تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
الزغرودة الفلسطينية

زغرودة مُرَّة.. عن الأمومة الواقعية والمتخيلة

منشور الثلاثاء 3 ديسمبر 2024

هناك عشرات الأسباب العقلانية والأخلاقية التي تجعلني أنتظر نهاية الاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين، أولها ميزان العدل. أقيم الكيان الإسرائيلي بإرادة وتسليح الاستعمار القديم الذي فبرك بالإرهاب دولةً لليهود على أرض شعب قائم عليها. ولم يضع الكيان المحارب السلاح إلى اليوم، وليس بين سكانه مدنيون إلا الأطفال والموتى.

هذه الطبيعة الظالمة والمعتدية، إضافة إلى الطبيعة التوسعية للكيان التي لا ينكرها سكانه، كلها أسباب منطقية لانتظار زوال الاحتلال البغيض، ويبقى لديَّ سبب عاطفي، لم أبح به من قبل، وهو رغبتي في رؤية دموع الأم الفلسطينية.

زغرودة لا عقلانية

رغبة تبدو خرقاء طالما عذبتني في صمت، لكنني أبوح بها اليوم، بفضل كتاب رحم العالم..أمومة عابرة للحدود الذي أصدرته دار تنمية مؤخرًا للكاتبة والأكاديمية شيرين أبو النجا التي توقفت أمام زغرودة أم الشهيد ووضعتها تحت التحليل، مستندة إلى كتابات وشهادات، نعرف منها أن الأم الفلسطينية تعي فداحة الزغرودة التي تلتزم بها عند استقبالها الشهيد. ردة فعل غير منطقية إلى درجة الإيلام، لكن الأم الفلسطينية ترى العدو قبل أن ترى نفسها وابنها، وتزغرد تفاديًا لشماتته.

هذا لا يعني أن الأم الفلسطينية لا تبكي، لأنها تبكي وتقلق سرًا طوال حياة ابنها، حيث تترقب اللحظة التي ستسمع فيها طرقات على الباب تخبرها باستشهاده، فتكون الزغرودة وداعًا للشاب، وكأنها حصيلة كل البكاء الذي بكته أمه في حياته.

بقدر لا أخلاقية ولا عقلانية فبركة دولة لليهود على أرض فلسطين، بقدر لا عقلانية الزغرودة الفلسطينية، حتى إن وقعها عليَّ انسحب على زغاريد الأفراح المصرية، فصارت تدفع بالدموع إلى عينيَّ في ليالي الفرح.

بسطت قسوة الزغرودة الفلسطينية نفسها على كل الزغاريد. وهذا بحد ذاته سبب منطقي وأخلاقي يضاف إلى الأسباب الأخرى لرفض كيان يغتصب كل شيء حتى اللغة والأخلاق، إلى حد أن مجرم الحرب الإسرائيلي يعترض على قرار المحكمة الدولية ويتهمها بفقدان بوصلة العدالة!

ليس كل كتاب شيرين أبو النجا عن الأمومة الفلسطينية، وإن كانت هي الأكثر مأساويةً وتمثيلًا لمعضلة الأمومة في العالم كله التي يتناولها الكتاب، عبر تحليل نصوص أجيال مختلفة من الكتب والأفلام والصور الفوتوغرافية واللوحات، لتصل في النهاية إلى سؤال مهم: هل يمكن اختتام كتاب عن الأم؟

الموضوع بالفعل شاسع، ولا يهم النساء فحسب؛ لأنه في صُلب فكرة التقدم والتنمية، كما أنه ليس موضوعًا نخبويًا، بل يقع في قلب الحالة السياسية.

مركزية الأمومة

انبثقت دراسات المرأة والأمومة ثم دراسات الجندر/النوع الاجتماعي من نضالات النساء أواخر القرن التاسع عشر، وتركزت في البداية على الحقوق الأساسية للمرأة كالتعليم والعمل والتصويت. وبحكم هذه النشأة ظلت للنساء الأغلبية بين الدارسين، حتى بعد أن فرضت دراسات الجندر نفسها على الحقل الأكاديمي في سبعينيات القرن العشرين، ودعمتها المنهجيات التقاطعية التي تهتم بتداخل الظواهر الاجتماعية والسياسية وتأثيرها في بعضها البعض.

اجتذب الموضوع مفكرين رجالًا، خصوصًا المهتمين بدراسات السلطة، ومثالهم البارز ميشيل فوكو، الفيلسوف الذي تتبع في أعماله صور وتمركزات السلطة وعنفها، وفي سعيه المشكور ذاك رصد استخدام السلطة لمفاهيم الجنوسة، بل ومساهمتها في تشكيل وصياغة تلك المفاهيم بما يخدمها.

الصورة النمطية للأم ليست حكرًا على الثقافة العربية وحدها بل صورة معممة على العالم كله

تقرأ أبو النجا المفارقة بين مركزية دور الأم في الإبداع العربي، حيث لا تخلو رواية من أم، وبين السكوت البحثي عنها في الثقافة العربية التي "لم تسمح بتحويل الأمومة إلى سؤال بحثي مطلقًا، بل حرصت على تسييجها داخل إطار يختلط فيه الديني والمحرم والمقدس والوطني، ليبقى الأمر على ما هو عليه. الثقافة العربية تعي خطورة السؤال".

الصورة الكاسحة التي فرضتها السلطة الأبوية والسلطة السياسية للأمومة هي صورة الملاك المضحي، الذي تقوم تضحيته على الغريزة. صفة واحدة ثابتة لا تعرف التعددية ولا تعرف الرغبات، المتوارية حد الغياب من أجل ظهور أبنائها، حتى عندما تفقدهم. هي أم الأبطال وأم الشهداء.

نمطية الصورة والدور

صورة لغلاف كتاب رحم العالم أمومة عابرة للحدود، من حقل مناقشة للكتاب الجمعة 29 نوفمبر 2024

هناك أطراف متعددة لديها ثقلها الرمزي ترسم الدور النمطي للأم وتستثمر فيه وتجني أرباحه، من الاحتفالات السنوية بعيد الأم وجوائز الأمهات المضحيات، إلى تجارة الهدايا في هذه المناسبة، إلى المسلسلات التليفزيونية، إلى الوعظ الديني. وحتى في التشريع، إذ أقر الدستور المصري فكرة إلزام النساء بدور الزوجة والأم كأولوية في المادة 11، التي تبدأ بالنص على كفالة الدولة للمساواة بين المرأة والرجل، وتكفل للمرأة حقها في تولي المناصب القيادية لكنها تنتهي بالنص على "تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل" الأمر الذي لا يُنص عليه عند الرجل. هكذا خضع التشريع للصورة الاجتماعية السائدة للمرأة.

لا تتردد السرديات الأدبية في إعادة تدوير هذا الخطاب، ونجده في شهادات الكتاب والكاتبات عن أمهاتهم، دون أن تكون هناك إمكانية لعزل الدوافع الذاتية لدى الكاتب، عن الدوافع الأخرى كتوقع رأي الجمهور على سبيل المثال.

في المقابل هناك كتابات لم تتردد في مساءلة هذه الثوابت، من بينها كتاب إيمان مرسال كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها، وتعتبره شيرين أبو النجا حجرًا كبيرًا حرَّك المياه الراكدة، لذا تعاود الرجوع إليه في غير موضع جنبًا إلى جنب مع عديد من الأعمال كرواية مخمل للكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب وحليب أسود للتركية إليف شافاك، إلى أحدث الإبداعات رواية استغماية للكاتبة كاميليا حسين.

لكن الصورة النمطية للأم ليست حكرًا على الثقافة العربية وحدها، بل صورة معممة على العالم كله، من هنا نفهم عنوان الكتاب، رحم العالم. لكن الأيديولوجيا الأبوية تنكر هذه الحقيقة وتُصرِّ على اختلاف المرأة بين الشرق والغرب.

كتاب التشويه واحد يقرؤه جميع الطغاة

روّج الاستشراق لتخلف الشرق من خلال صورة مجتمع الحريم المغلق وعري أسواق العبيد والمواخير. واستنادًا إلى هذا التخلف الذي يكشفه عري المرأة وخفاؤها وضع الاستشراق الأساس الأخلاقي للاستعمار، فجاءت المدافع بادعاء نشر الديمقراطية وإنقاذ الشعوب من تخلفها. ومن المدهش ألَّا يتقادم هذا الادعاء بعد كل دراسات نقد الاستشراق، إلى درجة أن يستخدمه بوش على عتبات الألفية الثالثة يوم تدمير العراق. في المقابل يروج الاستبداد الشرقي لمسلكه السياسي بادعاء اختلاف ظروف المجتمعات، ودليله صورة امرأتنا وأمنا "الفاضلة" التي لا تشبه امرأة الغرب المتفسخة.

هذا التبادل المؤذي للمنافع بين السلطة على الضفتين، يجب أن يدفع كل المعنيين بالمستقبل، رجالًا ونساء، إلى الاهتمام بالجهود البحثية التي تتوخى إزالة الأوهام عن صورة المرأة والأم، كجزء من رغبتنا، إن كانت لدينا رغبة حقيقية، في الصمود الحضاري. ومن هنا تحديدًا يأتي فرحي بكتاب رحم العالم لدعم مجال بحثي لم يزل غائمًا في الثقافة العربية وتواجهه سدود منيعة ومتاريس من العادات والدين وأصحاب المصلحة في بقاء مجتمعاتنا عليلة.

الوعي بالثأر الحضاري، المتمثل في الاستعمار والورم الباقي باسمه في قلب العالم العربي، لا يجب أن يجعلنا ننكر أن الأفكار الأكثر نضجًا في دراسات الجندر جاءت من الغرب، وأن المنهجيات التقاطعية التي صارت ضرورة لفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية جاءت من الغرب كذلك.

المشكلة الصامتة

تقدم شيرين أبو النجا الجهود البحثية الغربية التي خلخلت صورة الأم الأيقونة لصالح الأم الإنسان، وصورة الأمومة كغريزة طبيعية، لصالح أمومة الممارسة الواعية لدورها وعوامل الاقتصاد والثقافة والسياسة التي تساهم في رسم هذا الدور.

ويبدو الإبداع دائمًا أسبق من البحث؛ فالإبداع أقدر على طرح سؤال الروح، وأقدر على تمرير السؤال. تعتبر شيرين أبو النجا رواية اليقظة التي أصدرتها الكاتبة الأمريكية كيت شوبان عام 1899 نقطة بداية، حيث كانت الأم والزوجة إدنا تتوق إلى ممارسة دور مختلف فانعزلت، فما كان من زوجها إلا أن استشار الطبيب.

وفي 1963 أصدرت بيتي فريدان كتابها اللغز الأنثوي وتبنت تعبير "المشكلة الصامتة" توصيفًا لعدم رضا النساء عن الدور الجزئي المرسوم لهن، وبعد ذلك توالت الدراسات بفعل حراك الستينيات والسبعينيات، وصولًا إلى جوديث بتلر في كتابها قلق الجندر؛ النسوية وتخريب الهوية 1989 الذي تؤكد فيه أن الجندر شيء لا نولد به بل نمارسه. تجد مقولة بتلر صداها في فصل تناولت فيه أبو النجا ظاهرة "الأم الأبوية" التي نعرفها جيدًا في مجتمعاتنا، عندما تقوم المرأة بحراسة قيم الرجال.

مسيرات في بلازا دي مايو يومي 9 و10 ديسمبر 1982 بشعارات "ظهور المعتقلين المختفين أحياء، إعادة الأطفال إلى أسرهم الشرعية وحرية السجناء السياسيين"

قرأت الكاتبة الظاهرة من خلال قصتين؛ الأولى لنوال السعداوي هي موت معالي الوزير سابقًا، التي صدرت عام 1988 في مجموعة قصصية تحمل الاسم نفسه، والثانية قصة "فتاة" للكاتبة الكاريبية جامايكا كينكيد في مجموعتها الأولى في قاع النهر عام 1983. تكشف المقارنة بين القصتين عالمية الظاهرة. ولا تقف الأكاديمية المصرية في رصدها لجهود المرأة عند حدود قراءة الكتب والأفلام والصور، بل إلى الجهود العملية لحركات نسائية، مثل حركة الأمهات إبان دكتاتورية خورخي بيديلا في الأرجنتين (1976 - 1981)، حيث تصاعدت ظاهرة الإخفاء القسري.

استطاعت الحركة أولًا التحايل على القوانين العرفية بمنع التجمعات، بالدوران صامتات، اثنتين اثنتين، حول نُصب الساحة الرئيسية بالعاصمة، واشتهر طقسهن الأسبوعي في العالم كله، وأصبح ضغطًا لا يحتمله الحكم الديكتاتوري. وأهم ما ميَّز الحركة أن عضواتها لم ينفين الفعل السياسي عن أبنائهن أو يستعطفن أو يقلن إن أولادهن جرى التغرير بهم، بل قالوا إن أبناءنا اختفوا لأن لديهم وجهة نظر، وحركتنا سياسية حقوقية.

رد دكتاتورية بيديلا أو فيديلا كان تشويه سمعة هاتيك الأمهات. كتاب التشويه واحد يقرؤه جميع الطغاة، ولن يكون التشويه مؤلمًا وناجعًا، إلا إذا استثمر الاستبداد طويلًا في تأبيد صورة الأم المضحية التي لا دور لها في الحياة سوى انتظار أولادها في البيت.