أن الثور، ذكر البقر، كباقي الذكور من الثدييات لا يُدِرُّ لبنًا، ما يجعل محاولة حلبه بلا طائل.
في هذا السياق، أطلقت الحكومة المصرية مبادرة "تصدير العقار" في أغسطس/آب الماضي، وهو تعبيرٌ يقصد به بيع العقارات، من وحدات سكنية أو إدارية أو تجارية، إلى أجانب بما يُوفر عائدًا من النقد الأجنبي.
يُميز الاقتصاديون بين القطاعات والأنشطة الاقتصادية بحسب علاقتها بالتجارة الدولية، أي قابلية أي نشاط أو قطاع لإنتاج سلع أو تقديم خدمات يمكن تصديرها أو استيرادها، فتصبح جزءًا من التجارة العالمية، مثل ما تنتجه المزارع من محاصيل، أو المصانع من سلعٍ أولية أو مصنعة، وبعض الخدمات المصرفية والسياحية وغيرها.
ومن هنا كان التمييز بين ما يُسمى بقطاعات قابلة للتداول، وأخرى غير قابلة للتداول، أي ليس ممكنًا تداولها خارج الحدود.
قفزة القطاع العقاري
بديهي أن التشييد والبناء نموذج تقليدي لقطاع غير قابل للتداول. ليس ممكنًا تبادل الوحدات السكنية أو الإدارية أو المرافق المرتبطة بها خارج الحدود. لذا فإن أسواق البناء أو ما يُعرف بالأسواق العقارية تكون محلية بالضرورة، إلا فيما ندر.
استوعبت قطاعات التشييد والبناء والخدمات المرتبطة بها من تسويق عقاري، القسم الأكبر من الاستثمارات العامة والخاصة في مصر خلال السنوات القليلة الماضية. في السنوات العشر الماضية، قفز الوزن النسبي للقطاع العقاري ونشاط التشييد في الناتج المحلي المصري من 13.1% في 2011، إلى 19% في 2021/ 2022، أي بزيادة 5%.
نسبة الرهن العقاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر لا تتجاوز 1% مقارنة بـ9% في البرازيل
أسهم هذا التوسع في رفع معدلات النمو وخلق فرصًا للعمل، وأدى لتنشيط الصناعات المغذية للتطوير العقاري مثل الحديد والصلب والإسمنت والزجاج والألومنيوم والطوب. ولكن لأن منتجات التشييد غير قابلة للتداول، أي لا تولد صادرات ولا تنافس واردات، لم تنعكس التطورات الإيجابية الجارية فيه على الوضع الخارجي، لا بتخفيض العجز في الميزان التجاري ولا بتحسين وضع الميزان الجاري.
ويكفي أن نعلم أن نسبة الصادرات السلعية والخدمية من الناتج المحلي الإجمالي تراجعت في المتوسط من 28.3% خلال الفترة من 2004 لـ2010، إلى 13.91% في الفترة من 2015 لـ2022، ما يعكس ضعف الاستثمار في القطاعات القابلة للتداول في السنوات الأخيرة.
إنه ثور!
وتحقيقًا للمثل الشعبي أعلاه، وفي خضم أزمة النقد الأجنبي الحالية، والناتجة عن عجز كبير في الموازين التجارية والجارية والمدفوعات، تتجه جهود الحكومة إلى التماس الحل في قطاع هو بحكم طبيعته غير مشارك في التجارة الدولية على أي نطاق يُذكر.
إن أسواق العقار في مصر بالغة المحلية، كغيرها في أغلب بلدان العالم، سواء من حيث التنظيم أو التمويل أو المبيعات. فعلى سبيل المثال؛ يعتمد الشق الرئيسي من التمويل على نظام "أوف بلان"، وبموجبه تُباع الوحدات على الورق قبل بنائها، وهو ما يعرف بالحجز، بما يسمح باستخدام مساهمات أو أقساط المشترين على مدى سنوات تزيد وتقصر لتمويل عملية البناء نفسها.
هكذا تعمل شركات التطوير العقاري بما فيها أكبرها، وهكذا ينتظم المنتجون والمستهلكون والمعلنون والمسوقون العقاريون في مصر. بناء الوحدات العقارية ثم تمويل بيعها وشرائها أمر غير متعارف عليه في بلادنا.
ويشهد بهذا أن نسبة الرهن العقاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر لا تتجاوز 1%، مقارنة بـ9% في البرازيل و12.2% في الهند، و23.7% في الإمارات العربية عام 2019، أخذًا في الاعتبار أن هذه النسبة بالغة التدني سُجلت بعد نحو عشرين سنة من تمرير قانون الرهن العقاري عام 2001.
من سيشتري العقار المصري؟
إذا كان الغرض هو تصدير العقار على نطاق واسع، لجذب نقد أجنبي يسهم في سد الفجوة التمويلية، المقدرة بنحو 17 مليار دولار لأربع سنوات مالية من 2023 إلى 2026، فإن هذا يفترض بيع عدد كبير وبشكل منتظم من الوحدات العقارية لأجانب بالعملة الصعبة. فكيف سيتم دمج هؤلاء في سوق عقارية منظمة على أساس الأوف بلان؟ ومن سيكون هؤلاء المشترون بغرض الاستثمار، وربما السكن؟
كان أيسر منذ البداية اختيار قطاعات إنتاجية قابلة للتداول تنتج سلعًا وخدمات قابلة للتصدير
الأشقاء في الخليج العربي مرشحون بالطبع للقيام بهذا الدور، فهم يملكون فوائض مالية ضخمة تجعلهم يبحثون عن أصول مادية ومالية. ألم يفعلوا هذا في لندن وباريس وسنغافورة وهونج كونج ودبي وفلوريدا ونيويورك وسان فرانسيسكو؟
ربما، ولكن هل ترى مدنًا مثل القاهرة في تلك القائمة الفخمة؟ هل هناك ما يجعلها جاذبة رؤوس أموال على شكل أصول ثابتة مرتفعة القيمة؟
ربما يكون هناك طلب حقيقي على السكن من أجانب في مصر، يقبلون الدفع بالعملة الصعبة، خاصة النازحين واللاجئين من دول عربية وإفريقية شقيقة، انتهى بهم المطاف في مصر، من بينهم عائلات أو أفراد ينوون البقاء هنا والاستثمار، أو على الأقل السكن المستقر، خاصة السوريين والسودانيين واليمينيين.
لكنَّ تصوري أن دمج هؤلاء في السوق العقارية سيكون مختلفًا عما يدور في أذهان المسؤولين بشأن مبادرة تصدير العقار، سواء في شكل الطلب، أو القدرة التمويلية، أو شروط التمويل، أو القواعد القانونية والإجرائية الحاكمة لتملك الأجانب لوحدات عقارية، بما في ذلك الأرض.
ربما كان أيسر منذ البداية اختيار قطاعات إنتاجية قابلة للتداول، تنتج سلعًا وخدمات قابلة للتصدير، أو على الأقل قادرة على منافسة الواردات فتحل محلها، خاصة مع الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه، وما يوفره من طلب على بدائل محلية لمدخلات إنتاج مستوردة.
أما أن يكون البديل هو أن نصُبَّ القسم الأكبر من الاستثمارات في قطاع كالتطوير العقاري والبناء والتشييد، هو بحكم طبيعته وفي أغلب بلاد العالم يلبي طلبًا محليًا، ثم نحاول أن نغير من طبيعته بأن نجعله تصديريًا، فهذا أمر غير متعارف عليه على أقل تقدير.