لم يهنأ فقراء مصر بوسائل مواصلات مريحة على مدار تاريخهم، فقديمًا كانت قلة منهم تستطيع تأجير حمار يمضي بهم إلى حيث يقصدون في شوارع المدن، وكان من يقدر على ركوب حمار ينظر إلى راكبي الدوكار، وهو هودج مريح تجره الخيول، على أنهم يرفلون في النعمة. انتقلت هذه المقارنة في زماننا بين راكبي باصات النقل العام والمترو والتروماي والميكروباصات وقطارات الدرجة الثالثة والتكاتك والدراجات، ومالكي السيارات الخاصة.
مع ارتفاع أسعار الوقود لم يعد أصحاب السيارات الملاكي من أبناء الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها قادرين على استعمالها طوال الوقت، أو ركوب تاكسيات الأجرة ومعها أوبر وكريم، التي زادت أسعارها. وبات عليهم حشر أجسادهم مع الفقراء في وسائل تنقّلهم غير المريحة.
زاد الأمر سوءًا مع وقف استيراد قطع غيار السيارات، ضمن ما أوقفت السلطة استيراده لتوفير الدولار بغية تسديد الديون المتراكمة. وكذلك رفع قيمة مخالفات المرور، لا سيما مع تمكن الحكومة من توسيع وسائل الرقابة، بتركيب كاميرات في كل الشوارع والميادين، ترصد كل صغيرة وكبيرة، ولا تغادر من المخالفات شيئًا.
يقابَل هذا بعجز وسائل النقل العام عن استيعاب كل الراغبين في التنقل، لا سيما في الصباح الباكر، حيث الهابطين من بيوتهم إلى أماكن عملهم، أو في وقدة الظهيرة حيث يعودون. ففي مثل هذا التوقيت تمر بك مكتظة عن آخرها الباصات والقطارات الرخيصة الآتية من الصعيد والدلتا بمن يعملون في القاهرة، أو يقصدونها لقضاء خدمات في المصالح الحكومية المركزية.
ولأن أغلبية السكان يرتادون وسائل النقل العام، فقد حُفر وجودها عميقًا في سمات المجتمع المصري، حيث ولدت ظواهر ليست خافية على أحد، ومنها:
1 ـ البطء، فالباصات عليها التوقف في المحطات المتتابعة، والميكروباصات يصطاد سائقوها زبائنهم من قلب الشوارع، وقطارات الدرجة الثالثة عليها أن تفسح الطريق للقطارات الفارهة كي تمر سريعًا. وأدى هذا إلى ضياع كثير من أوقات المصريين في التنقل، ما يخصم من ساعات العمل أو الراحة، التي يجب على كل إنسان أن ينال قسطًا منها، حتى يمكنه مواصلة حياته.
2 ـ التحرش، وهي ظاهرة ممقوتة، يجد مرتكبوها مبتغاهم في وسائل النقل المكتظة، التي تخلق للعابثين فرصًا سانحة لمضايقة النساء، اللائي لا يجدن أحيانًا مهربًا منها في ظل التصاق الأجساد، واختلاط العرق والأنفاس.
ومن قبل كان الرجال، وخصوصًا الشباب، يتسمون بالمروءة فإن وجد الجالس منهم امرأة أو فتاة واقفة، يخلي لها مكانه على الفور. أما اليوم فإن هذا السلوك يتراجع، إما استجابة للأثرة التي يتسم بها مجتمع التكالب والندرة، أو اقتناع بعض الناس بأن المرأة مكانها البيت، أو ضرورة أن تلتزم بالاحتشام وفق تصور ديني أو تقاليد اجتماعية.
وهناك من يتوهمون أن المرأة الواقفة في زحام المواصلات العامة تسعى بالضرورة إلى من يتحرش بها. وسمعت ذات يوم امرأة تشكو من متحرش في باص مكتظ عن آخره، فقال لها بكل بجاحة: إذا لم يعجبك هذا انزلي واركبي تاكسي.
يحدث ذلك في مجتمع يستعيد بعض عقلائه والمتمسكين بالأخلاق فيه ما نشرته إحدى الصحف المصرية في أربعينيات القرن العشرين، حين قالت "هذا الذئب البشري، الذي اقترب من امرأة لا يعرفها، عند محطة الباصات، وقال لها بكل وقاحة: بونسوار يا هانم". كان المجتمع يعتبر مجرد إلقاء السلام على امرأة غريبة، جرحًا لخصوصيتها، فصار الآن ينتهك هذه الخصوصية ماديًا ومعنويًا، ويستمتع بعضه بهذا، ويرونه سلوكًا طبيعيًا، أو يجب التواطؤ معه.
وعلى هؤلاء أن يعانوا من كل شيء: الإنهاك الجسدي، والتحرش، وأذى النشالين، واستغلال المحصلين، والبطء الشديد
3 ـ الإنهاك الجسدي، فالمحشور في مواصلة عامة واقفًا، أو حتى جالسًا بطريقة غير مريحة، سيصاب بإنهاك بدني شديد، لا سيما إن طالت المسافة بين مكان صعوده ومكان نزوله. لهذا يعود كثير من الموظفين إلى بيوتهم في آخر النهار متعبين. وبمرور الوقت يعاني هؤلاء من إجهاد العضلات، فضلًا عن الضيق النفسي، ولذا يحتاجون إلى نيل قسط من الراحة، يخصم من الأوقات التي يقضونها مع أهلهم، والبعض منهم يذهب إلى مقر عمله مجهدًا، بما يؤثر سلبًا على إنتاجيته.
4 ـ استغلال سائقي سيارات الميكروباص خصوصًا، والذين يجدون في الفوضى وغياب القانون مبتغاهم. فبعض السائقين اعتادوا عدم الالتزام بالتعريفة المقررة، وبالمسافة المقدرة من قبل الحكومة، يحركهم في هذا طمعهم في جمع أكبر قدر من المال من جيوب الغلابة.
وشكا كثيرون من أن السائقين يأخذون الأجرة كاملة وينقصون المسافة المقررة، فيقسمون الشوارع الطويلة إلى مسافات، يفرغون في كل منها ما معهم من ركاب، ليحتل غيرهم مكانهم، ويكون على النازلين أن يبحثوا عن وسيلة مواصلات إضافية، بما يحملهم ما هو فوق قدراتهم المالية.
السائقون غير الملتزمين باللوائح والقوانين يحتمون بالجرأة والغلظة، وبعضهم يتكئ على ما يقدمه من رشاوى لرجال المرور. لكن الأفدح، وربما الأبرز، أن هناك من سيارات الميكروباص من يمتلكها أمناء شرطة مرور، أو يشاركون في امتلاكها، وبالتالي يجد سائقوها فرصًا سانحة لاستباحة الركاب.
إلى جانب هذا، لا يلتزم سائقو تاكسيات الأجرة بالتعريفة المقررة، متذرعين أحيانًا بأنها ظالمة، مع ارتفاع أسعار الوقود أو قلة الزبائن أو المبلغ الكبير نسبيًا الذي على السائق أن يدفعه إلى صاحب السيارة. وهناك من يدعي أن عداد الأجرة معطل، وبالتالي يقدّر السائق الأجرة، التي يكون مبالغًا فيها غالبًا. ويتسبب هذا في مشاحنات بين الراكب والسائق، بعضها ينتهي في أقسام الشرطة.
5 ـ النشالون، وهؤلاء يجدون في المواصلات العامة المزدحمة فرصتهم، فيوزعون أنفسهم عليها، سواء كانوا يعملون فرادى أو يتبعون مؤسسات تحصل على ما يسرقونه في نهاية اليوم، وتمنحهم جزءا منه. ولهؤلاء مهارة فائقة في التقاط ما في جيوب الغلابة، الذين يكونوا لاهين في الزحام، لا يفكر أي منهم سوى في أن يجد موضعا لقدميه.
6 ـ التلوث، فكثير من سيارات الأجرة قديم، تنبعث من محركاتها عوادم سامة، لا تجد من يردها في ظل فوضى المرور أو تواطؤ بعض القائمين عليه، لأسباب شتى. كما يطلق كثير من هؤلاء السائقين تلوثًا سمعيًا إما بشحط وشحر سياراتهم المتهالكة، أو إدمان الضغط على الكلاكسات. ما يجعل شوارع المدن، لا سيما في ساعات الذورة، غارقة في الضجيج.
وهناك من هؤلاء من لا يلتزم بآداب الطريق، فيسهم في تكريس الزحام، عبر الوقوف في منتصف الشوارع لاصطياد الركاب، في ظل عدم وجود أماكن للركوب والنزول، كما هو متبع في المدن المخططة جيدًا.
وما زاد الأمر سوءًا هو التكاتك التي حولت الشوارع الخلفية إلى جحيم. فكثير من سائقيها من الأطفال والمراهقين، بعضهم لا يجيد مهارة قيادة أي مركبة، معتمدا في هذا على أن الأماكن التي يسير فيها تفتقد إلى انتظام الرقابة المرورية. ويختلط بهؤلاء سائقو الدراجات والموتوسكيلات، الذين يقطعون الشوارع أثناء سيرهم طولا وعرضا بحثًا عن أي مخرج من الزحام، فيزيدون منه، وكذلك من الجلبة والتلوث.
تنطبق هذه المظاهر السلبية على قطارات الدرجة الثالثة، أو ما يطلق عليه المصريون القشاش، الذي يتوقف في محطات القرى المتتابعة على شريط السكة الحديد، وكذلك على مترو الأنفاق في ساعات الذروة. فهؤلاء المحشورون في قلب عربات القطار الحديدية الصدئة أو المتهالكة، يعانون من حر الصيف، دون مكيفات. وفي الشتاء يضربهم الهواء البارد المتدفق من نوافذ مهشمة. بعض هؤلاء يجلسون على مقاعد خشبية غير مريحة، وأغلبهم يقضون المسافة واقفين على أقدامهم، ومنهم من يصعد إلى الأرفف المخصصة لوضع الحقائب والأمتعة ويتخذ منها مجلسًا.
وعلى هؤلاء أن يعانوا من كل شيء: الإنهاك الجسدي، والتحرش، وأذى النشالين، واستغلال المحصلين، والبطء الشديد.