لا تتعجب حين تحاول البحث في محركات البحث على الإنترنت عن أعمال جورج براك حين تأتيك النتائج دومًا وقد تقاسمها معه اسم آخر هو بابلو بيكاسو. بل لا تندهش حين تحاول أن تبذل قصارى جهدك، وتروح لتفتش عنه على المواقع المتخصصة في الفنون، حريصا على أن تحدد بدقة أكبر كلمات البحث المفتاحية، حين يأتيك من النتائج ما يطغى فيه اسم بيكاسو على براك. ربما هذه هي الحالة الأغرب في التأريخ للفن التشكيلي المعاصر، فذكر براك في أي سياق سيستدعي فورا بيكاسو.
هكذا، في تاريخ الفنون، وعلى الرغم من الأرشيفات المتخصصة التي أتيحت عبر الإنترنت، بقى براك لا يبارح "ظل" بيكاسو، (وأخشى أن تبدل ألسنة البعض الظاء إلى ذال). هذا التشكيلي الفرنسي الذي يصغر بيكاسو ببضع شهور فقط، والذي قذفت به الأقدار إلى العالم في 13 مايو/ أيار 1882، حكمت عليه تلك الأقدار بأن يستظل باسم بيكاسو طوال حياته. وحين حاول البعد والاستقلال باسمه، كانت الأقدار تعاقبه بالنسيان، حتى في وطنه.
الأمر لم يكن نتاج منافسة بينهما، فبراك لم يكن وحسب صديقًا حميما لبابلو، تشاطرا في مقتبل حياتهما البيت والمرسم ومطاردة النساء وتسلق الجبال، بل كان أكثر من ذلك؛ ربما لم يجاوز بيكاسو الحقيقة حين لخص المسألة بأن براك بالنسبة إليه كان "كالعشيقة"، فيما نعت براك الثنائي الذي مثلاه في الوسط التشكيلي الطليعي بـ "الحزمة المربوطة" أو بعبارته الفرنسية المبتذلة La cordée Braque-Picasso.
براك كبيكاسو، أصابته شرارة الإلهام من وهج أعمال بول سيزان، ومن مرحلة هذا الرائد التي أعيد تصنيفها لاحقًا ضمن تاريخ التكعيبية بأنها تكعيبية تحليلية، analytic.
في 1907، زار كلاهما ذلك المعرض الاستعادي الذي أقيم بعد وفاة سيزان بوقت قصير. لا شك لمعت من اللوحات على جدران المعرض هالات التكعيبية التحليلية والتقفنها عيون الشابين اليافعين، وأشعلت خيالهما. ولا تستغربن إن صعب عليك التمييز بين أعمال بيكاسو وبراك الأولى، لفرط تشابهها، حتى لتكاد تتماثل بعض الأعمال، بروحها الهندسية، المفعمة بالزوايا والخطوط الحادة، وبألوانها المتقشفة التي يطغى عليها البُني.
علم الشابان، اللذان اشتدت بينهما أواصر الصداقة، أن قدرهما في تحدى تقاليد جامدة تحكم فن التصوير الأوروبي، وبقيت تعيش بثقة دون أن يحرك جبلها أحد منذ عصر النهضة، وحتى جاء فان جوخ وجيله الطليعي وصولا لسيزان ومن بعده ماتيس. وخلال بضع سنين، تطورت بين أنامل بيكاسو وبراك لعبة تحطيم المنظور تمامًا، والاستغراق في لا معقول هندسي يهرب بموضوع اللوحة إلى عالم مفارق للواقعية وبنائها المكرور المحكوم بمماثلة الواقع. حقًا، لقد أكلت الاتجاهات الطليعية، وعلى رأسها التكعيبية، نصف هذا البناء تاركة التهام النصف الآخر لكاميرا التصوير، التي أفقدت معيار دقة المماثلة وهجه، بعدما هيمن طويلًا كمعيار وصف بالموضوعية لتعيين القيمة في لوحات الفن الواقعي.
بالتوازي مع قفزات بيكاسو المنظورية، برزت ملامح ثورية في أعمال براك، تعتمد تفكيك العمل إلى حزمة من الأشكال الهندسية المتواشجة، فضلًا عما أضافه من دمج اللون بقطع الورق وأشياء لم تعتدها سطوح اللوحات، على نحو دعا المؤرخ الفني لوي فوكسيل لابتداع مسمى التكعيبية لوصف هذا الأسلوب الجديد. قال فوكسيل عن أعمال براك التي شاهدها في معرضه المقام في 1908 أنها حشد من "غرابة تكعيبية"، والتصق الوصف بالمدرسة.
لكن في عيون النقاد بدت قفزات بيكاسو أبعد مدى، فالفتى الكتلاني اعتنى بمجال رؤية أوسع، فيما براك رغم الدفقة الإبداعية، التي منحته شطر الفضل في خلق الأسلوب التكعيبي، بقي جهده الإبداعي يراوح حائرًا بين هذه الفكرة الثورية التي تود الانطلاق، وبين طغيان الحضور الفني لوحشية هنري ماتيس في مخيلته. ولنقل أن بيكاسو وبراك مرا بما يمكن تسميته "ماتيسية إجبارية"، مثلهم مثل أقرانهم من الطليعيين في بدايات القرن العشرين، ممن وقفوا مشدوهين أمام ذلك العالم التشكيلي الجديد المسمى بالطليعية، والذي بشر به هذا الفرنسي الذي سبقهم إلى الشهرة، وأعلن نفسه ربًا لتلك الحركة.
بيكاسو كان أقل ولعًا بالاستغراق التقني، واكتشاف عمق المعالجة، وعانت مخيلته فرط حركة، فكانت أميل إلى التغيير، وسرعان ما كف عن طرق أبواب ماتيس وغادر باحته المبهرة التي تشغى بالألوان والأفكار، واختط لنفسه طريقًا فارق عالم الأستاذ. مضى تدفعه حمى الرغبة في الشهرة ذاتها التي حصلها أستاذه ماتيس، فخلط الرغبة في الإبحار في بحر التجريب، بالرغبة في إدهاش الجمهور ومغازلة حسه المأسور في التقاليد الأكاديمية الأوربية التي لم تفارق الواقعية. ذلك بعكس براك الذي ود أن يقطع أشواطًا كبيرة في مسار التجريب، لكن بحس تقني. بدا براك نال منه الفتور، وأحس بضآلة اللعبة التكعيبية الوليدة، وهرب منها بأن ترك نفسه موضوع واحد، يغذي انطواءه، ويستلبه لفترات طويلة. لم يدري براك، ولا نحن، أهذه ميزة التأني والتفكير والإمساك بتفاصيل التجربة الإبداعية، أم أنه عيب التباطؤ والكسل والخوف من التغيير.
لكن الأوضح هو أن بيكاسو بانتقالاته السريعة والمدهشة كان قادرًا على جعل النقاد وصحفيي الفنون يلهثون من خلفه؛ يمسك موضوعًا، فينتج فيه عددًا وافرًا من اللوحات، ولا ينثي يتركه لآخر، ويظل يتقافز كالنحلة بين الموضوعات مستجيبًا لمثيرات الإبداع العديدة. لكن الأهم، والذي دفع بيكاسو للمقدمة، وليستطيل ظله فيغطي براك ومجايليه الآخرين، أنه حين نادته الشهرة المبكرة على إثر الاعتناء النقدي بهذا المسار الجديد، أمسك بيكاسو بالتكعيبية بفرح طفل مشاغب، موقنًا أنها اللعبة التي سيبهر العالم بحيلها. وأنجز في خلال أعوام قلائل "مئات" من الأعمال التي تعكس معين خياله الفياض، وكيف أنه اهتبل الفرصة عبر التجريب الذي لا يفقده الجمهور؛ ظل يتأرجح بين عالم التكعيبية التحليلية في صيغها الأولى وبين الكلاسيكية الجديدة، مرورًا بالصيغ التعبيرية والتجريدية، وكان في كل مسافة يقطعها، ماهرًا في الإمساك بلمسات تبلور الصيغة الأهم التي ابتدعها في التكعيبية، وهي التكعيبية اللينة Synthetic. وظل يداوم على هذه اللعبة لثلاثة عقود منذ فتيات آفنيون حتى وصل لذروته في الجرنيكا. في خلال هذه المدة كان براك متمهلًا، يستمتع بحيرته الجمالية.
مسألة الكم الإنتاجي المهول الذي أنجزه بيكاسو صنعت نصف الظل الذي أبهت حضور براك وغيره من التكعيبيين. يدرك المتابع للحركات الطليعية أنه لا براك أو أي أحد من أولئك الطليعيين منح عمر بيكاسو الفني، وظل ينتج تحت أعين الكاميرات لثماني عقود متصلة، ولا نعرف بخلاف بيكاسو أحدا أنتج ما يقرب من 25 ألف عمل متنوع.
يبين إنفوجراف لافت نشرته مجلة ناشيونال جيوجرافيك في عدد خاص عن بيكاسو، صدر قبل بضع سنوات، حقيقة أن الطاووس الإسباني الأشهر، امتلك، في المسافة ما بين اسكتش الأرنب الذي رسمه وهو ابن الثامنة، والبورتريه الشخصي الذي رسمه على فراش الموت، غابة كاملة من الأعمال التشكيلية، ضمت بجوار الأربعة آلاف وخمسمائة لوحة زيتية، ما يناهز 13 ألف اسكتش رسم، وما يزيد عن الثلاثة آلاف لوحة حفر، وما يقارب من الألف منحوتة، وبضعة آلاف من الليثوجراف ورسوم الجواش والباستيل وأعمال الكولاج.
ذلك العمر الفني الطويل، الذي تكاثفت عليه أضواء الشهرة منذ بداياته، يوجب علينا الاستدراك، والإقرار ابتداءً بأن لمعان نجم بيكاسو، ومن ثم طغيان صورته على جورج براك، لا يعود الفضل فيه وحسب للفارق النوعي بين ما قدمه الفنانان في البدايات، إذ مال لصالح بيكاسو بكل التأكيد، بل لنجاح الأخير في اقتناص اهتمام صحافة الفن، البازغة في ذلك الوقت، وتصدره الأيقوني لسوق مهووسة بحوافز اقتناء ما يتسم بالجنون والمغايرة. كانت أجواء الحرب العالمية الأولى وظلمتها تبعث حالة ثقافية ثورية، ترفع راية الأمل، وتصدح برغبة العالم في تنشُّق بعض الضوء بعيدًا عن ظلمة الحرب.
في هذا السياق برز كتاب ومفكرون وفنانون آمنوا بإمكان تحدي سياقات التصادم الجنوني والدموي، وما فرضه على البشر من رعب ونذر الفناء. تحدي للجنون بجنون مضاد، مبدؤه الأمل في إمكان خلق مستقبل بملامح مختلفة. التراجيدي في أمر الصديقين أن هذه الحرب حين منحت طاقة لبيكاسو تدفعه إلى الأمام، قد خلفت في رأس براك، الذي انخرط في الجندية، إصابة بالغة، اقتضت أن يعيش في عمى مؤقت لما يقارب العام، وعززت شخصيته الانطوائية وميله إلى البعد عن الأضواء.
هكذا حين نحاول الحديث عن براك، لا نبرأ من بيكاسو. لكن بقاء براك في ظل الطاووس مهول الأجنحة، وقاتم الظل، هو حال يظلمه لأبعد مدى بل ويطمس فنه. لذا سنحاول فيما بقي من المقال أن نسكت تمامًا عن ذكر بيكاسو، لنتلمس لبراك ومنجزه الإبداعي المفرد والمتفرد بعض النور.
انشدت خيوط الإبداع عند براك بين عدد من الأساتذة أهمهم سيزان الذي استخلص في لوحاته المتأخرة من الانطباعية الجديدة إشارات موجهة للتكعيبية التحليلية، وانشغل بتطوير تقنيات تعدد المنظور الذي رآه ماثلا بإبهار في لوحات سيزان.
لا يرى البعض أن آنسات آفينيون المؤرخة 1907، وسنلتزم بعدم ذكر صاحبها، هي اللوحة التكعيبية الأولى، بل ينسبون الأسلوب التكعيبي إلى لوحة جسر في لاستاك التي أنجزها براك في صيف 1908، تجلي فيها المكون التقني لهذا الأسلوب بوضوحه وتمامه.
قوبلت اللوحة بالرفض، ولم ير مقيمو معرض صالون الخريف الشهير بباريس أن أسلوبها وموضوعها يستأهلان موضعًا على جدران المعرض. كانت معالجة لطبيعة صامتة عبر منظور هيمنت عليه العلاقات الهندسية، ومع ذلك يحطم المنظور التقليدي ومفهوم الأبعاد الثلاثة، ويعيد تشكيل عناصره عبر حس وحشي بخطوط حادة، وبدرجات لونية راوحت بين درجات البني والأخضر. وأمام تعنت صالون الخريف لكن جاليري كانويلر الباريسي تحدى هذه الرؤية، وبادر إلى عرضها. وكان للصدى الذي أحدثته اللوحة في الوسط النقدي، أن ألقت ببعض الحرج على الصالون، فعاد مقيموه ليعرضوا على براك استضافة أعماله في دورة عام 1922، فكانت له منذ لحظتها مكانة كطليعي صاحب رؤية تشكيلية ثورية وجديدة.
في طريقه للبحث عن التكعيبية، وبعدما فارق بداياته الواقعية، مال براك إلى إضفاء لمحة من التجريد على أعماله، وبدا متأثرًا برسوم جرار الخزف الرومانية، بألوانها التي ترواح بين الأسود والبنيات والحفر في السطوح ليظهر بياض الخزف خطوطًا تحدد عناصر الموضوع. كان يستدعي تراثًا أسبق على الواقعية، عزز أفكاره الأسطورية والدينية المنظور غير الواقعي، لينهل منه ما يدعم اتجاهه الجديد. ويمكننا من تأمل منجزه في بدايات التكعيبية القول بأن براك آمن بنوع من الانطباعية المعكوسة، إذ لم يرى ضرورة لبهاء الألوان وسطوعها، ومال إلى ألوان متقشفة محايدة، كأنما أراد أن يسمح للشكل والموضوع بأن يهيمنا على إدراك المتلقي، فلا تلهيه الاستعراضات اللونية وبهرجتها.
حالة الاستغراق التقني ظلت تميز براك، ومنحته القدرة على تطوير أساليب مبدعة يتعدد فيها المنظور ويتحطم سطح اللوحة لتختلط سماؤها بأرضها، وهيمنة نظرة للأشياء كأنما عبرت عدسة مهشمة أو عبر عش العنكبوت، كان ما يقدمه من جديد يبشر بمسار ثوري في عالم التشكيل الطليعي.
انتبه مجتمع الرسامين إلى تقنية الكولاج التي أدخلها براك على اللوحة المسطحة الجامدة، فاندفعت على إثره عديد المجموعات والاتجاهات الفنية الجديدة لتجربها، وباتت تقنية معتمدة، ليس وحسب ضمن الأسلوب التكعيبي، بل وكانت تقنية أساسية اعتمدت عليها بشدة اتجاهات البوب آرت، والتجريد التعبيري وعدد من الحركات زهد الشكل، أو المينيمالية، والمستقبلية. وبالمثل حينما عمد براك إلى ادخال عناصر أخرى، كخلط فتات الأخشاب والسيراميك بكتل اللون الكثيفة لتعطي ايقاعًا بارزًا ومحسوسًا للسطح تهرب به من الحالة الملساء، تبعه في ذلك عديد الاتجاهات الطليعية. وكما أدخل قطع ورقية مطبوعة كجزء من العمل، كذلك فإن إدماج الحروف بطريقة الاستنسل والكتابة المباشرة على اللوحة، الأسلوب الذي بات منتشرًا، كان براك هو من قدمه.
مضى براك في مساره الجديد ببطء قبل أن يرتد فجأة للأساليب التي لم تزل تملك جسورًا تربطها بالواقعية الواقعية، وبالخصوص التعبيرية والسوريالية. صحيح أن انتقالات براك قليلة، لكنها في ظني جذوة الحيرة، التي تشي بإخلاصه لأساتذته، ومن تأثر بهم في بداياته وتشكلت معهم بصمته الفنية. لم يفارق مع ارتحالاته القليلة هذه، إرثه التكعيبي، وظل يغذي بحثه في تقنياته الممكنة، لكنه ظل في الآن ذاته ضنينا في الإنتاج باستخدامه. وبعد رحلة أفضت به إلى هجر تام للتعبيرية والسوريالية، حاول منذ منتصف العشرينيات من القرن العشرين أن يعود لعالمه التكعيبي عودة جديدة، فتبنى التكعيبية اللينة، مضيفًا إليها العناية الفائقة بالكتلة والعلاقات البصرية، وأنتج أعماله الأهم والأكثر شهرة، والتي حفلت بتكوينات الطبيعة الصامتة، وإن ميزها الاقلال من عناصر اللوحة، والبحث عن آفاق للتجريد التكعيبي جديدة.
ومع اقتراب العقد الثاني على الانتهاء، شعر براك بأنه بات يتمتع بشهرة معقولة، فنزع إلى تغيير في أسلوبه، بالتركيز في الموضوع مرة أخرى من وجهة سؤال الضوء، متأثرا ببعض رواسب الانطباعية، فبحث في أعماله التي تناولت الطبيعة الصامتة عن معالجة الضوء الطبيعي من منظور تكعيبي. وظلت الزوايا والخطوط المستقيمة الهندسية بجرأتها وتقشفها اللوني تلفت الانتباه إلى حسه المتميز.
وهذا ما منحه عودة خجلى إلى دائرة الضوء والاهتمام النقدي الواسع. ومع تحول آخر، منح أسلوبه وجهة جديدة، عبرت الأعمال التكعيبية لبراك منذ بدايات ثلاثينيات القرن العشرين حدود فرنسا وأوروبا، لتجتاز الأطلنطي. وهناك، في الولايات المتحدة لقيت أعماله حفاوة بالغة، ومنح جائزة كارنيجي الدولية ذائعة الصيت. وكان أن نالت أعمال النحت التي قدمها، شهرة خاصة وجرى اقتناء العديد منها.
اعتناء براك بالنسج ما بين الضوء والظل وعمق اللوحة حفل بالتأمل والسعي لإثارة المتلقي، سواء في لوحات طاولة البلياردو، التي يورط فيها مشاهد اللوحة حتى ليشعر أنه ثاو بداخلها كلاعب ينتظر دوره على الطاولة، وتلك اللوحات التي دلف فيها إلى الورش الصناعية، ومنحته فرصة للعودة لاستدعاء الإرث التكعيبي الذي خلفه.
في مفترق اللحظة ما بين الحرب العالمية الثانية ومطلع الخمسينيات، وجدت ظلال الحرب طريقها إلى لوحات براك، فغلبت عليها القتامة، وبعد الحرب مال إلى الأعمال الخفيفة والرومانتيكية، من الطيور ومناظر اللاندسكيب والبحر وغيرها مما يستلهم الطبيعة، لكن ظل الموت يرمي بظله عليها. كانت تلك المرحلة الموسومة بالمرحلة النورماندية. تغير الحال في 1953، بعدما أسندت إليه مهمة رسم السقف الخاص بقاعة هنري الثاني في اللوفر، وكانت تأشيرًا لمرحلته الأخيرة، التي امتلأت بالشاعرية والتأملية المستندة إلى الطبيعة.
لا شك أن انطوائية براك وما ألمَّ بصحته حال بينه وبين المضي في مشروعات فنية كبيرة، لكنها لا تبرر أبدًا هذا الإلحاق النقدي له بشريكه الأول بيكاسو. كاد أن يُنسى في بلده فرنسا، فيما تذكره يجيء من ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة، لكنها ظلت تدق على مسألة تبعيته لبيكاسو، ومثالها المعرض الذي أقامه متحف الفن الحديث في نيويورك في ختم الثمانينيات من القرن الماضي، والذي حمل عنوانا لافتًا هو "بيكاسو وبراك رواد الفن التكعيبي"، دون أن ننكر أن حسنته كانت في التذكير بهذا الفنان العظيم، ومحاولة على الأقل استعادة الاعتراف بأنه شريك حقيقي وكامل بل ومنافس لبيكاسو في هذه المدرسة.
حتى أنه وطوال أربعة عقود، لم ينظم معرضًا استعاديًا لأعمال براك في وطنه من عام 1977، منذ معرض متحف لونجريه. وتأخر النظر النقدي إلى أعماله غير التكعيبية، سواء الوحشية السابقة عليها، أو الميثولوجية والطبيعية فيما بعدها. لكن أخيرًا، وفي صيف 2014، حضر براك لباريس، ولواجهة صخبها الفني في القصر الكبير، لو جران بالي، الذي عرض في معرض يحمل اسم براك والطبيعة التكعيبية الميتة أكثر من مائتي قطعة نحتية ولوحة ورسم، ليؤكد فضل براك على عموم الحركة المسماة بالطليعية فضلا عن ريادته للتكعيبية. وهو المعرض الذي انتقل لاحقًا وطاف عدة دول منها الولايات المتحدة.