قد تلوح مسألة الأمومة أحيانًا كشبح قوي يهدد المرأة على المستوى النفسي بالانقسام، وفي الكتابة تحديدًا فإنها تظهر كمنافس حقيقي؛ يتحول فعل الأمومة إلى شبح يتحكم في المشهد ويفتح باب التساؤلات الواعية والقاسية عن جوهره.
الكاتبة عندما تقوم بطرح تلك التساؤلات فإن مرجعيتها غالبًا ما تكون أدبية، فيختلط السؤال بإجابة مرتكزة على عمل أدبي نسوي أو مجريات حياة كاتبة أخرى، وكأن الكتابة ناتجة من إلهام كتابة أخرى فيتحول التفكير والسؤال إلى سلسلة أدبية من الفعل الأمومي.
على سبيل المثال، تُعلن الشاعرة المصرية إيمان مرسال سؤالها بوضوح في عنوان كتابها كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها (2017). فمرسال حين تختار فعل الالتئام لابد أن يكون هناك انشطار ما، كما أن حرف العطف يضع الأشباح في معية الأمومة وعلى قدم المساواة معها.
الكاتبة التركية إليف شافاك تلجأ أيضًا إلى المجاز في عنوان كتابها حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم (2017). في حين يكتسب الحليب لونًا مغايرًا، بل مناقضًا للونه المعروف، يساوي حرف العطف بين فعلي الكتابة والأمومة ومنظومة اجتماعية طبقية وهي الحريم.
المرء لا يولد امرأة
ينطلق كل كتاب من نقطة زمنية وجغرافية مختلفة، والأهم من حالة نفسية فريدة قائمة بذاتها. فتكتب إيمان مرسال من كندا، حيث تقيم، وهي مشتبكة مع حياة ولديها، نَحت الشعر جانبًا في سبيل فهم جوهر الأمومة المختلف عن الصورة الراسخة في المتن الثقافي العام، أملًا في فهم أعمق للذات، أما إليف شافاك فنحّت السرد لتكتب تجربتها بعد أن تجاوزت اكتئاب ما بعد الوضع. يبدو الدافع للكتابة مختلفًا ظاهريًا، لكنه في الحقيقة يلتقي عند نقطة محددة: محاولة الفهم.
تقول مرسال "عندما كتب يوسف في عزلته عن أجمل لحظات حياته، كان من بينها (أن تجلس ماما في الطرقة بين غرفتي وغرفة أخي وتغني لنا توينكل توينكل بذلك الإيقاع الخطأ". من أجل أن أفهم يوسف ولو قليلًا، كتبت هذا الكتاب"، ومن أجل أن تفهم ابنها كان لابد أن تكتب عن الأم التي غابت عنها مبكرًا لتفهم مرجعية أمومتها.
أما شافاك فتشرح أن الحمل أخذها على حين غرة لكنها قررت الاحتفاظ به، "وبدا الأمر وكأن جزءًا آخر مني- جانب الأمومة التربوي والبيتي- راح الآن يتمرد على الجانب الذي استمر في الهيمنة عليّ طوال تلك الأعوام"، فبعد أن تجاوزت الاكتئاب أدركت أنه "يمكن أن يكون فرصة ذهبية تمنحنا إياها الحياة لنواجه مباشرة قضايا بالغة الأهمية على قلوبنا، بيد أننا غضضنا الطرف عنها إما عن جهل أو عجالة".
تبدو مرجعية الأمومة على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لمرسال وشافاك، كيف نمارس الأمومة ومن أين نستقي أفكارنا عنها؟ تقول مرسال "يبدو أن التفكير في الأمومة يستدعي النظر في نفس اللحظة إلى اتجاهين مختلفين؛ اتجاه الماضي عندما كنت ابنة لأم، واتجاه المستقبل عندما أصبحت أمًا لطفل. لا أعرف بأي طريقة تشكل البنوة أمومتنا لكن في مقدوري أن أتخيل استحالة تحييدها أو تفاديها. هل يمكن أن يكون ذلك في حد ذاته سببًا غير مرئي لتوتر أمومتنا؟".
تؤكد شافاك المعني ذاته "غير أن المرأة لا تصبح أمًا في اللحظة التي تنجب فيها لأن الأمومة عملية تعلُّم، وهي تأخذ عند بعض النساء وقتًا أطول مما تأخذه عند نساء أخريات. فهناك أمهات مثلي يجدن أنفسهن وقد ارتعشن من أعماقهن بفعل هذه التجربة". يمكننا هنا أن نسمع أصداء مقولة سيمون دو بوفوار الشهيرة "المرء لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة". لابد أن نواجه أنفسنا بالسؤال الصعب: هل الأمومة فعل غريزي أم مكتسب؟
تحاول كل كاتبة أن تفهم المرجعية الغائمة لفعل الأمومة، التي لا تتوفر بجلاء إلا في توقعات مجتمع يرى في المرأة مجرد وعاء، ومن ثم يحدد لها الأدوار. لذلك أصبحت الكتابة ضرورة تساعد على الالتئام، وردم الهوة بين الأدوار المتعددة والذات المنقسمة.
تشتبك كل كاتبة مع إشكالية بعينها: كيف تلتئم الذات عندما تصير أمًا؟ مع اختلاف المسار النفسي لكل واحدة منهما واختلاف التجربة بالطبع، يمكن النظر إلى منحنيات رئيسية مشتركة بينهما، وهي: جوهر الأشباح وتجلياتها، ووسائل الالتئام التي تمنح الذات مسارًا تعيد فيه تجميع شتات الانقسام.
بيضة معرضة للشرخ
من أجل فهم هذه الأشباح تمهيدًا للتصالح معها قامت شافاك بسرد رؤيتها لذاتها وللعالم في "حليب أسود" منذ مرحلة ما قبل الزواج، وهو ما يفسر طول الكتاب نوعًا ما. وقد لجأت إلى حيلة فنية في سرد أشباحها، فعمدت إلى تجسيدهن في شكل نساء إصبعيات. بالطبع يؤشر وجود تلك الشخصيات على الجوانب المختلفة في الشخصية التي تتحول في الأزمات إلى ذات منقسمة، هي في الأصل متعددة، تتصارع تعدديتها للحصول على الغلبة.
تُجسد شافاك جوانب ذاتها في ست صفات: العملية الصغيرة، الساخرة رفيعة الثقافة، العالية الأنوثة (بوفاري)، التشيخوفية النبيلة الطموح، ذات الحس الأمومي (ماما الرز بالحليب)، المتصوفة (السيدة الدرويشية). لا تراوغ الكاتبة في إقرارها بالانقسام، فتقول إنها "امرأة منقسمة على قسمين داخلها: شرقية وغربية. امرأة تعشق عالم الخيال أكثر مما تعشق عالم الواقع؛ امرأة أنهكتها سنة بعد سنة تناقضات لا فائدة منها، وعلاقات غير صحيحة وغراميات فاشلة، امرأة لم تتجاوز بعد الجرح الذي أصابها على أثر نموها من دون أب، ...امرأة تخشي ألا يهتم بها الله حقًا ولا يمكنها أن تكون سعيدة أو كاملة إلا بكتابة رواية".
تبدأ ايمان مرسال كتابها بمقطع من قصيدة الشاعرة البولندية أنا سوير (1909- 1984) التي تُوجه الكلام لابنتها المولودة للتو، وتقول فيها "أنت لن تهزميني/ لن أكون بيضة لتشرخيها/ في هرولتك نحو العالم، / جسر مشاة تعبرينه/ في الطريق إلى حياتك/ أنا سأدافع عن نفسي". لابد أن نتذكر أن ديوان وبيننا حديقة لسارة عابدين ومروة أبو ضيف استخدم ذلك المقطع في تصديره أيضًا مع الإشارة إلى ترجمة إيمان مرسال وهو ما يوضح الارتباط بين الموضوع (أي الأمومة) والشكل (تضفير سلسلة أمومية).
تمثل صورة البيضة المعرضة للشرخ الشبح الأول الذي يواجه مرسال، فكما ارتأت شافاك أن الأمومة هي العطاء اللا محدود في مقابل الكتابة التي تنطوي على أنانية العزلة، تري مرسال أن الرعب والتهديد يكمنا في أن "لحظة ولادة شخص جديد تتطلب موت كائن آخر، موت السابق شرط لا غنى عنه لكي يحصل الجديد على مجال لحياته".
عبر طرح تساؤلات حول جوهر الأمومة تؤسس كل كاتبة لبناء سرديتها، فتسعي شافاك إلى قراءة الخبرات السابقة للكاتبات من كل أنحاء العالم فيما يتعلق بالعاطفة والجسد والأمومة، وتنقب مرسال في معني الصورة التي تجمعها بأمها في السبعينيات من القرن العشرين، وخلال رحلة التنقيب تتطرق إلى العاطفة والجسد والأمومة أيضًا، وتركز على صورة الأم الراسخة في المتن الثقافي.
لا يعترف المتن العام بالشخصي والخاص، فإذا كانت مرسال تسعى إلى تفنيد صورة الأم في المتن الثقافي العام، وهو ما أنجزته فعليًا، فهذا يعني أن البديل هو الإقرار بالخصوصية، فهي ذاتها تقول "مع كل خطوة في تلك الرحلة سيواجهك سؤالًا جديدًا وكأنه عليك اختراع أمومتك من البداية، كأنها لم تحدث لأحد قبلك، كأنها اختبار لا نهائي لوجودك الشخصي ذاته، لعلاقتك بجسدك أولًا ثم علاقاتك بكل ما كنت تظنين أنه أنتِ ثانيًا".
بالمثل، تقول شافاك في نهاية سرديتها الشخصية التي استعانت فيها بخبرات سابقة من أجل فهم العلاقة
بين الكتابة والأمومة، "إننا اليوم لا نتكلم أو نكتب الشيء الكثير عن وجه الأمومة الذي بقي في الظل، بل عوضًا عن ذلك، نكبر على نمطين من التعليم المهيمن وهما: الرأي التقليدي الذي يفيد أن الأمومة تمثل أقدس وأهم التزام، وأن علينا أن نتخلى عن كل شيء في سبيل هذا الواجب. والرأي الثاني هو رأي مجلات المرأة الحديثة، الذي يصور المرأة الفائقة أساسًا، التي تتمتع بوظيفة ولها زوج وأطفال، وقادرة على إشباع حاجات كل فرد"، وبالتالي تجيء سرديتها الخاصة لتقوض تلك الثنائية عبر النظر من زاوية أوسع إلى سؤال الأمومة والكتابة.
لون الحليب
إذا كانت الأدبيات النسوية لم تُنقب بما يكفي في سؤال الأمومة وخبرتها فإن سردية إيمان مرسال وخبرتها التي دونتها في كيف تلتئم تُعد مرجعًا أوجد لنفسه مكانًا في أدبيات الخبرة الشخصية التي تنطلق من الخاص لتلتحم مع العام، وبالمثل يُمكن التعامل مع حليب أسود كسردية تؤسس لأهمية الخبرة الشخصية، التي استفادت من الخبرات السابقة دون أن تتماهى معها، فقد اعترفت بخصوصية كل تجربة.
في كل التجارب "الشخصية" تمر تلك اللحظة التي يكتسب فيها الحليب لونًا أسودًا ولا يبقى سوى الحفر والتنقيب ومواجهة الذات من أجل استعادة اللون الأبيض، تنجزه كاتبة تركية تعتمد حياتها على الترحال والكتابة، أو تطارد أخرى مصرية تقيم في كندا أشباح الأمومة بالكتابة.