ساعات ونعرف الفائز في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تجري وقائعها اليوم الثلاثاء بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس نائبة الرئيس، والرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب. ولكن أيًا كانت هوية ساكن البيت الأبيض القادم، فإنه لن يُنهي (أو لن تُنهي) حالة الانقسام المجتمعي الحاد بشأن هوية ومستقبل الدولة/القارة التي ينتمون لها.
فهل ستبقى أمريكا وعاءً يذوب فيه المهاجرون من كل أنحاء العالم وتكتسب قوتها من تنوعها كما تدعو هاريس التي تنحدر من أمٍّ هندية وأبٍ إفريقي جامايكي؟ أم يتنامى نفوذ تيار ترامب الشعبوي الذي يرى أمريكا وطنًا للبيض يتعرض لغزو المهاجرين من "حثالة العالم"، على حد وصفه؟
انقسام الأمريكيين هذا يجعل من انتخابات اليوم واحدة من أكثر الانتخابات سخونة في تاريخ الولايات المتحدة. والسخونة هنا لا تقتصر على صعوبة التنبؤ بالنتيجة في ضوء ما تشير له استطلاعات الرأي من تعادل، بل أيضًا على الأثر المحتمل لتلك النتيجة لو خسر ترامب، الذي رفض في وقت سابق إعلان قبول هزيمته إن حدثت. فهناك مخاوف من أعمال عنف قد تفوق اقتحام أنصار ترامب مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021، سعيًا إلى منع إعلان فوز بايدن بحجة تزوير الانتخابات.
أنا الأبيض ضحية التنوع
بنى ترامب جزءًا كبيرًا من حملته الانتخابية على اعتبار نفسه ضحية للدولة العميقة التي قررت إزاحته من البيت الأبيض رغم فوزه المزعوم في انتخابات 2020. بل واتهم أعداءه الديمقراطيين، وعلى رأسهم بايدن، باستغلال مؤسسات الدولة لملاحقته بالعديد من القضايا التي يرى أن هدفها منعه من المنافسة مجددًا هذا العام.
لكن القضايا التي واجهها ترامب فشلت في منع مسيرته الانتخابية، سواء القضايا السياسية التي حملته مسؤولية أعمال العنف، أو سعيه لتغيير نتيجة الاقتراع في ولاية جورجيا لصالحه، أو الاحتفاظ بوثائق سرية في قصره الفاره في ميامي بولاية فلوريدا، أو الأخلاقية مثل محاولته إسكاتَ نساءٍ لعدم الكشف عن علاقتهن به.
خاض ترامب كل محاكمة واجهها مبتسمًا أمام العدسات وهو ما ساعد في دعم دعايته باعتباره ضحية، وجلب ذلك له المزيد من التبرعات السخية باعتباره زعيمًا شعبويًا من خارج الصندوق المؤسساتي يحارب من أجل مصالح الأمريكيين العاديين البيض من "أصحاب البلاد الأصليين"، في مواجهة الليبراليين من الديمقراطيين دعاة فتح باب الهجرة على مصراعيه.
كما استفاد ترامب بشكل كبير من محاولتي الاغتيال اللتين استهدفتاه، وكادت إحداهما تقتله بعد أن أصابت الرصاصة أذنه، ما جعل أنصاره يؤكدون في مؤتمر الحزب الجمهوري الذي أعلن ترشيحه أن الرب هو من تدخل لحمايته ليعود إلى قيادة البلاد وإنقاذها من المصير المظلم لو فاز الديمقراطيون.
تجاهل ترامب نصائح مستشاريه وقادة حزبه بتجنب الهجوم الشخصي على هاريس وإطلاق النعوت والأوصاف غير اللائقة عليها، من كونها محدودة الذكاء وتتقلب في مواقفها كالحرباء، والتشكيك في أصولها العرقية وإذا ما كانت بالفعل "إفريقية"، انتهاءً بإشارة المرشح نائبًا له جي دي فانس إلى عدم إنجابها أطفالًا، في إطار سعي الجمهوريين لشق صفوف الناخبين السود الذين يصوتون عادة للديمقراطيين.
غير أن هذا النوع من الهجوم الشخصي هو أكثر ما يعجب مؤيدي ترامب ويلهب حماسهم، بعيدًا عن خطاب الساسة التقليدي الذي يدخل في تفاصيل يراها الجمهور مملة، مثل شعارات مختصرة عامة من قبيل "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، وترامب يعرف ذلك جيدًا ويحسن استغلاله.
هل تكفي جاذبية هاريس؟
أما المدعية العامة السابقة لولاية كاليفورنيا والسيناتورة السابقة عن نفس الولاية، كامالا هاريس، فلا بد من الإقرار بأنها أبلت بلاءً حسنًا حتى وإن خسرت.
إذ تمكنت من إحياء الروح في الحزب الديمقراطي الذي كان يسير نحو الهزيمة لو استمر بايدن في السباق، بعدما أهدر الديمقراطيون وقتًا طويلًا في إقناع بايدن بالانسحاب.
خلال ثلاثة شهور، نجحت هاريس في جمع كمٍّ هائلٍ من التبرعات تجاوز المليار دولار، فاق بملايين ما جمعه ترامب رغم الدعم الذي يحظى به من عدد لا بأس به من كبار رجال الأعمال، في مقدمتهم إيلون ماسك.
كما تبنَّت هاريس خطابًا متماسكًا حاولت فيه الظهور بهيئة من توحِّد الأمريكيين في مقابل ترامب الذي يعزز الانقسام ويزرع الكراهية.
ولكن تبقى حقيقة أن هاريس امرأة ومن أصول ملونة، تحديًا كبيرًا أمامها في وقت لا يبدو فيه أن هناك توافقًا بين الأمريكيين على تقبُّل أن تحكمهم امرأة. ورغم جاذبية هاريس وحيويتها، فإنها لا تُقارن بالرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي انتُخب أول رئيس أمريكي من أصول إفريقية، ولكن في توقيت مختلف.
فعندما فاز أوباما في انتخابات 2008، كان غالبية الأمريكيين يتطلعون للتغيير بعد ثماني سنوات مرهقة مليئة بالحروب في ظل رئاسة سلفه جورج بوش الابن. بل إن بعض الخبراء يرون في لحظة فوز أوباما نقطة بداية الانقسام في مجتمعٍ شعر اليمين الشعبوي فيه بالذعر من تولِّي رجل أسود منصب الرئاسة.
وبينما يرفض ترامب الإقرار بالهزيمة، يبدو أن الليبراليين وأنصار الحزب الديمقراطي بدأوا يؤهلون أنفسهم لاحتمال الخسارة. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز المعروفة بدعمها للديمقراطيين مقالًا أول أمس، بعنوان لماذا يعجز الديمقراطيون عن هزيمة ترامب؟ مشيرة فيه إلى أن أكبر تحدٍّ واجه هاريس حقيقةُ أنها كانت جزءًا من إدارة بايدن الذي تراجعت شعبيته إلى نحو 40%. وفي الوقت الذي رفعت فيه هاريس شعار "التغيير" والمضي قدمًا نحو المستقبل، فإنها رفضت توجيه أي انتقاد لبايدن.
وفي تمهيد للخسارة المحتملة، رفعت نيويورك تايمز شعار "رب ضارة نافعة"، ففي حال هزيمة هاريس قد يدفع ذلك الديمقراطيين إلى مراجعة خطابهم وسياساتهم وأسباب فشلهم استعدادًا للانتخابات المقبلة في 2028. وربما يكون أحد أسباب هذا الفشل، إن حدث، سياسة إمساك العصا من المنتصف سعيًا لإرضاء الكتل المتصارعة والمختلفة التي يُمثِّلها الحزب، وحرب غزة نموذج.
ربما يكون أهم إنجاز يتحقق في هذه الانتخابات أن تمرَّ بسلام دون عنف أيًا كانت النتيجة. وتبقى ميزة الديمقراطية أنها ستترك للأمريكيين فرصةَ تصحيح اختيارهم في الانتخابات المقبلة، وأن سلطات الرئيس في الولايات المتحدة توازنها سلطات المؤسسات التشريعية والقضائية الأخرى، حتى لو أراد ترامب التخلص من كل هذه القيود والعمل بسياسة القضاء على كل الأعداء الذين حاولوا منعه من العودة منتصرًا إلى البيت الأبيض.