لجأت سمر سلطان لاستقلال التاكسيات في مشوارها اليومي من المهندسين إلى وسط البلد أملًا في أمان مؤقت من وطأة التحرش في شوارع العاصمة إلى أن جاء يوم تعرضت فيه لموقف لا يُنسى. تقول لـ المنصة "كنت باتحرك بتاكسي دايمًا، لحد ما سواق مارس العادة السرية وأنا راكبة معاه في التاكسي، كان كل شوية يتلفت يبص عليا، ولما كررها، سألته فيه حاجة؟ قال لأ، وفجأة لقتيه مبهدل هدومه وبيقولي معاكي مناديل؟ أول ما وقف في إشارة فتحت الباب وجريت وأنا منهارة".
خلال السنوات الماضية، اختبرت جميع أنواع المواصلات ولم تسلم من المضايقات في أي منها؛ جربت تطبيقات النقل الذكي مثل أوبر وكريم، وكذلك الميكروباصات وأوتوبيسات النقل العام.
لم تتخذ سمر، التي تبلغ من العمر 38 سنة، أي رد فعل في واقعة التاكسي بسبب الخوف، "كانت شخصيتي وقتها غير دالوقت، خفت أفضح نفسي أو حد يلومني". لكن استخدام التطبيقات لم يُغنها عن التعرض للمضايقات "جربت أبليكشن كريم، اتعلمت بعد التحرش اللي واجهته في التاكسي أني أقعد ورا السواق مباشرة عشان ميبصش عليا. لكن سواق كريم كان مرّجع الكرسي على الآخر وعايز يجبرني أقعد في النص أو قدام جنبه، بحجة إنه مبيعرفش يسوق غير كده، وكان صوت الأغاني عالي جدًا ورفض يوطيها" تقول سمر.
تتميز التطبيقات بإمكانية عمل شكوى، وبالفعل قدمت شكوى "بعدها عملوا بلوك للسواق، وقالوا مش هيظهر لك تاني. ورجعولي فلوس الرحلة، لكنه طبعا هيظهر لغيري عادي".
تخلت سمر التي تعمل كاتبة محتوى عن التاكسي والتطبيقات، واعتمدت الميكروباص، فلم تسلم أيضًا من التحرش، "كل شوية حد يخبط على كتفي بحجة إنه بيدفع الأجرة، وفيه اللي يحك فيا وهو نازل".
غير أن واقعةً أخرى كادت تدفعها للتخلي عن الميكروباص أيضًا، تتذكر "راجل كبير حط إيده في جيب بنطلوني من ورا لفيت وضربته بالقلم. الناس هزقتني إني بمد إيدي على واحد عجوز".
انتهت سمر إلى خطة بدت لها محكمة؛ تكلفة مناسبة للحركة اليومية، وأمان نسبي، "بركب جنب السواق، عشان أكون معزولة عن باقي ركاب العربية؛ لكن ده بيخليني أقف وقت طويل عشان ألاقي عربية فاضية، وبدفع تكلفة مضاعفة طبعًا".
التطبيقات الذكية التي تعتمد على سيارات خاصة ليست أحسن حالًا
تجربة سمر مع المواصلات تخوضها النساء في مصر يوميًا، حسب دراسة صدرت عن مركز الإنسان والمدينة للأبحاث الاجتماعية في سبتمبر/أيلول 2022، إذ تُشكل الميكروباصات 37% من رحلات النقل اليومية، لأنها تستجيب لحاجات السكان للتنقل بين رقع جغرافية أوسع، وبتكلفة متوسطة. مع الإقرار أنها الأعلى في حوادث التحرش، إذ قدرت نسبة تعرض النساء للتحرش الجنسي بالمواصلات العامة بـ81.8%، كان النصيب الأكبر فيها للميكروباصات بنسبة 60%.
المشكلة في أوبر
لا تخلو السوشيال ميديا من شكاوى النساء من الاعتداءات الجنسية، ومحاولات الاختطاف أو السرقة أثناء استخدامهن وسائل النقل المختلفة، الخاصة والعامة على حد سواء؛ تتجه النساء للسوشيال ميديا بالشكوى بسبب تخوفهن من عمل محاضر في أقسام الشرطة. ولا تنتقل الشكوى إلى الشرطة إلا عندما تواجه النساء خطر الموت، مثلما حدث مع حبيبة الشماع منذ شهرين، إذ تسبب السائق في موتها بعد أن قفزت من السيارة أثناء محاولة خطفها، وتوفيت بعد غيبوبة استمرت 20 يومًا، أو ما حدث مع نبيلة عوض التي تعرضت لاعتداء ومحاولة اغتصاب أثناء استقلالها أوبر.
تحكي أسماء عبد الحميد لـ المنصة كيف لاحقها سائق أوبر، تقول "بعد ما وصلني قالي أنا ممكن أستناكي أرجعك، رفضت وقلتله لأ أنا هتأخر. قاللي مش مهم، وأنا بصراحة خفت منه لأن شكله كان مريب. أخد رقمي واتصل بيا وقاللي قدامك قد إيه؟ قلتله يا فندم قلتلك أنا هتأخر وهارجع مع أخويا. ولما جيت أروّح لقيته لسه واقف بره مستنيني".
تعتقد أسماء التي تبلغ من العمر 32 سنة وتعمل مُدرسة أن الحل في حملة مقاطعة للتطبيق. أما نشوى البهنساوي فتعرضت للسرقة، وبادرت بعمل بلاغ وصل للنيابة، فيما لم تحرك الشركة ساكنًا.
تقول نشوى ذات الـ43 سنة لـ المنصة "سرق شنطتي، وأوبر تقريبًا اتسترت على السواق"، تعتقد نشوى التي ترأس إدارة الموارد البشرية بإحدى الشركات الخاصة أن السرقة "مكانتش صدفة. دي طلعت حاجة منظمة، تشكيل عصابي على صغير كده"، ما يثير الشك في معايير الأمان التي تتبعها الشركة، والتي ليس لديها فرع في مصر ولا خدمة للعملاء.
تتفق المستشارة في المجلس القومي للمرأة دينا الجندي مع ما تعتقده نشوى، تقول لـ المنصة "هناك العديد من الثغرات وهو ما يضاعف من فرص تعرض الفتيات للخطر"، مستدلةً على ذلك بتصريحات عثمان إبراهيم عثمان، الممثل القانوني لشركة أوبر بعد واقعة حبيبة الشماع حول أن الشركة أغلقت حساب السائق لكثرة شكاوى العملاء منه، فأنشأ واحدًا جديدًا باستخدام رقم قومي آخر.
تعتقد نشوى أن المشكلة تتعلق بشركة أوبر، تقول "رغم تبعية (كريم) لنفس الشركة، لكن ثمة عوامل جعلت بها بعض عناصر الأمان. فيه أوبشن للطوارئ، وده من خلاله تقدر تطلب النجدة أثناء الرحلة. وكمان ليهم خط ساخن وخدمة عملاء، لكن أوبر معندهاش". تعتمد نشوى على أبليكيشن كريم في تنقلات ابنتها التي تبلغ من العمر 13 سنة.
وفي محاولة منها لتدارك الأخطاء مع تكرار الحوادث، أتاحت "أوبر مصر" منذ فترة قصيرة خاصية التسجيل الصوتي للرحلات، لتسمح للتطبيق بتسجيل الصوت أثناء الرحلة، ويخزن التطبيق الملف مشفرًا على جهاز المستخدم مباشرة، ولا يتاح للشركة إلا في حالة الإبلاغ عن حادث.
نفصل الستات لوحدهم؟
اعتبرت دينا الجندي أن تشديد الرقابة من الدولة على شركات النقل الخاصة ووضع عقوبات مشددة على السائقين سيساهم في الحد من التعدي على النساء، وخلق مساحة آمنة لهن في المواصلات.
لم تقوَ ندى على مواجهة المضايقات اليومية في المواصلات فقدمت استقالتها من عملها
"مش هنقدر نفصل الستات لوحدهم، لكن نقدر نعمل قانون رادع، مش مجرد جنحة تنتهي بدفع فلوس. لازم عقوبة مشددة لكل من تخول له نفسه يتعدى على ست"، تقول دينا مطالبة بزيادة الرقابة على سائقي الشركات.
كما أوصت الشركات أن يختاروا سائقيهم بعناية، "ويعلنوا عن أي سواق حصلت في حقه شكاوي ويتقفل فورًا حسابه مع حظر السيارة؛ مش يغير الرقم القومي ويروح يشتغل بنفس نمر العربية ويتسبب في قتل بنت في العشرينات من عمرها فالشركة تتبرأ منه وخلاص" تقول دينا، كان محامي حبيبة الشماع قد أوضح أن السائق تقدم للشركة بأوراق مزورة.
لم تقوَ ندى صاحبة الـ32 سنة على مواجهة المضايقات اليومية في المواصلات، فقدمت استقالتها من عملها بخدمة العملاء داخل شركة خاصة، ورفضت كافة الفرص التي أتيحت لها بدوام كامل، تقول لـ المنصة "بقيت بشتغل من البيت عشان مركبش مواصلات".
تعرف ندى أن ذلك يؤثر في مستقبلها المهني "لكن معنديش استعداد أدفع التمن من أعصابي وسلامي النفسي". لم يتأثر عملها فقط، إذ يؤثر إحساسها بعدم الأمان على حياتها، "ما بعرفش ألبس حاجة تفرحني ولا أخرج مع أصحابي".
يبدو رد فعل ندى متماشيًا مع نتائج دراسة حديثة أجرتها منظمة العمل الدولية، قالت إن محدودية الوصول إلى وسائل النقل وسلامتها من أكبر العقبات التي تواجه النساء في البلدان النامية، مما يقلل من مشاركتهن المحتملة في القوى العاملة بنسبة 16.5%.
تكلفة ع الفاضي وكله خطر
تستخدم النساء سيارات الأجرة، سواء التاكسي أو الأبليكيشنز، في محاولة لتوفير الأمان مقابل تكلفة مادية أعلى، كما تفعل مريم سليمان، خريحة المعهد العالي للسينما.
تقول لـ المنصة "تجاربي مع المواصلات العامة كلها حزينة، لكن فترة دراستي وبعد التخرج مكنتش مستقرة ماديًا، فمكانش عندي قدرة أخصص ميزانية لأوبر. حصل لي تحرش ومضايقات، وبقيت باخد كرسيين قدام في الميكروباص. وفي الأغلب كان السواق هو اللي بيحاول يتحرش بيا أو يحاول يلمسني، وع الأقل خالص نظرات مريبة، فمكنتش بحس بأي أمان".
بمجرد أن أصبح لدى مريم ذات الـ27 سنة دخل مادي مستقر بدأت في استخدام الأبليكيشنز "لكن بردو مش بكون مرتاحة وفيه مضايقات".
أما تسنيم منير، 28 سنة، فتشعر بالغضب لأنها تضطر لدفع مبالغ كبيرة "عشان محدش يلزق فيا، ولا يلمسني!" تقول لـ المنصة.
تحاول تسنيم تقليل التعامل مع الميكروباصات والأتوبيسات عامة "لما بيكون معايا فلوس"، لكنها تتساءل "هو ليه الأمان للستات بفلوس؟ وحتى لما بندفع زيادة مش بنكون متأمنين، موبايلي اتسرق في ديدي من السواق والشركة رفضت تساعدني".
كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن نسبة النساء اللاتي تعرضن للتحرش في المواصلات العامة بمصر تقدر بـ6.6%، و9.6% نسبة النساء اللاتي تعرضن لأي شكل من أشكال التحرش في الشارع، وفقًا لنتائج مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
وهو ما يختبره عمرو محمد، مدير وحدة الدعم القانوني بمبادرة حقي النسوية، خلال عمله اليومي. يقول لـ المنصة "النساء يتعرضن لمخاطر كثيرة داخل وسائل المواصلات"، ويضيف "جالنا كذا حالة تحرش في المواصلات وحاولنا نقدم لهم دعم قانوني، بإننا نحرر محضر ونصمم إنه يكون تحرش. مايتحولش لمحضر مشاجرة. لكن للأسف الناس كانت بدل ما تمسك المتحرش بتهربه، والسواق بيكون موقفه سلبي جدًا، وبينزل الجاني بسرعة وبالتالي مبنقدرش نوصل له".
أصبحت سمر وجهًا مألوفًا لسائقي الميكروباص بموقف سيارات الأجرة في منطقة الإسعاف بوسط القاهرة، "بقيت أخاف أطلب عربية من أي أبليكيشن. أحسن لي أتحمل وجع رجلي وأنا واقفة مستنية عربية فيها مكان فاضي جنب السواق. باتعب طبعًا، بس دي أرخص طريقة أقدر أقلل بيها التحرش وأفضل قادرة أتحرك وأشتغل".