جوبلز في افتتاح "الفن المنحط"، سنة 1937، وكيميديا
افتتح وزير الدعاية جوبلز معرض "الفن المنحط" تحت رعاية هتلر

"المثرثرون والمحتالون والأدعياء".. الحاجة إلى "الفن المنحط"

منشور الثلاثاء 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

منحتنا الحركة السريالية في مصر، وجماعتها التي حملت اسم الفن والحرية، تعارفًا مبكرًا بل وتوأمةً مع الموجة الطليعية في العالم وتمردها الذي صنع تاريخ القرن العشرين؛ وما زالت الدهشة التي زينت لوحات رواد السريالية رمسيس يونان وفؤاد كامل وإنجي أفلاطون، وطاقة الخيال التي وَسمَت أشعار مؤسسها جورج حنين، تشدنا إليها ولروحها النضالية.

لم يتأخر انطلاق الحركة السريالية في مصر عن نظيراتها في العالم كله، بل إنها كانت فاعلة على المستوى الأممي. ظهر هذا من بيانها الشهير يحيا الفن المنحط الذي دشن انطلاق السريالية في مصر، وكان ردًا مدويًا على المعرض الذي دشنته نازية أدولف هتلر بعنوان الفن المنحط.

أصدرت الحركة ما بات يعرف في الأدبيات بـ البيان السريالي تحية لهذا المعرض المنظم من قبل نظام هتلر وجمع فيه اللوحات بنفسه! وفي وداعه أيضًا! حيث أحرقت يد النازية العديد من الأعمال الفنية فيما بعد.

المعرض الذي أشرف عليه وزير الإعلام النازي جوزيف جوبلز، عام 1937، وأقيم إرضاء لنزعات هتلر الاستعلائية، خصص لعرض نوعيات من الفنون اعتبرها النظام حينها غير مقبولة للجمهور، وجمع فيه ما وصلت له يدا نظامه من لوحات الطليعيين بغرض تشويه أفكارهم الطليعية المتمردة لصالح تبني أفكاره العنصرية النازية، وهو ما أطلق عليه الفن المنحط.

بكل أسف، ورغم كثرة الكتابات عن السريالية، يكاد تاريخ ذلك المعرض يكون مجهولًا، بعدما طمرته حكايات مغلوطة وروايات شعبية، فضلًا عن بكائيات تندب ما ضاع من لوحات وإشعال النيران فيما تبقى من أعمال رواد الحركات الطليعية التي جمعها النازيون.

تحت ظلال النازية  

ثمة ضرورة لاستدعاء تاريخ هذا المعرض، بالأخص الآن، ونحن نعيش في ظلال النازية ونظرتها المعادية للإنسان وحريته التي لا تزال تتخفى وراء الأنظمة الديكتاتورية التي تحكمنا، وفي أيديولوجيتها الرثة، التي تدعي أمجادًا فارغة، فيما تغازل المقهورين بادعاءات السمو والماضي التليد.

اشتعلتْ فترةُ ما بين الحربين العالميتين بالتطلعات المتمردة، والحركات التي تحاول الخروج من ربقة التقاليد الأكاديمية بعدما أصبحت خادمةً للسلطويات ورديفة للمشاريع الاستعمارية وعشق روادها تمجيد الدولة وعبادتها.

نشدت السريالية المصرية التطلع لحرية الإنسان واستقلال الأوطان معًا

وصبغ المتمردون ممن ننعتهم اليوم بالطليعيين حركتهم بصبغة إنسانية عالمية، ملؤها التطلع لحرية الإنسان، وأضاف رفقاؤهم في بلدان المستعمرات لهذا النزوع الإنساني نزوعًا تحرريًا وطنيًا، يتطلع إلى استقلال الأوطان من ربقة المستعمر.

من هنا جاءت السريالية في مصر تنشد هاتين النزعتين، وصبغت أفكارها الأساسية من خبرة نضالين متوازيين، أحدهما في أوروبا التي مزقتها استقطابات ما بين الحربين، والآخر في الشرق، حيث كانت أوروبا تقود مشروعًا استعماريًا يعيد تشكيل ذاته بخداع الشعوب بوعود التحرر المخاتلة، وحركته لا تكل من حصار شعوب الشرق وطمس روحها وقهر إرادتها ونهب مقدراتها. بين النضالين قامت حركات فكرية وفنية لدفع الوعي الثوري المتمرد باتجاه الحرية، وبرزت بينها هذه الحركة وتفرعاتها.

الفن بوق دعاية

افتتح المعرض عام 1937 كدعاية مضادة ضد الطليعيين

الفن المنحط لم يكن مجرد عنوان ساخن من تلك العناوين الضخمة التي بثتها النازية وجهازها الدعائي النشط، بل عَكَس فكرةً بدت في ظاهرها مقبولة، وحظيت بجماهيرية عريضة، حتى خارج السياق الألماني!

لجأ هتلر، في استثارته لمشاعر الجماهير التي لم تتسامح مع التبعات التي تحملتها إثر الحرب العالمية الأولى بالهزيمة المذلة لألمانيا، لأخطر الأفكار وهي فكرة "تربوية"، تدعي أنها تهدف لتكريس القيم الرفيعة والرؤى السامية للإنسان ووجوده.

تصوَّر زعيم النازية أن العمل الفني لا بد أن يأتي نتاجًا مباشرًا للظروف التي تشكل في سياقها وترجمة للأفكار التي تسود في عصره. بالتالي فإن الأعمال الفنية مجرد عربات للمعنى، مثقلة بالحمولات السياسية والأيديولوجية للعصر الذي قدمها.

غالى هتلر في تأطير الفن، فاعتبر أن القصيدة واللوحة يمكن اعتبارهما ترجمةً مباشرةً لأفكار السياسيين والمنظرين بأكثر من كونها نتاج وعي وفكر الفنان.

لم يُكِنّ الفوهرر فحسب احتقارًا للفنانين، بجعلهم مجرد أبواق دعائية، لا تستمد شرعية وجودها إلا بقدر ما تخدم السياسة والسلطة المتسيدة، بل قام بتدبيج تلك الأفكار الاختزالية في مواصفة أيديولوجية للفن الذي يبتغيه لتزيين نظام حكمه. وجعل حركة السلطة الثقافية تلزم الفنان، فكريًا وأسلوبيًا، بما اعتبره الوضوح والمنطق والصدق "أن تكون ألمانيًا يعني أن تكون واضحًا"... و"إن كونك ألمانيًا يعني أن تكون منطقيًا وقبل كل شيء، صادقًا".

هتلر وحقد الفنان الفاشل

ربما من هنا نسَب البعض للزعيم النازي أنه صاحب فكرة "تلك المحرقة الفنية"، وأن باعثه كان الحقد، كونه فنانًا هاويًا لم يتحقق، قدَّم بعض اللوحات لمناظر من برلين، وتطلع لأن تحظى بانتباه النقاد وأصحاب صالات العرض، لكن جرت السفن بما لا يشتهي. وظل يغار من أولئك الطليعيين الذين حظوا مع بداية القرن العشرين بشهرة واسعة، وتصدروا حركة الفنون في العالم، وتصدرت خطاباتهم مفاهيم التجديد الفكري والتمرد على التقاليد الأوروبية الموروثة.

إلا أن تاريخ هذا المعرض يشي بتفسير أكثر تعقيدًا، يتسق ونوعية الفكر النازي وأيديولوجيته العنصرية مدعية السمو والكمال. تشير المراجع التاريخية إلى أن من أتى بفكرة المعرض ليس هتلر، بل طرحها فنان ألماني متحقق، وأكاديمي ملتزم، حاضر في أكاديمية ميونيخ العريقة، وهو أدولف زيجلر.

زيجلر الصديق القديم لهتلر ، نالت أعماله إعجاب الزعيم، حيث رأى فيها تعبيرًا عن الروح الألمانية النقية. ومبكرًا، أقنعه هتلر بالانضمام إلى حزبه النازي. وسرعان ما تلاقت أفكارهما العملية حول ماهية التغيير الذي يتطلعون إليه، وصورة المجتمع الألماني الذي يودونه.

صورة من بيان "يحيا الفن المنحط" لجماعة الفن والحرية، سنة 1938

مشروع اجتثاث انحطاط الفن 

آل زيجلر  على نفسه ترجمة الأفكار النازية عبر باب الفن؛ كان الفنان الأكاديمي واعيًا بأن نقد هتلر للتوجهات الطليعية خفيف، ولن يؤتي أثره في مواجهة هذا الاهتمام العالمي بالطليعية والاحتفاء بروداها، بيكاسو وماتيس ودييجو ريفيرا وكندنيسكي وغيرهم، فعاد إليه حاملًا مشروعًا لاجتثاث ما سماه انحطاطًا للقيم الفنية، ورسم استراتيجية لإحلال بديل عن الفنون الطليعية التي وصمت بالمنحطة بمنتج فني إحيائي، لم يكن بعيدا عن حركة أسبق بدأت في فرنسا، وأسماه "الفن الخالص".

وعبر سلطته في الحزب النازي في ميونيخ، وترؤسه غرفة الفنون، تمكن زيجلر من الدفع بمشروعه لتكريس الرؤية النازية عبر الفنون. واتسعت من ثم مساحة تأثيره وقدرات الإبهار الفني التي أكسبها لوجه النازية الشائه.

تضاد العظمة والانحطاط

معالجو الأعمال الفنية في مخزن شلوس نيدرشوينهاوزن وهم يحملون لوحة "Das Leben Christi" لإميل نولدي عام 1937، صادر النظام النازي العمل باعتباره فنًا "منحطًا".

قد يستغرب بعضنا من أن "معرض الفن المنحط"، الذي امتد على مدى أكثر من أربعة أشهر (في الفترة ما بين 19 يوليو – 30 نوفمبر) من عام 1937، لم يكن على جدول أعمال مشروع زيجلر، وإنما بزغ كفكرة عابرة، لخدمة معرض آخر. كان الغرض توكيد عظمة الاتجاه الرسمي المعتمد الذي خصص له معرضًا كبيرًا.

حسب المؤرخين، جرى الإعداد للمعرض وتجهيزه في نحو أسبوعين فقط، وبالرغم من ذلك، وبسبب ارتباطه بأفكار أوسع، تحول المعرض لنموذج يبين الكيفية التي سيتعامل بها الفكر النازي مع الإبداع والثقافة عبر سني حكمه.

التضاد ما بين العظمة والانحطاط كان يعكس الصور الحدية التي توسلتها الدعاية النازية؛ هتلر يسعد بتضخم دعايته التطهيرية، وبات يردد مقولة "الفن الألماني العظيم" في مقابل ما يراه بخسًا وضيعًا. وحين عرض عليه زيجلر الفكرة تلمَّس في هذا التضاد ما يقنع الألمان من محبي الفنون بصحة أفكاره، وزيجلر وعى أن الإشارة البلاغية، أو كتالوجًا مصورًا لن يكفي، بل يحتاج المعرض الضخم الذي حمل عنوان العظمة، لنقيض، يميز فكرته وجدواه. فكان معرض الفن المنحط هامشًا يبرز تناقض الرؤى وفوارق الجودة التي تركزت عليها دعاية رفض الطليعية.

نؤكد أنه على عكس أكثر الروايات، في هذا الوقت من عام 1937، لم تكن النازية نهبت بعد متاحف الدول التي اجتاحتها في تاريخ لاحق، ولم تكن قد بدأت في مصادرة مقتنيات معارضيها ولا نخبة الأقليات ممن اضطهدتهم، وبخاصة من صنّفتهم كغير آريين، كاليهود والغجر وغيرهم، إنما تعمد زيجلر تحقيق وجهة نظر ناقدة بشدة لمديري المتاحف في ألمانيا، لم يكف عن ترديدها. ولذا صاغ المعرض ليكون فضحًا دعائيًا للتوجهات السائدة المحتفية بالطليعية وروادها. 

إعدام رمزي للطليعيين

وضع زيجلر بنفسه قائمة بالأعمال الفنية التي وسمها بالمنحطة، وذكر من اقتناها من المتاحف الألمانية. ونعيد التأكيد على  أن تلك الأعمال لم تبلغ خمسة آلاف بحال، على نحو ما تشير أكثر الروايات الشعبية عن المعرض، بل كان المعروض أقل من عشر هذا الرقم تقريبًا، أي 650 عملًا. لكنه كان بحق بانوراما إبداعية للخيال الطليعي.

خلال افتتاحه المعرض، كال زيجلر النقد اللاذع لمديري المتاحف في بلاده، التي اقتنت تلك الأعمال، وتسامحهم مع "فن متحلل" decedent art كهذا. وتحول المعرض إلى بادئة لحملة ممنهجة نالت من الفنانين الطليعيين، سواء من أهل ألمانيا، أم من الأجانب الذين يعيشون فيها. وبات اجتثاث الفكر الطليعي مهمة تترجم في أوامر رسمية يوقعها زيجلر بنفسه

والحال أن مثل هذا الخطاب كان كفيلًا وحده بهذه المهمة، كأنه بمثابة إعدام رمزي للفنان. وحتى أولئك الذين أرهبتهم تلك الخطابات، وحاولوا الالتزام بما حوته من التحذيرات، لم يفلتوا من مصير التهميش والطمس؛ من مكر التاريخ أن تدور الدائرة، ليُعامل زيجلر نفسه بنفس الصنف من القمع، فقد اعتُقل بأمر من هتلر، وإن لم يلبث إلا بضع أسابيع، بتهمة بث الروح الانهزامية خلال الحرب، وأفرج عنه كرامة لصداقته بالفوهرر، مع اشتراط تقاعده ومكوثه في الإقامة الجبرية.

حرب لا تعرف الرحمة

كان لجماعة "الفن والحرية" وجود قوي على المستوى الأممي

أثناء انعقاد المعرض، تعمد زيجلر أن تتصدر الدعاية خطبة حماسية ألقاها هتلر في افتتاح معرض الفن الألماني العظيم، حمل فيها الزعيم النازي على من سماهم "المثرثرين والمحتالين والأدعياء" من الطليعيين، وهددهم بـ"حرب لا تعرف الرحمة"، عليهم وعلى كل من على شاكتلهم من المروجين لما سماه "التفسخ الثقافي". ومن بعده وصمت الصحف الألمانية أعمال المعرض بأنها مثال على إرباك الوعي بالطبيعة، مما تأنفه الثقافة الألمانية، وأن المبالغات من حولها إنما يفضحها تواضع المهارات، وأنها رُسمت بروح تناقض الحذق والدقة اللتين عرفت بهما الشخصية الألمانية. واتهمت بأنها تهين الوجدان الألماني.

كان من أثر الدعاية المكثفة والحادة تلك أن استقبل المعرض أكثر من مليون زائر، في أسابيعه الستة الأولى، ولاقى اهتمامًا ليس وحسب من قبل الألمان المتحمسين لدعاية النازي وانتفاخ الوطنية الألمانية، بل احتفى به عدد من كارهي الطليعية، والنقاد المحافظين الذين أنكروا عليها أن تكون فنًا، في مقابل تقديسهم للواقعية والتقاليد الموروثة للفن الأوروبي.

هذا المعرض وإن أظهر أوهام السمو التي ضخَّمها الفكر النازي، والعنصرية وضيق الأفق الإنساني وما اشتمل عليه من العنف الرمزي المكثف، فقد كانت مقاومته تعبيرًا نضاليًّا مبكرًا، ودفاعًا عن الطليعية ينبه إلى أهمية التنوع والتمتع برحابة إنسانية ومساواة وتسامح، هذا بالطبع قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتبلور مأساتها.