عبر أكثر من سبعة عقود، قدمت الحركة الفنية التشكيلية الكثير من اللوحات التي تجسد نضال الشعب الفلسطيني، وتمثل بالمجازر التي يرتكبها المحتل الإسرائيلي في حقه، حتى أنه يمكن التأريخ لظهور الحركة التشكيلية الفلسطينية بنكبة عام 1948، لإدراك الفنان الفلسطيني أهمية الفن كسلاح سلمي في مواجهة العدو، وفي التعبير عن قضيته.
ولكن في المعرض الفني الذي افتتح، الأحد الماضي، بمشاركة فنانين من جنسيات مختلفة تحت عنوان "غزة في قلوبنا"، تظهر رسومات الفنانين كسلاح تجاوزه الزمن من فرط الاستعمال.
صحيح أن خمسين رسمة اتسعت لهم جدران صالة العرض، الذي نظمته الجمعية المصرية للكاريكاتير، واستضافته جمعية محبي الفنون الجميلة في مقرها بحي جاردن سيتي، بحضور مسؤول الدبلوماسية الرقمية في سفارة فلسطين بالقاهرة أحمد عوض، رُسم بعضها خصيصًا للمعرض، غير أنهم ضموا في الوقت نفسه لوحات قديمة تعود إلى عصور خلت.
وهو أمر يعزيه قوميسير المعرض وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للكاركاتير فوزي موسى، إلى "اعتزاز إدارة الجمعية برموزها الفنية الذين دافعوا باستماتة عن القضية الفلسطينية أمثال الفنانين مصطفى حسين، وجمعة فرحات"، لكنه لا ينكر في الوقت نفسه أن "ضيق الوقت دفعنا لتنظيم المعرض في عُجالة، بحيث طلبنا من الفنانين إرسال أعمالهم في خلال أربعة أيام من وقت إبلاغهم بالمشاركة".
وعلى الرغم من حرص الفنانين على المشاركة في المعرض الذي يستمر حتى 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فإن الكثير منهم تغيب عن حضور حفل افتتاحه، فبحسب القوميسير أيضًا تقدم الفنانون للمشاركة بأكثر من 70 لوحة فنية، اختير منها 50 فقط نظرًا للمساحة المخصصة للعرض. لافتًا إلى احتمالية تنظيم آخر أكبر في مكان آخر بحيث "يتيح لجميع الفنانين المشاركة فيه والتعبير عن دعمهم للقضية الفلسطينية".
شارك في المعرض فنانون من فلسطين والسعودية والأردن والبحرين وتونس وصربيا وكوبا واليونان، بخلاف مصر.
وتعبر جميع اللوحات عن القضية الفلسطينية وفقًا لرؤى أصحابها المتعددة، ففيها ما يبرز الجانب الوحشي للمحتل وما يصوره على هيئة مصاص دماء، وأخرى تظهر التناقض في الموقف الأمريكي الذي يدين روسيا في التعدي على أوكرانيا، بينما يدعم في الوقت ذاته العدوان الإسرائيلي على فلسطين، وثالثة تصور اغتيال الصحافة الحرة، وأخرى تصور المقاومة الشعبية والحلم في عودة الأرض إلى أصحابها، والموقف العالمي المنحاز لإسرائيل، بينما يتمحور معظمها حول الطفل الفلسطيني الذي سلبه الاحتلال طفولته، وكلها رغم ذلك تقدم الصورة الاعتيادية عن القضية الفلسطينية.
ناجي العلي في فخ التكرار
وربما في استعادة للماضي أيضًا، يخيم على عدد من اللوحات، وجه الرسام الفلسطيني الراحل ناجي العلي، الذي للمفارقة كانت لوحاته الأكثر ثورية وتنديدًا بالاحتلال، ورغم أنه كان محورًا لعدد من الرسومات، فإن روحه المتمردة غابت عن معظم المعروض.
يرى القائمون على المعرض، أن الفن سلاح للمقاومة السلمية، ويعضد ذلك الرأي ممثل سفارة فلسطين أحمد عوض، الذي قال لـ المنصة "دور الفن قوي في مقاومة أي عدو، وبخاصة الكاريكاتير كونه يعتمد على الصورة التي تصل أسرع للجميع، لدرجة أن قوتها دفعت بالاحتلال إلى اغتيال الفنان ناجي العلي بسبب رسوماته الكاشفة لحقيقتهم".
معتبرًا أنه إذا لم يكن الكاريكاتير يمثل مقاومة حقيقية تنتشر مثل النار بالهشيم وتعبر عن الواقع بصدق "مكانش هذا الشيء يستفز الاحتلال لدرجة اغتيال فنان فلسطيني لإظهاره العدوان والظلم".
منذ دخول إسرائيل الأراضي الفلسطينية عام 1948، تبدلت اهتمامات الأطفال فصارت أمنياتهم التخلص من العدو، بدلًا من الحصول على لعبة جديدة، واتخذ كثير من الفنانين من تلك المعاناة سمة رئيسة للوحاتهم الفنية إلى درجة التكرار، وهو ما نجده أيضًا في العديد من اللوحات المشاركة بالمعرض التي اعتمدت كغيرها التركيز على الطفولة الضائعة وسط الدمار والاحتلال، من دون إضافة وجهة نظر أو تسجيل موقف، فنجد لوحة للفنانة غادة مصطفى تجسد وجه طفل مذهول مما يحدث حوله متسائلًا "إيش صار؟"، وأخرى للفنانة هدير يحيى تجسد طفلة تقف تحت القصف ترسم حمامة وتكتب إلى جوارها "فلسطين حرة".
ينطبق الحال على لوحة فنان الكاريكاتير حسن فاروق، التي رسم فيها طفلة باكية إثر إصابة في ذراعيها جرّاء القصف الإسرائيلي وهي ممسكة بدميتها، لكن الفنان يدافع عن لوحته "نعم.. هناك لوحات كثيرة عالجت الموضوع ذاته، لكن لكل فنان رؤيته، ومن خلال لوحتي حاولت ألمس وتر حساس أقول فيه إنه حتى الطفولة البريئة تُقتل في غزة، وإن إسرائيل مسابتش حد، ولا تفرق بين طفل وشاب وامرأة وعجوز".
لم يرسم فاروق لوحته خصيصًا للمعرض، وهو ما يشير إلى الاستعجال في التنظيم أو الرغبة في الحضور دون بذل مجهود، غير أنه يؤكد عدم اشتراكه بها مسبقًا في معارض فنية أخرى، قائلًا لـ المنصة إنه يدعم القضية الفلسطينية برسوماته منذ أكثر مما يزيد عن 30 سنة "اهتمامي الأول هو القضية الفلسطينية، ولهذا تحمست جدًا للمشاركة في المعرض منذ بداية تنظيمه وأرسلت 8 لوحات تعبر جميعها عن معاناة الشعب الفلسطيني، غير أن الاختيار وقع على هذه اللوحة".
مصاص دماء وأسئلة مشروعة
ثمة قسوة تظهرها لوحة رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير الفنان مصطفى الشيخ، وهي رغم تكرارها لثيمة اللعب على وتر الطفولة، إلا إنها تظهر الوحشية التي تتبناها السياسة الأمريكية والإسرائيلية في سفك الدماء، إذ يصور الفنان أمريكا كشخص يضع طفل في عصارة، ويقدم دمائه الطازجة في كوب لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو الذي تجسده اللوحة كشخص له أنياب مصاصي الدماء، بينما يتدلى لسانه متعطشًا.
ويوضح الشيخ أن رسم اللوحة كان صعبًا واحتاج وقتًا على العكس الفكرة "التي كانت وليدة ما يعانيه أطفال فلسطين بخاصة منذ بداية قصف غزة". لافتًا إلى أن لوحته تدل بوضوح على مشاركة أمريكا في الجريمة، "لم يكن لإسرائيل ارتكاب المجازر الوحشية إلا بمساعدة أمريكا اللا محدودة في كل شيء، لكنهم يحدثونك عن الضمير وهم بلا ضمير، ويحدثونك عن الحرية بينما يكممون الأفواه إذا مست إسرائيل".
رسمت الفنانة التشكيلية إيمان السيد لوحة خصيصًا للمعرض، ورغم تأكيدها أن فكرة اللوحة استعصت عليها، فإنها ليست مبتكرة، حيث اعتمدت على رمز مفتاح البيت المعروف للدلالة على قضية عودة اللاجئين، فجسدت طفل يرسم مفتاح منزله على جدار، غير أن الجانب المشرق في اللوحة هو تعبيرها عن أمل العودة ذاته، تقول لـ المنصة "مفتاح البيت أهم شيء عند الفلسطينيين، فهو يمنحهم اليقين بالعودة إلى بيتهم مرة أخرى"، وتؤكد أنها لم تجد أنسب من ذلك الرمز للتعبير عن "قوة إيمان الفلسطينيين في الانتصار".
ومن ناحية أخرى، برزت لوحة فنان الكاريكاتير فاروق موسى، كإحدى اللوحات الحاملة لوجهة نظر مختلفة عن المعرض، إذ تضع سياسة أمريكا محل مساءلة من حيث تناقض موقفها في دعم أوكرانيا ضد الاحتلال الروسي، وبين دعمها إسرائيل لاحتلال فلسطين.
وتجسد اللوحة التي رسمها الفنان بعد بداية القصف على غزة، طائرتين أمريكيتين في اتجاهين معاكسين، واحدة مكتوبة عليها "إلى إسرائيل لدعم الاحتلال"، والثانية كتب عليها "إلى أوكرانيا لمقاومة الاحتلال". ويقول موسى لـ المنصة "حاولت فضح موقف السياسة الأمريكية التي تكيل بمكيالين، وتظهر تناقضها في دعم أوكرانيا بأحدث الأسلحة لمقاومة المحتل الروسي، ومن ناحية ثانية تدعم المحتل الإسرائيلي دون حدود، لدرجة زيارة الرئيس الأمريكي إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر".
ويعد موسى أمريكا في موقف لابد من تفسيره للعالم، غير أنه لا ينتظر إجابات "احنا اتعودنا على غياب العدالة" لكنه يعزي نفسه بأن "العالم شايف وفاهم، ولهذا خرجت مظاهرات في جميع أنحاء العالم، حتى في أمريكا نفسها، لاستنكار موقفها".
سيشارك موسى في معارض أخرى ستقام في الأردن والعراق عن القضية الفلسطينية "لأنه واجب علينا التعبير عن رأينا وفضح الموقف الأمريكي والإسرائيلي وكل الدول التي تدعم الاحتلال".
للمفارقة، يُتم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عامه الخامس والسبعين، وحيث إن الفن، كما صرح المشاركون في المعرض جميعهم، هو سلاحهم الشرعي، فإنه يبدو أن عليهم شحذه بأفكار جديدة تصور المقاومة الفلسطينية في أشكالها الواقعية المختلفة، وكذلك تدين الفاعلين الحقيقيين من العرب والغرب على السواء، الذين اشتركوا في قتل الأطفال الأبرياء سواء بالتواطؤ أو التخاذل.