في يوم 9 مارس/آذار 2021، تزامنًا مع يوم المرأة العالمي، انتشر على السوشيال ميديا فيديو يرصد رجلًا يعتدي جنسيًا على فتاة لا تتعدى التسع سنوات، تمنعه امرأة خرجت من إحدى شقق العمارة، بعدما رأته في كاميرا مراقبة تابعة لمعمل التحاليل الذي تعمل به.
لولا كاميرا المراقبة لما نَجت الصغيرة، ولا وُجهت أصابع الاتهام إلى الجاني بصراحة. وهو ما يدفعنا للسؤال: هل يمكن تلافي وتفادي بعض هذه الاعتداءات الجنسية من خلال التصميم المعماري والعمراني للبنايات وما حولها من أرصفة محيطة ومداخل البنايات، وأماكن التنقل، سواء المصاعد أو السلالم؟
كامرأة تنقلت في عدد من بنايات القاهرة والجيزة، أرصد هنا تجربتي الشخصية، في دراسة لحركتي في كل منها وما مثلته من خطورة على جسدي أو وفرته من عوامل أمان، وكيف تشكلت حركتي بالمكان وفقًا لتصميمات المباني؟
حركة آمنة
لا تحتوي نصوص كود البناء المصري على أي إلزامات للمصممين العمرانيين والمعمارين تراعي النوع الاجتماعي، وعليه لا توجد معايير أمان تصميمية لأجساد النساء.
كما أن عدم إتاحة الإنارة في المباني وما حولها تشكل خطرًا على أجساد الأطفال والنساء في الحركة.
تتحرك الجموع يوميًا في حركة شبه تلقائية روتينية لقضاء احتياجاتهم في الأغلب بين وجهتين أساسيتين، هما المنزل والعمل. لكن ماذا يعني أن تكون هذه الحركة والمسافة مشقة هائلة على بعض الأشخاص؟ ماذا يعني أن تعاني بعض الأجساد في المسافة القصيرة ما بين وحدتهم السكنية، حتى السلم، ومن السلم إلى مدخل البناية، ومن مدخل البناية حتى المركبة التي يستقلونها؟
لا توجد معايير أمان تصميمية لأجساد النساء
وُضعت أكواد التصميم المعمارية عالميًا بناءً على أبعاد جسم الإنسان، عرض الجسم يتراوح بين 50 إلى 60 سنتيمترًا، وعليه فأي تصميم لأي ممر يجب ألا يقل عن 60 سنتيمترًا، أما الممرات بعرض 90 سنتيمترًا فتسمح بمرور شخص كامل وآخر بجانبه، وعليهما تفادي أحدهما الآخر.
يُصمم المكان بالأساس طبقًا لطبيعة النشاطات القائمة فيه. يقول عالم الاجتماع والفيلسوف هنري لوفيفر في كتابه 1974 The Production of Space إن إنتاج المكان يعتمد بالأساس على العلاقات والنشاطات الاجتماعية التي تقوم فيه، وهي ما تُنتج المجتمع، ثم يربط علاقات المكان بالمجتمع بالنظام الاقتصادي الاجتماعي للرأسمالية، ويشرح كيف ترتبط حركة الناس في الأماكن العمرانية بحركة الرأسمالية في العالم.
بناء على طرحه، لم يعد البناء المعماري والعمراني ينفصل عن حياة الناس واحتياجاتهم اليومية. لم يعد الجغرافيون يفصلون بين تحليل التصميمات العمرانية والمعمارية وإنتاجها وبين حركة الاقتصاد في العالم. المستشفيات والمحاكم والمدارس والسجون هي مبانٍ ذات طبيعة محددة للاستخدام اليومي، وعليه تصميماتها تحتوي عوامل وظيفية غاية في الأهمية حتى ينجح بناؤها ووظيفتها، على عكس المتاحف، التي توجد بها مساحة حرية أكبر لأن وظيفتها الأساسية هي التعاطي مع الإبداع.
تصميمات خطرة
لكن ماذا عن العمارات السكنية؟ خلال وجودي بالقاهرة تنقلت في حركتي اليومية بين عمارات في الهرم، المنيرة، المقطم، الدقي، وغيرها من أحياء القاهرة الكبرى. لكل منها تصميم يختلف عن الآخر، ويؤثر على حركتنا وأماننا الشخصي. أقصد بالأمان الشخصي؛ الأمان الجسدي حسب النوع الاجتماعي للشخص، سواء رجلًا أو امرأة، سواء طفلًا أو طفلة. تقع المخاطر على الأجساد أيًا كان نوعها، وتختلف المخاطر تبعًا لأنواع العنف التي ترتبط بالضرورة بالنوع الاجتماعي.
من خلال جداول مقسمة حسب الأحياء، حللت تصميمات البنايات المختلفة، التي تنقلت بينها في الفترة من 1984 حتى 2020. أتاحت تصميمات العديد من البنايات نوعًا ما من الأمان في الحركة، وبعضها لم يحققه بالمرة، ما زاد العبء النفسي اليومي في التعامل مع هذه المساحات.
فيما كان بعضها سيئًا لدرجة تعرضي فيها لمخاطر على جسدي وحياتي في فترات مختلفة. وبعضها قررت عدم دخوله مرة أخرى في حياتي.
عام 1905، كانت توجد 110 مركبات في القاهرة، بينما في عام 2016 ارتفعت هذه الإحصائية إلى 3.5 مليون مركبة. في 1905 كان تعداد سكان العاصمة حوالي 400 ألف شخص، بينما في 2016 وصل إلى 21 مليونًا.
حركة الملايين داخل المباني واجبة ويومية، وتتضمن فعل المشي للتنقل بين عدد من الأماكن، من وحداتهم السكنية إلى المواصلات العامة أو إلى سياراتهم الخاصة.
الحركة التي أتناولها في تحليلي تخص ثلاثة مستويات: الأول، الحركة من باب الوحدة السكنية في مسار توزيعي للوصول للسلالم أو باب المصعد. الثاني، من المصعد أو نهاية السلم، وحتى مدخل البناية نفسها. الثالث، الحركة من مدخل البناية وحتى المواصلات العامة أو السيارات الخاصة في الشارع أو مدخل الجراج.
مستوى الحركة داخل البناية السكنية يندرج تحت تحليل التصميم المعماري، وهو تخصص المهندسين المعماريين، أما المستوى الثالث فهو حركة في المنطقة الجغرافية الأكبر والأعم، وهي تخصص المصممين الحضريين، أو المخططين العمرانيين حسب تقسيم مهام وأدوار العمل في مشاريع التخطيط العمراني.
خريطة الحركة في البناية
لا يفكر المصممون في حركة الناس داخل معظم البنايات، أو جميعها تقريبًا، ولا يضعون اعتبارات أمان خاصة للنساء أو الأطفال، إذ يتحكم في تصميماتهم رأس المال والاحتياجات الوظيفية لإنتاج أكبر عدد من الوحدات السكنية والتجارية في المبنى.
ومع انعدام دراسات الأمان وكمية الإضاءة، ومسارات الحركة داخل المبنى، نجد العديد من المباني بها التواءات في مسارات الحركة، بحيث لا يمكن رؤية المصعد أو السلالم كوحدة انتقال رأسية بسهولة، كما توجد العديد من الانعطافات داخل مسار الحركة وهو ما يمثل خطورة ناتجة عن اختباء أشخاص في هذه المنعطفات، أو استدراجهم أطفالًا والاختباء فيها في حال سماع أصوات آخرين قادمين.
العوامل المؤثرة على حركة النساء
توجد 3 عوامل رئيسية تؤثر على حركة النساء وأمانهن ما بين المستويات الثلاثة للحركة العمرانية والمعمارية، وهي أولًا، تصميم مسار الحركة نفسه، ثانيًا كمية ونوع الإضاءة الموجودة بهذه المسارات، وأخيرًا، الجيران وشخوصهم.
مسارات الحركة
يبدأ المعمارون والمعماريات تصميماتهم للمباني بتحديد ما يسمي بمسار الحركة الرأسي أولًا، وفراغات التوزيع، هو ما نطلق عليه في العامية المصرية "منور السلم، وبسطة السلم" إضافة إلى مدخل البناية، وهي فراغات رئيسية للتوزيع ويتحدد بناء عليها أماكن الخدمات، وعلى أساسها توزع أماكن الوحدات السكنية "أو الشقق" داخل مسطح البناء المسموح به على قطعة الأرض.
المُعطى الرئيسي الوحيد هو شكل ومساحة قطعة الأرض، ووفقًا لقانون البناء وما يحدده من عدد الأمتار المتروكة فضاء في محيط الأرض، تتحدد مساحة المسطح المبني. ثم حسب قانون الأحجام، وعرض الشارع، تُحدد عدد الأدوار التي يمكن بناؤها.
حسب قانون السوق، المصمم الأكفأ هو الأقدر على تقليل مساحات مسارات الحركة قدر الإمكان. فهي مساحة غير مباعة، تُحمّل تكاليفها على الوحدات السكنية بالمبنى. والأكثر كفاءة هو من يستغل كل متر مسطح في الوحدات السكنية نفسها، وهو ما يستخدم في تحديد سعر الوحدات.
كمية ونوع الإضاءة الموجودة بمسارات الحركة يؤثران على أمان النساء
نلاحظ هذه الفروق في تصميمات العمارات السكنية في القرن التاسع عشر، وحتى أربعينيات القرن العشرين، إذ كانت تحتوي تصميماتها على سلالم واسعة، ومساحات كبيرة أمام الشقق السكنية، وهو ما كان يمنح الأطفال مساحات للعب داخل البناية دون الخروج منها.
اختلفت التصميمات منذ الخمسينيات، ومع ارتفاع عدد السكان في جميع المدن بالعالم. وتطور الرأسمالية العمرانية، والبناء الرأسي واكتشاف التكنولوجيات البنائية لتطويره، اختفت المسطحات الشاسعة أمام الوحدات السكنية وفي مداخل العمارات، وفي مساحات التوزيع بين الوحدات السكنية.
لا أحاول هنا نقد التصميمات الحديثة أو القديمة، ما يهمني هو عامل الأمان، الذي لا يتوقف بالضرورة على مدى وسع مسارات الحركة أو ضيقها، ولكن على مساحات وزوايا الرؤية.
هل يحمل التصميم التواءات وطرقات متعامدة على بعضها البعض، بما يحجب الرؤية أثناء السير في اتجاه سلالم البناية؟ أو عند الخروج من باب الوحدة السكنية؟ هل نستطيع رؤية السلم أو المصعد دون ثنايا أو زوايا تسمح بالاختباء فيها.
فتح المسطحات لتكون فراغات ذات أشكال هندسية واضحة، سواء مربعات أو متوازيات مستطيلات في تصميمها الحجمي هو الفيصل، بحيث لا تحتوي مثلثات أو زوايا، تجعل إحدى الوحدات السكنية معزولة بعد ممر طويل وحيد، يقلل من وجود السكان فيه، ما يسهل حدوث اعتداءات.
وعليه، نلاحظ في الجدول المرفق تقييم التصميم لمسار الحركة معتمدًا أساسًا على انفتاح زوايا الرؤية، لجعل الشخص الذي يتحرك بها قادرًا على رؤية كل من حوله، ولا يفاجئ بأشخاص مستترين في زوايا غير مرئية، سواء في المستوى الأول أو الثاني. كما يوضح تقييم المستوى الثالث في التحليل، الذي يخص تصميم الشارع وعلاقته بمدخل البناية والحركة منها، وحتى الوصول للمواصلات العامة في أقرب شارع رئيسي.
الإضاءة
تعتبر الإضاءة الموجودة في كل مسارات الحركة عامل أمان أساسيًا يتطلب العناية من المصممين.
مع وجود المصاعد، تُهمل السلالم في التصميم، إذ اختفت الشبابيك التي تمنحها إضاءة طبيعية خاصة في الأدوار السفلية التي يعتمد سكانها على السلالم في حركتهم.
ما يجعل الإضاءة تعتمد على شبكات الإنارة، التي تعتمد كذلك على مصمم واعٍ لأماكن النور، لتغطي جميع مسارات الحركة بالمبنى.
العامل الأهم في الإضاءة هو إدارة البناية نفسها والقائمون على الصيانة، والحرص على تغيير وحدات الإنارة باستمرار والتأكد من عملها. أو الاتفاق على تقسيم الأدوار، لكل طابق شخص مسؤول عن الإنارة، مع تقسيم تكلفة هذه الخدمات.
يجب التأكد من عمل نظام الإنارة قبل غروب الشمس، والتأكد من إغلاقها بعد الشروق في الأماكن التي تصلها إنارة طبيعية.
تعتمد العديد من البنايات على نظام الأكباس الكهربائية التي تعمل لدقيقة أو اثنتين ثم تفصل أوتوماتيكيًا، لتوفير الكهرباء، غير أنها لا توفر الأمان لأجساد النساء والأطفال، لأنها عادة ما تتعطل في عدد من الأدوار، ويتم الخلط بين مفاتيحها ومفاتيح أجراس أبواب الوحدات السكنية. ولهذا يفضل استخدام إنارة تعمل طوال ساعات احتياجها ولا تفصل أو يتم تعطيلها، لتمنح الأمان والراحة في الحركة ومساراتها المختلفة.
يكشف الجدول المرفق تقييم كمية الإضاءة الموجودة في فراغات مسارات الحركة في الثلاثة مستويات من التحليل.
الجيران
العامل الأخير وهو عامل مركب لأنه لا يعتمد على قوانين صريحة؛ هو الجيران. في مجتمع تحكمه الثقافة الذكورية، تفرض الجماعة قيمها الأبوية على النساء في محيطها بما يؤثر على أمان النساء في السكن.
يتقاطع ذلك مع البعد العمراني والمعماري، من حيث وجوب إدراج حق النساء في تأمين وحداتهن السكنية ضمن الأكواد التصميمية للمباني، من حيث الإضاءة وتوفير زر أمان في حال التعرض للخطر.
تفرض الجيرة على النساء خطرًا دائمًا نابعًا من السطوة الذكورية، قد تأتي من جار ذي نفوذ، أو المالك الذي يتعامل مع المستأجرين من منظور طبقي باعتبارهم فئة أقل.
يتضمن هذا التحكم التحقيق وراء الساكنات من النساء؛ للتأكد من مهنهن الشخصية، وكيف يكسبن قوتهن، لضمان مستوى معيشي بالبناية لا يخل بـ"قيم الأسرة المصرية".
قد يصل الأمر لحد الإبلاغ الأمني أو الشرطي عن أشخاص بسبب نمط حياتهم، رغم عدم مخالفتهم للقانون. فضلًا عن استخدام القوة الجسدية في طرد أشخاص من وحداتهم السكنية واتهامهم بالفجور أو الإخلال بقواعد الاحترام والحياة العامة بدعوى إن "دي عمارة محترمة"، وقد يقتضي هذا الاحترام منع الرجال والنساء من العيش في وحداتهم بمفردهم.
لا يمكن قياس العامل المجتمعي، لهذا لم أضعه في الجدول، لكن لا يمكن إغفاله نظرًا لأهميته. وربما يساهم ذكره في تغيير قوانين البناء المصري، بحيث تنص على مراعاة من يعيشون بمفردهم، وحقهم في السكن في بنايات مصممة للعائلات. معركة تحتاج الكثير من التغييرات في مسلمات وثقافة الأسر المصرية وعاداتها، لكنها لا بد أن تبدأ.
خاصة وأنه تم تغيير أكواد البناء في العالم لتمكين ذوي الإعاقة من استخدام المباني، سواء بمنحدرات للكراسي المتحركة، أو مساند حديدية أو خشبية للاتكاء عليها. يتضمن هذا أيضًا جميع كبار السن، الذين يحتاجون مساعدة في حركتهم. كما تم إضافة وحدات إنارة تضيء تباعًا في محطات القطارات في بعض مدن العالم، لتنبيه الصم أن القطار قادم.
كما تم تغيير كود البناء العالمي في 2018 ليتضمن أهمية وجود دورات مياه عامة لغير المعرفين جندريًا، سواء ظهروا بأجسادهم للعامة كسيدات أو رجال. ولا يخص الأمر العابرين والعابرات جنسيًا فقط، ولكنه يشمل من لا يريد الوجود في مساحات معرفة لنوع اجتماعي (جندري) واحد. وهو ما يزيد الأمل في أن يتغير الكود المصري للبناء لزيادة مساحة الأمان في بلد تنتشر فيه الاعتداءات الجنسية والتحرشات بأجساد النساء والأطفال يوميًا.