طالما اخْتلَفتُ مع أصدقاء كُثُر يرددون بثقة بالغة أن "الأمريكان كلهم زي بعض"، وهم يشيرون إلى انعدام الفوارق بين الديمقراطيين والجمهوريين لأن الجميع يطبق سياسة مرسومةً سلفًا. يقتصر هذا التقييم على النظر فقط إلى الدعم الأمريكي الأعمى للكيان الصهيوني، مع تجاهل الاتساع والتعقيد والتنوع الكبير للدولة الممتدة على مساحة شاسعة تستوعب أكثر من 330 مليون نسمة متعددي الأعراق.
ولكن الحقيقة أن الولايات المتحدة تموج بالصراعات والخلافات الداخلية الحادة بشأن هويتها، وكذلك الاتجاه الذي يجب أن تسلكه في علاقاتها بالعالم، إذا كان عليها الالتفات إليه أصلًا، في ضوء قناعة قطاع من المحافظين البيض أن لدى أمريكا ما يكفي من الثروات والإمكانات لتعيش منعزلة عن ذلك العالم الذي يحاول توريطها في صراعات لا تخدم مصالحها بالضرورة.
ومقابل هذه المدرسة المعروفة بـ"الانعزالية"، يوجد تيار آخر يرى في الانفتاح على العالم خدمةً لمصالحها وتوسيعًا لنفوذها وتأثيرها. وإذا كان من يؤيدون هذا الانفتاح في المعسكر اليميني يفضلون أسلوب الكاوبوي واستعراض القوة العسكرية الهائلة كأسلوب وحيد لفرض النفوذ في مواجهة منافسين كبار مثل الصين وروسيا، فإن من يوصفون بـ"الجناح التقدمي" يدعمون أن يكون انفتاح بلادهم على العالم من منطلق دعم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بتسويق النموذج الأمريكي كنموذج ناجح نسبي في هذا الصدد.
وبعيدًا عن مشاكل العالم، فإن التناقضات العديدة بين نموذجي هاريس وترامب، كمرشحين للرئاسة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبلة الساخنة، تعكس حجم الانقسام الحاد القائم في المجتمع الأمريكي منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، الذي عززه انتخاب أوباما ليصبح أول رئيس أمريكي أسود.
بعد هجمات سبتمبر رأى المحافظون الجدد في واشنطن أن الرد المناسب الوحيد عليها أن تضرب الولايات المتحدة بكل قوة وعشوائية، فاحتلت أفغانستان ثم العراق لتردع أي هجمات مماثلة في المستقبل.
أما انتخاب أوباما؛ التقدمي الأسود، فقد استفز اليمين الأمريكي وغالبية أنصاره من البيض، الذين كانوا يقبلون على مضض كليشيهات أن الولايات المتحدة هي الوعاء الذي تذوب فيه كل جنسيات العالم، طالما بقيت معهم مفاتيح وأدوات السيطرة على القوة العظمى الوحيدة في العالم.
حشد اليمين صفوفه لاستعادة موقعه بداية بتشكيل ما عرف بـ حزب الشاي، انتهاءً ببروز دونالد ترامب كنموذج لكل ما في الشعبوية الأمريكية من عنصرية وخوف من المهاجرين والإيمان أن أمريكا بناها البيض بسواعدهم، دون الالتفات إلى استغلال ملايين العبيد السود والمهاجرين. بالتالي، فهم وحدهم من يستحقون مواقع القيادة والسيطرة.
كما أن الانقسامات الداخلية لا تتعلق فقط بالخلفيات العرقية، بل تشمل كذلك قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية، مثل المواقف من حق المرأة في الإجهاض الذي ينكره المحافظون، والنقاشات بشأن الهجرة بالذات من دول أمريكا اللاتينية والوسطى حيث يرغب التقدميون في الانفتاح على الوافدين بشكل قانوني بينما يرغب المحافظون في بناء الجدران. كما يشكل الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والسكن نقطة خلاف أخرى تتعلق بالموقف من حماية الطبقات الأكثر فقرًا.
هاريس تقلب الموازين
كان الاعتقاد السائد حتى انسحاب جو بايدن الشهر الماضي من سباق الانتخابات المقبلة أن التيار التقدمي يسير بقدرية شديدة نحو سقوط هائل وخسارة فادحة. فأكثر من ثلثي الأمريكيين يرون أنه لا يصلح رئيسًا بسبب حالته الصحية وشيخوخته وتعدد هفواته. وجاءت مناظرته ضد ترامب لتعزز ذلك الاعتقاد، وتقنع قادة الحزب الديمقراطي بتشديد الضغوط عليه لينسحب، بعد فقدان الحد الأدنى من الأمل في الاحتفاظ بمفاتيح البيت الأبيض.
ورغم أن كامالا هاريس، بحكم منصبها نائبة للرئيس، لم تكن معروفة بالنسبة لكثير من الأمريكيين، واعتُبرت شخصية هامشية حال معظم من شغلوا هذا المنصب، فقد تمكنت من تحقيق معجزة حقيقية، بتحفيز قواعد حزبها خلال أقل من شهر، وإشعال حماسهم ليخوضوا معركة شديدة الصعوبة، بعد أقل من ثلاثة أشهر.
عماد هذا الحماس هم الشباب الذين أقبلوا بشكل مذهل على حضور مؤتمرات هاريس وأنشطتها الانتخابية وجمع التبرعات لصالحها، وهم من رفضوا المشاركة في حملة بايدن قبل انسحابه.
نفس هؤلاء الشباب هم من رفضوا على نطاق واسع سياسة بايدن "الصهيوني الفخور" الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل، وطالبوا بالوقف الفوري لحرب الإبادة في غزة، وضغطوا على القائمين على حملة هاريس لاستبعاد حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو من الترشح نائبًا لها، ليس لأنه يهودي، لكن لأنه دافع عن ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين، بالإضافة إلى تطوعه في شبابه جنديًا في جيش الاحتلال.
كما سرت حالة الحماس منقطع النظير في أعقاب ترشح هاريس بين أوساط الأقليات، على رأسهم السود الأمريكيون، الذين استفزتهم تصريحات ترامب بأن هاريس ليست في الواقع من أصول إفريقية بل هندية، بحكم أن والدها من جامايكا وأمها من الهند.
ووفق القوانين الأمريكية العنصرية التي كانت سائدة حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، وتمنع التزاوج بين السود والبيض، فإن الأمريكيين السود يعرفون جيدًا أنه طالما كان الأب من أصول إفريقية، فسيكون من السود وإن كانت الأم ناصعة البياض بشعر أشقر وعيون زرق.
هاريس، رغم أجندتها التقدمية التي تخيف الجناح المحافظ المؤثر في الولايات المتحدة، تمثل عمليًا كل ما يمكن أن يحبه الغرباء من المهاجرين في الولايات المتحدة، فهي تمنحهم الأمل في أن بإمكانهم أيضًا تحقيق مسار النجاح نفسه لو عملوا بجد واجتهاد كما فعلت هي.
ورغم أنها لن تكون قادرة على إحداث تغيير جذري في السياسة الأمريكية الراسخة في دعم إسرائيل، إذ تمتد لتشمل العديد من المؤسسات الحاكمة والنافذة، فإنها على الأقل أكثر انفتاحًا للاستماع إلى قصة الطرف الفلسطيني والإقرار بأنهم أيضًا بشر لديهم حقوق تُنتهك يوميًا.
يرى كثير من المحللين أن المرشحة الديمقراطية السابقة لمنصب الرئاسة هيلاري كلينتون لم تفشل في الانتخابات لأنها امرأة، بل لأن شباب الحزب الديمقراطي وجناحه التقدمي لم يُقبِلوا على دعمها بنصف هذا الحماس البالغ الذي نراه اليوم.
لكن معركة هاريس لن تكون سهلة بكل تأكيد، في ظل حالة الانقسام والاستقطاب القائمة في المجتمع الأمريكي. وسيبقى التحدي الأكبر أمامها هو تقبل قطاع من الأمريكيين البيض الموصوفين بـ"المعتدلين" أن تكون رئيستهم ليس فقط امرأة، بل أيضًا من أصول إفريقية/هندية.
أحد استطلاعات الرأي أشار إلى أن نحو 54% من الأمريكيين يتقبلون أن تكون رئيستهم امرأة. صحيح أن هذه النسبة تشكل أغلبية، لكن في إطار النظام الأمريكي الانتخابي المعقد سيكون مهمًا للغاية معرفة في أي ولايات يتركز الرافضون لانتخاب امرأة من الأقليات لهذا المنصب المهم، فهؤلاء من سيحددون فرص هاريس في الخامس من نوفمبر.