يملأ الأسى رؤوس كثير من المصريين، فيتساءلون وهم يغالبون الهموم الثقيلة: في أي عهد نعيش؟ هل قدرنا أننا كلما شبَّت أعناقنا وجدت من يدفع فوقها صخرة ضخمة فيردها إلى أسفل؟ وكلما مددنا أنوفنا لتستنشق هواءً نظيفًا هاجمتنا ريح عفنة أو سامة؟ هل نحن وحدنا من يُفعل بنا هذا أم أن هذا يجري في كل مكان؟ وإلى متى تستمر هذه المعادلة النكدة التي احتارت لفهمها الأذهان؟
ابتداءً، يختلف المؤرخون بشأن تقدير مسارات التاريخ. فهناك من يراه يتقدم إلى الأمام في خط مستقيم، ليرتقي البشر تباعًا في الفكر والتجربة، لتتغير أحوالهم الذهنية والمعيشية إلى الأفضل دومًا. وهناك من يراه يدور في دائرة مغلقة، فما أن يتقدم بالناس إلى الأمام ليبلغ أعلى نقطة في محيط الدائرة حتى يبدأ رحلة التراجع نحو الأسفل، ليهبط إلى أدنى نقطة في هذا المحيط، ثم يعاود الصعود، وهكذا دون توقف.
ويوجد من يرى التاريخ يدور بشكل حلزوني، فهو يرتفع بالناس وينخفض ثم يعاود الصعود، لكن كل صعود تتسع مساحته، أو تنفسح أرجاء شبه دائرته كما نرى في الزنبرك متصاعد الحلقات. ولا يمنع هذا من وجود شكل رابع هو الصعود الفجائي، أو في زمن يسير، ثم الهبوط السريع، بفعل حرب أو كارثة طبيعية أو وباء، أو لعدم تجذر قيم التقدم في البنية الاجتماعية.
هذه الدورات الحياتية تمر بها المجتمعات، حتى التي ارتقت في الإنتاج واحترام الحريات. وليست المحنة التي تمر بها الديمقراطية الغربية في الوقت الراهن ببعيدة عن الأذهان. وليس التشاؤم الذي يسكن رؤوس بعض المفكرين والفلاسفة من عودة البشر إلى التوحش بخافية على الأفهام.
دورات منعرج التاريخ
طبيعي أنَّ المجتمع المصري جرب كل ذلك عبر تاريخه الطويل، فمر بدورات صعود وهبوط لا تكاد تنتهي، ونراها تتجدد حاليًا أمام أعيننا، فمن ثورة نادت بالحرية والكرامة والعدالة والكفاية إلى استبداد قاس، يرى كلَّ هذا هراءً، ويضغط على أعصاب وأفهام وأبدان المصريين بلا رحمة.
تقتصر هذه القفزات على البنية العليا للدولة دون أن تتسرب إلى أوصال المجتمع
إنَّا إن تتبعنا، على سبيل المثال، مسارات ثلاثة عن الاحتجاج ضد الظلم والعسف، ونمط الملكية الخاصة، والدور الإقليمي لمصر، سنرى كيف مضت هذه المسارات متقلبة بين علو وانكسار، قامت بينهما دومًا محاولات للتمكن، أو استسلام مترنح، حتى صار اصطلاح "منعرج التاريخ" من المصطلحات الرائجة في الأدبيات المصرية.
إن لفظ المنعرج هنا يبين إدراك الناس لسير تاريخنا الاجتماعي؛ ليس خطًا متعرجًا بالضرورة، إنما تعبيرًا عن الدهاليز التي يدخلها على مر القرون، ليستقر فيها حينًا من الدهر، حتى يظن الناس أن الحال ستدوم بلا تغيير، وقد يكون هذا نابعًا من الوعي بأن التغيير الذي يتم عبر الأجيال، يأتي بطيئًا بحيث لا يراه إلا من يدقق جيدًا، فيدرك إن كان هناك تقدم أو تأخر بطيئين، أو ركود في المكان.
ومسار الاحتجاج السافر يطفو على السطح بشكل مفاجئ لكنه لا يستمر طويلًا، إنما يبدو الاستثناء في تاريخ اجتماعي طويل. أما الاحتجاج المكتوم، الذي يكون في الغالب الأعم شكلًا من أشكال المقاومة بالحيلة أو الصمت، فله باع طويل على ضفاف النيل، وقد يظل زمنًا دون أن يجد له متنفسًا. ومن ثم يعلو الاحتجاج إلى الذرا، وتحلق أحلام التغيير بأجنحة عفية، ثم تخمد كأن لم تكن، ليجد التسلط فرصته في استعادة زمام الأمور بيد حديدية.
ومسار الملكية الخاصة وإن عرف طريقه في أواخر عصر المماليك الجراكسة، فإنه لم يلبث أن تبدد مع نظام الالتزام الذي فرضه العثمانيون، ليتحول الفلاحون إلى مجرد أجراء يكدحون في الأرض مقابل ما يقيم أودهم، ولو بنصف بطن.
وإذا كان الالتزام؛ وزع أرض مصر على مجموعة من الملتزمين يبطشون بالفلاحين لحساب الوالي العثماني، الذي يكدس الخراج ويرسله إلى الباب العالي، فإن أرض مصر عادت كلها في يد شخص واحد هو محمد علي باشا، ليبقى كل من يزرع مجرد منتفع عليه أن يدفع الضرائب للوالي. ثم أقدم الباشا على توزيع الأرض على ملتزمين جدد، حتى لو لم يحملوا الاسم نفسه، وأنعم على البعض بالجفالك والوسيات، ليظل الفلاح المصري مجرد أجير.
وفي عهد الوالي سعيد باشا عرفت مصر شكلًا من أشكال الملكيات الخاصة، وإن كانت في يد القلة. ولم يتغير الأمر كثيرا مع الاحتلال الإنجليزي.
وبينما وزع عبد الناصر الأرض على الفلاحين، وبدأ الإصلاح الزراعي، فإنه أصدر قانونًا صارت أغلب الأرض بمقتضاه في يد القوات المسلحة، حيث لا تقوم ملكية أرض جديدة مستصلحة إلا بموافقتها. وفي عهد حسني مبارك بات على الفلاحين الذي وزعت عليهم الأرض وفق نظام الانتفاع، خصوصًا أيام السادات، أن يدفعوا أثمانها في سبيل تملكها.
مجتمع بلا مناعة
أما مسار تمدد نفوذ مصر إقليميًا وانحساره، فظل يحدث على مدار القرون. بعض سلاطين مصر وحكامها قويت شوكتهم، فمدوا يدهم إلى مجال حيوي في الشرق والشمال خصوصًا، لكن الضعف لم يلبث أن سرى في أوصال الدولة المصرية، فتراجع نفوذها وانحسرت أراضيها وتراجعت هيبتها في نفوس أهل الجوار.
وبين هذه المسارات تقوى الجماعة الوطنية ثم تضعف، وتقيد الإرادات الفردية التي شهدت نوعا من التحرير النسبي، وتبدأ رحلة تراجع على محيط الدائرة التاريخية أو خطها، فيدب اليأس في النفوس من جديد، ويشتعل فيها الحنين إلى الماضي، فيما تظل قلة متطلعة إلى الخروج من النفق الاجتماعي المظلم، تجاهد بضراوة في سبيل التقدم بالمجتمع إلى الأمام مرة أخرى.
حالة من التأرجح الطويل بين تقدم وتأخر، عزة وذل، حرية وإكراه. تركد زمنًا ثم تنفلت إلى الأمام، فتنتعش الآمال في التغيير، لكنها سرعان ما تجد كثيرًا من العوامل التي تصدها وتردها إلى الخلف، قد تتجسد في استبداد وطغيان، أو نهب وفساد، وجهل بمهمة مصر التاريخية ودورها.
لكن ما لا يخفى على كل عقل فهيم يكون واعيًا بالدورات التي مر بها مجتمعنا، أن قوة الدولة المصرية تهبط في بعض الأوقات إلى أسفل سافلين، ويتحدث أهلها عن عهود الانحطاط والهوان، ثم لا تلبث أن تقفز إلى الأمام في زمن يسير، فتحوز بأسًا بعد تراخٍ، حين تجد حاكمًا صاحب رؤية أو مشروع، تلتف حوله نخبة مخلصة له أو للبلاد، أو لهما معًا.
المشكلة التي واجهتنا دائمًا أن هذه القفزة تقتصر على البنية العليا للدولة، متمثلة في قوتها العسكرية أو الاقتصادية، لسبب أو آخر، وما يحول دون استمرارها زمنا طويلًا، أنها لا تتسرب إلى أوصال المجتمع، فتخلق القوى الاجتماعية المنظمة، وتصنع الهيئات أو التنظيمات والمؤسسات التي تدافع عنها، وبالتالي تمتلك مناعة في مواجهة أسباب عودة العجلة إلى الوراء.
وما أود لفت الانتباه إليه في هذا المقام، أن هذا التراجع ليس مبررًا لأولئك الذين ينظرون في استخفاف لكل الذين يطالبون بحياة حرة وكريمة، الآن وهنا، إنما هو إدانة لهم، لأن هؤلاء المستخفين أو المستهزئين لا يخرجون عن المستبدين والفاسدين وناشري الرذائل، الذين تؤدي أفعالهم السقيمة والسخيمة إلى جر عجلة التاريخ إلى الوراء، أو إسقاط الدفقات والدفعات، التي تبلغ ذروة الدائرة، إلى أسفل مرة أخرى.